يوسف القعيد
يوسف القعيد


يوميات الاخبار

البحيرة التى أنتمى إليها

يوسف القعيد

السبت، 01 أكتوبر 2022 - 07:23 م

 

أعتبر أن زيارتى لقبر أمى وأبى وإخوتى يشكلون الهمة فى رحلة العمر التى استطالت أكثر مما ينبغى

تواصلت معى الدكتورة نهال محمد على بلبع، والتى نعرفها بنهال بلبع فقط نائب محافظ البحيرة والقائم بعمل المحافظ. لأن المحافظ السابق هشام آمنة أصبح وزيراً للحكم المحلى بالتعديل الوزارى الأخير. ونتمنى له التوفيق فى عمله الجديد. فهو يأخذ عمله بجدية تامة.
أعود لموضوعى، نهال بلبع أبلغتنى أنهم يقيمون احتفالات البحيرة بعيدها القومى برشيد. وأن الأوبرا بقيادة الدكتور مجدى صابر أعدت برنامجاً جميلاً سيُقدَم فى رشيد. أحب البحيرة باعتبارها بلدى. وأعتبر أن السفر إليها عودة إلى الجذور والأهل والأحباب. وأعيش عند زيارتى لقريتى الضهرية مركز إيتاى البارود كأنها بعثٌ جديد. أبحث فيه عن الزاد والزوَّاد.


ومع حبى غير العادى لكل سكان الضهرية الآن، إلا أنى أعتبر أن زيارتى لقبر أمى وأبى وإخوتى يشكلون الهمة فى رحلة العمر التى استطالت أكثر مما ينبغى. ومع هذا لم أستطع السفر لزيارة رشيد. قمتُ إلى مكتبتى وأنا أقول لنفسى: ما لا يُدرك كله لا يُترك جميعه.
أحضرت كتاباً عنوانه طويل: روافد القوى الناعمة المصرية.. البحيرة فى القرن العشرين. للمثقف العصرى كامل مصطفى رحَّومة. والكتاب منشور فى الثقافة الجماهيرية فى سلسلة تعنى بنشر تاريخ مصر. يرأسها الدكتور كمال مُغيث. ويدير تحريرها إنتصار محمد.
ومؤلف الكتاب يُطلق على نفسه: عاشق دمنهور. وهو فعلاً أحد عُشَّاق البحيرة الذى لم يُفكِّر فى الهجرة منها كما فعلنا نحن جميعاً ولا الرحيل إلى القاهرة حيث المطابع والصحف والمسارح ودور السينما والأضواء البرَّاقة. ولا يتصور أحد أن الكلام عن القوة الناعمة «إنشا»، ولكنه كلام حقيقى. والبحيرة تعنى بالنسبة لىَّ الكثير.


ناصر وإسماعيل ياسين
فى إحدى جولات خالد الذكر جمال عبد الناصر «1918 – 1970» بدولة المغرب الشقيق، صاح مواطن مغربى لتحيته. وعندما سمحوا له بمصافحته قال لناصر أن يحمل تحياته إلى الممثل الكوميدى إسماعيل ياسين «1912 – 1972»، ومن يعُد لتلك الأيام يعرف أن الفن المصرى فى ذلك الزمان البعيد كان رسالة مصر التى تصل لأشقائنا فى الوطن العربى والعالم الإسلامى.
وهكذا كانت مصر بصورة أتمنى لها أن تعود مرة أخرى ونحن فى الطريق لاستعادتها. فقوة مصر الناعمة مسألة أساسية. وتقول مجلة أمريكية أن مصر وُصِفت بأنها القوى الناعمة فى الشرق الأوسط مشيرة إلى أنها الدولة التى يعيش فيها ملايين المصريين تُعد من أشهر الأمم. وهى مركز للكُتاب والرواد والفنانين والمثقفين الذين لعبوا دوراً أساسياً فى تشكيل المجتمع المصرى والتأثير فى السكان العرب بجميع أنحاء العالم.


وتؤكد الدكتورة هدى زكريا أن المصريين أول من استخدموا القوى الناعمة. وظهر ذلك فى معاملات التجار فى العصور الوسطى واستقبالهم للمشترين من الدول الأخرى والترحيب بهم. وفى عصر المماليك أُطلِق على التُجار المصريين أفضل تُجار. لطهارة لسانهم ولغتهم واختيار كلماتهم المُجاملة. ولقد أثرت قوة مصر الناعمة على مدى عقود ماضية. وأصبحت اللهجة المصرية من خلال الأفلام السينمائية هى اللهجة السائدة فى الوطن العربى. بل والأمة الإسلامية. وجذبت القوة الناعمة المصرية إفريقيا. بعد أن دعمها عبد الناصر من خلال فروعٍ فى مُعظم دول القارة لشركات كثيرة تُمدهم بكل ما يريدون من مقومات الحياة اليومية.


لدرجة أن شاعر العراق العظيم محمد مهدى الجواهرى قال: كل شىء يأتى إلى مصر يتمصر. حتى الطبيعة عندها تتمصر.
وقد قال هذا الكلام شعراً. وجمال حمدان يقول إن مصر كانت تتمتع بقوة امتصاص نادرة وحيوية تبتلع وتهضم بها معظم العناصر الوافدة. حتى تعيدها كأنها البوتقة فى الجسم الكبير. وبدلاً من أن يفرضوا شخصيتهم على مصر. كانت مصر هى التى تفرض شخصيتها على الجميع. وتُحولهم إلى جزءٍ منها.
صديق العُمر
بل إن توأم العُمر وصديق الروح جمال الغيطانى «1945 – 2015» كتب:
- لم تُصبح مصر فارسية أو رومانية أو عربية. بل طوَّعت الفُرس والرومان والعرب. فأصبح جميع هؤلاء مصريين. ذابوا فى المجتمع المصرى. وانصهرت ثقافتهم فى الثقافة المصرية. فأصبحت ثقافتهم تُشكل عناصر من الثقافة المصرية. ولم تُصبح الثقافة مصبوغة بالثقافات الواردة. بل إن الثقافة المصرية طوَّعت كثيراً من هذه العناصر الوافدة لظروفها وعناصرها هى.
وقد جاء كلام الغيطانى فى كتابه المُهم: مُنتهى الطلب إلى تراث العرب. الصادر سنة 2012 من دار الشروق. وأرجو منها أو من إحدى دور النشر الأخرى أن تُعيد طباعته من جديد.


وأشهد أن جمال الغيطانى سافر إلى دمنهور معى. بل وذهب إلى قريتى الضهرية، وتعرَّف على أهلى. وأقام عندنا أياماً. ورغم كل عشقه للقاهرة وكتاباته عنها خاصة القاهرة المملوكية. ورواياته الجميلة عن كل ما جرى فيها. إلا أنه كان صعيدياً مُخلصاً لصعيديته، ومرتبطاً بأبجديات الحياة فى صعيد مصر. وقد عبَّر عن ذلك فى بعض قصصه ورواياته المهمة.
العودة لدمنهور
فى دمنهور قابلت محمد عبد الحليم عبد الله «3 فبراير 1913 – 30 يونيو 1970» كُنتُ قد ذهبت إلى بيت الثقافة القديم فى دمنهور، الذى كان فى أول حى شُبرا لكى أُقدِّم لهم كتابى الأول: أمسيات قُرب قرية الضهرية. فقال لىَّ المسئول وكان المرحوم مصطفى البسيونى: إنهم الليلة عندهم ابن البحيرة عبد الحليم عبد الله فى لقاء مفتوح مع أهل دمنهور.
قررتُ فوراً المبيت بالمدينة. وحجزتُ فندُقاً. وذهبتُ إلى اللقاء ليلاً. وكان عبد الحليم عبد الله – يرحمه الله رحمة واسعة – أول أديب أراه رأى العين. وقد زرته كثيراً فى قريته كفر بولين مركز كوم حمادة بالبحيرة. وترددت عليه فى مكتبه بمجمع اللغة العربية حيث كان يعمل به.
علاوة على قراءتى لأعماله التى كانت بها مسحة رومانسية جميلة، ميزته عن غيره من كُتَّاب القصة والرواية فى ذلك الوقت. وإن كان قد ظُلِمَ كثيراً من نُقَّاد الأدب فى زمنه. وأعتقد أنه رحل عن دنيانا حزيناً مهموماً. فقد كان النقد الأدبى يُقدِّر كثيراً جداً الأعمال الواقعية وفهمه خطأً إحساسه الرومانسى الذى كان يُعبِّر عنه بطلاقة وحيوية وشاعرية.


محفوظ والبحيرة
قد لا يعرف كثيرون أن نجيب محفوظ ينتمى لعائلة فى رشيد. هى عائلة الباشا. واسم نجيب محفوظ مُركَّب، لكن اسمه بالكامل: نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم الباشا. وعائلة الباشا من عائلات رشيد القديمة. وأذكر أنه أتى إلىَّ فى أيام نجيب محفوظ الأخيرة أحدهم. يُريد أن يُقيم أواصر الصلة بنجيب محفوظ، وأن يدعوه لزيارة رشيد. فقلت له إن الرجل قليل السفر. يكفى أنه لم يسافر إلى ستوكهولم بالسويد لتسلم جائزة نوبل. وأوفد محمد سلماوى وابنتيه لتسلمها نيابة عنه.


وأشهد أن نجيب محفوظ عندما علم منى بخبر التواصل معى من رشيد أن أبدى استعداده بمجرد أن تتحسن حالته الصحية للسفر إليها. رغم نُدرة سفرياته فى حياته الطويلة. ولكن القضاء والقدر سبق تلبية هذه الرغبة. والبحيرة أنجبت العديد من أصحاب الأسماء الكبيرة. منهم المطرب كارم محمود، والفنان عبد العزيز مخيون. ابن مدينة أبو حُمُص. حيث توجد عائلة مخيون حتى الآن. وما إن نتقابل حتى يذكر كل منا آخر مرة ذهب فيها إلى البحيرة. وهو شديد الارتباط ببلده. ويعتبرها منبع موهبته الفيَّاضة. ويُحب أن يزورها فى أى وقت.
بلد الأدباء
عدد كبير من الأدباء الذين أثروا الحياة الثقافية المصرية يُمكن أن يُقال عنهم أنهم أبناء البحيرة: توفيق الحكيم. أحد مؤسسى الأدب المصرى الحديث. وصاحب الروايات والمسرحيات الجميلة والمذكرات الأكثر جمالاً. وعندما قابلته بالأهرام وقلتُ له أننى من البحيرة. تذكَّرها. وقال لى إنه من عزبة صغيرة كانت تقع بالقرب من دمنهور. ولكنها أصبحت الآن جزءاً من المدينة. وإن كان لم يُبدِ رغبة فى زيارتها. فتقدم الإنسان فى العمر يفرض عليه أموراً كثيرة فرضاً.


ومن أبناء البحيرة: أمين يوسف غُراب. الأديب والروائى الكبير. صاحب الرواية التى تحولت لفيلم يُعتبر من أمجاد السينما المصرية: شباب امرأة. وكان يعمل فى المجلس الأعلى لرعاية الفنون والأداب والعلوم الاجتماعية، الذى اسمه الآن: المجلس الأعلى للثقافة.
من أبناء البحيرة الذين حرصت على التعرف عليهم: عبد المنعم الصاوى، صاحب الرواية التى تحولت لمسلسل يُعتبر من أوائل مسلسلات التليفزيون المصرى، وكان عنوانه: الساقية. وقد كان من خمسة أجزاء. كُنا نجلس ننتظر عرضه. وينتمى لقرية قريبة من قريتى.
أيضاً فإن أحمد حمروش الذى كان صحفياً ومؤرخاً وروائياً ومديراً للمسرح القومى، ورئيساً لتحرير روزاليوسف، وقبل كل هذا وبعده كان أحد الضباط الأحرار. كنتُ عندما أقابله أقول له: بلدياتى. وكان يسعد جداً بهذا.

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة