محمد بركات
محمد بركات


محمد بركات يكتب: الإنسان المصرى.. ونصر أكتوبر

محمد بركات

الثلاثاء، 11 أكتوبر 2022 - 07:15 م

كانت المفاجأة الحقيقية فى ملحمة أكتوبر الخالدة هى قوة وصلابة المصريين، وقدرتهم على تحدى المستحيل ورفض الهزيمة، والإصرار على صناعة النصر واسترداد الكرامة وتحرير الأرض.

فى مثل هذه الأيام منذ تسعة وأربعين عاما، وفى نفس الشهر أكتوبر، كانت الدنيا غير الدنيا وكان العالم غير العالم، وكانت نيران الحرب ودماء الشهداء تعيد كتابة التاريخ فى هذه المنطقة، وتسطر بحروف من نور على ضوء وهج المعارك المشتعلة على الضفة الشرقية للقناة، قصة من أروع قصص البطولة لجيش مصر الباسل.
كان الجيش المصرى قد هب لاسترداد كرامته وتجاوز النكسة وغسل عار الهزيمة، وتطهير أرضه من دنس الاحتلال وإعادة سيناء إلى حضن الوطن بعد اغتراب دام لست سنوات طوال، مرت على مصر وشعبها وكأنها ستون عاما كئيبة ومظلمة.

ولكل الشباب من الأبناء الذين لم يعاصروا هذه الأيام المجيدة فى تاريخ الوطن، أقول إنها لم تكن حربا عادية، بل كانت بمثابة الزلزال الذى هز المنطقة والعالم، وأحدث متغيرات جسيمة فى الشرق الأوسط والمنطقة العربية، وما بعدها، وفرض على الجميع والقوى العظمى بالذات إعادة النظر فى أوضاع المنطقة وسياساتها تجاهها.

الأجيال الشابة
وللأبناء من الشباب أقول، إن الدلالة العظمى والمعنى الأكبر لنصر أكتوبر الذى تحقق فى مثل هذه الأيام من عام ١٩٧٣، هو قدرة الإنسان المصرى على تحدى المستحيل وكسر قواعد ومسلمات كثيرة كانت تؤكد عجزه عن الحركة بعد الهزيمة القاسية والمباغتة التى ألمت به عام ١٩٦٧.
تلك الهزيمة التى جعلت الجميع يتوقعون استسلامه الكامل لقدره ومصيره البائس، والذى يحتاج على الأقل لعقدين أو ثلاثة عقود من الزمن يلعق فيها جراحه، ويلملم أشلاءه ويجمع ذاته المبعثرة كى يستطيع النهوض مرة أخرى.

ولكن هذا الشعب وذلك الإنسان فاجأ الكل ونهض من كبوته فى بضع سنين لم تتجاوز الست، ليواجه عدوه ويصارعه وينتصر عليه، ويحطم أسطورة الجيش الذى لا يقهر ويحرر أرضه بعد ملحمة رائعة من القتال، سجل فيها تاريخا مجيدا للعسكرية المصرية.

من هنا فإن القول بأن الإنسان المصرى جنديا وضابطا وقائدا كان هو المفاجأة الحقيقية لحرب أكتوبر المجيدة هو القول الصحيح، وهو عين الصواب، وكبد الحقيقة، باعتراف وشهادة الأعداء قبل الأصدقاء.

سقوط الأوهام
وفى هذه الأيام التى نعيش فيها وقائع وأحداث تلك اللحظات الخالدة فى تاريخ مصر، مع إطلالة النصر فى أكتوبر بنوره الساطع عبر بوابات الزمن، نتذكر ما أحدثه فينا من متغيرات إيجابية بددت مرارة الألم ومشاعر الإحباط التى كانت تتملكنا، وأزاحت غيامات اليأس التى أعقبت ما جرى فى يونيو ١٩٦٧ خلال ظلمة النكسة ومرارة الهزيمة.
وعلى مر الزمن سيظل يوم النصر بشموخه الرائع يطل علينا فى كل عام من أكتوبر، كشاهد حى على صلابة مصر وشعبها وقوة إرادتها، وثقتها الكاملة فى قدرة أبنائها على حمايتها، واستعدادهم الدائم للدفاع عنها والتضحية بأرواحهم فى سبيل تطهير أرضها من كل معتدٍ يدنس ترابها الوطنى الطاهر.

ولذلك سيظل نصر أكتوبر يحتل مكانا فريدا فى تاريخ مصر والمصريىن وستظل هذه الأيام المجيدة تطل بنورها علينا كل عام، تلقى بأضوائها الكاشفة على عظمة مصر وحضارتها الضاربة فى عمق الزمن.

وسيظل زلزال أكتوبر الذى هز المنطقة والعالم لحظة انطلاق نسور مصر عابرين القناة، يدكون حصون العدو ويدمرون تحصيناته، ويسقطون غطرسة القوة وأوهام الجيش الذى لا يقهر،..، سيظل هذا الزلزال حيا فى ذاكرة وعقل الأعداء، وسيظل إنذارا وتحذيرا لكل من تسول له نفسه فى يوم ما المساس بحبة رمل واحدة من رمال مصر الغالية.

وهكذا ستبقى حرب أكتوبر المجيدة حاضرة فى أذهان الجميع، حية فى وجدان كل المصريين والعرب رغم مرور الأيام والسنين، وستظل تؤكد للكل فى المنطقة والعالم قدرة الشعب المصرى على العطاء بلا حدود، دفاعا عن أرضه وكرامته ورفضه التام لكل صور العدوان على وطنه، أو المساس بترابه الوطنى، وإصراره القاطع على الحفاظ على وحدة أراضيه، وعدم التفريط فى حبة رمل واحدة منها.

لحظات خالدة
وإذا كنا نحن من الجيل الذى كان فى عمر الشباب فى تلك اللحظات الخالدة، لانطلاق ملحمة العبور والنصر فى السادس من أكتوبر ١٩٧٣ وكنا ممن غمرهم نورها الساطع الذى بدد ظلمة النكسة وأزال الهزيمة، مع انطلاق النسور فى الضربة الجوية، وهدير المدافع التى دكت حصون العدو. ومع لحظة العبور العظيمة، ورفع علم مصر فوق دشم ونقاط العدو الحصينة، بطول خط بارليف المنيع، الذى تصوروا أنه يستعصى على السقوط فى يد جنود مصر البواسل.

فإن الواجب والمسئولية يفرضان علينا أن ننقل إلى الأبناء والأحفاد، من الشباب الذين لم يعاصروا هذه اللحظات الخالدة حقيقة ما جرى وما كان من أبطال مصر البواسل فى جيشنا البطل.
ومن حقهم علينا أن نذكر لهم الحقيقة، التى تؤكد أنه بالرغم من مرور تسعة وأربعين عاما على حرب التحرير والنصر، فإن خططها ومعاركها مازالت تدرس فى أكبر المعاهد العسكرية فى العالم، كواحدة من الحروب التى أدخلت العديد من المتغيرات فى أساليب القتال واستخدام السلاح، بما يستوجب الوقوف أمامها بالدرس، والتحليل واستخلاص العبر والنتائج.

ولابد أن نحيطهم علما بما اتفق عليه الخبراء العسكريون فى العالم، من أهمية التوقف بالدرس والفحص أمام مفاجأة حرب أكتوبر وخطة الخداع والتمويه، التى نفذت بمهارة أذهلت العالم كله، وأغمضت عين إسرائيل عن لحظة البدء بالحرب، حتى كانت صدمتهم الهائلة على زلزال الضربة الجوية وهدير المدافع المصرية، وعبور الجنود البواسل للقناة وسيطرتهم على خط بارليف الحصين.

ولابد أن ننقل إليهم أيضا كيف اتفق الخبراء العسكريون، على ضرورة الوقوف بالدراسة أمام قدرة المصريين على قهر هذا الخط المنيع وتدمير دشمه ونقاطه الحصينة، بعد عبورهم أكبر مانع مائى فى تاريخ الحروب، رغم ما أكده خبراء الحرب والقتال فى كل الدول الكبرى والعظمى، من استحالة تحقيق ذلك بكل الأسلحة التقليدية، وتأكيدهم أن الوسيلة الوحيدة لتحقيقه هى استخدام القنابل الذرية.

المفاجأة الحقيقية
وللأجيال الشابة من الأبناء والأحفاد الذين لم يعاصروا هذه الملحمة الخالدة، لابد أن نوضح بجلاء أنه من الخطأ الفادح أن يتصور البعض أن السادس من أكتوبر ١٩٧٣ كان مجرد حدث إقليمى ضخم أحدث متغيرات عديدة وجسيمة فى الشرق الأوسط والعالم العربى فقط،..، كما أنه من الخطأ أيضا أن يقتصر البعض الآخر فى فهمه وتقديره لنصر أكتوبر، على أنه فقط زلزال قوى هز إسرائيل وأدهش العالم وفرض على الكل إعادة النظر فى أوضاع المنطقة ومشاكلها.

ولكن الحقيقة التى يجب التأكيد عليها، أن ما حدث فى السادس من أكتوبر كان فى جوهره وتأثيره ودلالته، أكبر وأشمل من كل ذلك وأبعد أثرا، وأنه رغم ضخامة الحدث وقوة الزلزال، وعلى الرغم من التداعيات المتسارعة والمتتالية التى نجمت عنه، وقلبت الموازين وغيرت الثوابت بالمنطقة كلها، إلا أن المفاجأة الحقيقية فى كل ذلك ومن قبله وبعده كانت ولاتزال، هى قوة وصلابة الإنسان المصرى وحبه الهائل وغير المحدود لوطنه، واستعداده الكامل للدفاع عن ترابه الوطنى وتقديم روحه فداء لكل حبة رمل من أرضه الطاهرة.

نعم نقول لهم بكل الوضوح، والصراحة والشفافية، لقد كانت الدلالة العظمى والمعنى الأكبر فى نصر أكتوبر، هى القدرة غير العادية للإنسان المصرى على تحدى المستحيل، وكسر قواعد ومسلمات كثيرة كانت تؤكد عجزه عن الحركة بعد الهزيمة القاسية والمباغتة، التى ألمت به فى عام ١٩٧٦ والتى جعلت الكثيرين يتوقعون استسلامه الكامل لقدره ومصيره، ويؤكدون حاجته إلى عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن يلعق فيها جراحه ويلملم أشلاءه، ويجمع ذاته، حتى يستطيع النهوض مرة أخرى.

ولكن ذلك لم يحدث وخاب هذا التوقع جملة وتفصيلا، وإذا بأبناء مصر ينهضون من كبوتهم فى بضع سنين لم تتجاوز الست سنوات ليواجهوا عدوهم ويصارعوه عقلا بعقل، وإرادة بإرادة وذراعا بذراع،..، وإذا بهم يحطمون روح الهزيمة ويودعون النكسة ويقهرون الجيش الذى قالوا عنه إنه لا يقهر، ويحررون أرضهم بعد ملحمة رائعة من القتال والحرب ويسجلون تاريخا مجيدا للعسكرية المصرية.

العبرة والدرس
ونقول للأجيال الشابة التى لم تعاصر ملحمة أكتوبر العظيمة، إنه بقدر ما كانت حرب أكتوبر ذات أهمية بالغة لمصر، فقد مثلت أيضا أهمية كبرى للأمة العربية كلها، ففى الوقت الذى حققت فيه لمصر شرف تحرير الأرض واسترداد الكرامة، فقد أكدت للعرب أن أوقات الضعف ليست دائمة، وأن ظلام القهر وظلمة الهزيمة ليسا قدرا مكتوبا عليهم وليسا حكما أبديا على العرب.
وفى ذلك أثبتت حرب أكتوبر للعرب أن هناك دائما فجرا قادما فى الطريق، ولكن هذا الفجر لا يأتى صدفة ولا يهبط من فراغ، بل يحتاج إلى عمل وكفاح، وإعداد وتجهيز حتى يتحقق، ويحتاج إلى توحيد الصف ووحدة الهدف والتضحية فى سبيل تحقيقه.

ومن هنا فإن فى ملحمة أكتوبر الكثير من العبر والدرس التى تحتاج أمتنا العربية أن تأخذها مأخذ الجد، ولعل أبرزها على الإطلاق ضرورة رفض الاستسلام للواقع المر، الذى يحيط بعالمنا العربى من كل جانب ويكاد يغرقه فى أمواج من اليأس والضعف، ولابد من الإصرار على النهوض والصحوة العربية الشاملة، والأخذ بالأسباب لتغيير الواقع والانطلاق إلى الغد الأفضل بإذن الله.

وعلينا وعلى العرب جميعا الإدراك الواعى بأن نصر أكتوبر لم يكن حدثا مفردا منقطعا فى ذاته وغير قابل للتكرار، كما أنه لم يكن مجرد صدفة لا يجود بها الزمان إلا مرة واحدة،..، ولكنه جاء نتيجة طبيعية لجهد وعرق ودم وتضحيات فاقت كل تصور، وتحدت الواقع المر وأصرت على تغييره وتجاوز الهزيمة وتحقيق العبور والنصر.

العبور الجديد
والآن.. لعله من المهم القول بأن أمامنا معركة لا تقل فى الأهمية عن معركة أكتوبر العظيمة، وهى معركة العبور بمصر إلى الحداثة والتنمية الشاملة، وإقامة الدولة الجديدة، دولة مدنية قوية ديمقراطية حديثة تقوم على المواطنة والمساواة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وسيادة القانون. دولة تؤمن بروح أكتوبر العظيمة التى حققت العبور والتحرير والنصر.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة