علاء عبد الوهاب
علاء عبد الوهاب


يوميات الأخبار

من رحم ملحمة الاقتحام.. ينساب التاريخ حيًّا

علاء عبدالوهاب

الثلاثاء، 18 أكتوبر 2022 - 06:42 م

الأمم الحية لاتتعرف على تاريخها إلا اذا قرأته، ثم استخلصت عبره.. قراءة التاريخ قد تستدعى الفخر، لكن الأهم أن ترسخ الوعى، وتجلى الحقيقة.

إذا سألتنى عن أجمل أيام العمر، الموصولة بهوى الوطن، لن أتردد مؤكداً:

٦ أكتوبر ٧٣ دون أدنى شك

أما اذا عدت متسائلاً عن أروع رحلة، وأحب زيارة فى حياتى، سوف أرد جازماً:

بعد رحلة الحج، وزيارة روضة الحبيب، فإن رحلتى إلى سيناء، وزيارة مواقع ملحمة النصر، سيكون ترتيبها تالياً لشد الرحال إلى الحرمين الشريفين، ثم لا أخفى شوقاً لأن يمن الله عليّ بزيارة ثالث الحرمين، وأولى القبلتين: الأقصى الأسير.

مر ما يقرب من نصف القرن على تلك اللحظات التى تعادل عمراً، وكلما تذكرتها أقشعر بدنى، واعترتنى مشاعر متداخلة تجمع الرهبة بالفرحة، والإحساس بالكرامة ممزوجاً بقدر لا محدود من الاعتزاز بانتمائى الحضارى، عميق الجذور، الذى منح جند بلادى خلال تلك الأيام المجيدة البعيدة، قدرة أسطورية على اقتحام كل الحواجز المعنوية والمادية، مهما بدت عصية، ليصنعوا إنجازاً يلامس حدود المعجزة، ليصنعوا تاريخاً يبقى حياً على مر الزمان.

بعد أن صمتت المدافع

غير مرة عرضت لمواقف ووقائع الرحلة التى نظمتها «منظمة الشباب»، عقب صمت المدافع، لتعانق الروح قبل البصر الأرض المقدسة، التى طالما كانت جسراً شهد خطوات العديد من أنبياء الله، ليدخلوا مصر بمشيئة الله آمنين، حتى صارت المحروسة أرضاً للأنبياء.

لا استطيع أن أحدد سبباً بعينه، وراء عدم غياب تفاصيل تلك الرحلة حتى أدقها عن ذاكرتى، وما يلبث أن يندفع من نقطة ما من الذاكرة، ما أكد عليه مرافقنا الضابط الشاب يومذاك، من أننا الآن نعبر القناة لكن الأبطال آباء وأخوة فى ٦ أكتوبر، وحتى وقف إطلاق النار، انما «اقتحموا»، ولم يعبروا فقط، ومنذ تلك اللحظة سكنت كلمة «الاقتحام» الذاكرة، وكأنها حفر فى صخر، عصى على المحو.

صمت محدثنا برهة، متفرساً وجوهنا المتسائلة عن الفارق، دون أن ينطق أى منا بحرف، وما لبث أن استطرد:

الفارق شاسع، ولعل ذلك ما جعل الرئيس السادات القائد الأعلى، والمشير اسماعيل القائد العام للجيش، أشد حرصاً، وباصرار بالغ، على وصف ما حدث بعد ظهر السبت السادس من اكتوبر بأنه «اقتحام».

تبادلنا نظرات مفعمة بسعادة من اكتشف على حين غرة كنزاً ثميناً، قبل أن يعود مرافقنا لاستكمال ما بدأه، غير أنه كان يضغط على كل حرف يخرج من بين شفتيه، كما كان جلياً لنا:

أنت حين تعبر، كما عبرنا الآن، فنحن نقطع مسافة من شاطئ لآخر، أو من جانب لجانب اذا كنا نجتاز طريقاً، يعنى أن نكون فى فسحة أو رحلة أو على سفر، لكن حين تقتحم، فأنت بصدد صعاب ومشاق ومخاطر عليك أن تواجهها، مهما كانت التضحيات باهظة، ربما بلغت حد أن تدفع حياتك راضياً، خلال مرحلة من مراحل الاقتحام.

الأكبر فى التاريخ

عاد الضابط الشاب ليتفحص أثر شرحه، ثم يفتح فرصة جديدة لأى تساؤل يخطر ببال أى منا.

سأل سائل: كيف كان اجتياز القناة، وهى فى النهاية مجرد مانع مائى عملية اقتحام؟

ابتسم حتى أضاءت قسماته، ثم أمسك بناصية الحديث مجدداً:

بالطبع القناة مجرى مائى، لكنها أكبر وأصعب مانع مائى فى التاريخ، سوف يتأكد لكم ذلك حين تعلموا أن شواطئها تنحدر بشدة، وانها مغطاة بستائر أسمنتية وحديدية تعوق نزول وصعود المركبات البرمائية، فاذا أضفنا المدى الواسع لعمليتى المد والجزر، وبالتالى انخفاض وارتفاع منسوب المياه بها متراوحاً بين نصف متر ومترين، مع سرعة التيار وتغيير اتجاهاته، وفى ذات الوقت ينخفض سطح الماء عن حافة الشاطئ بنحو مترين، فى ضوء ماذكرته لكم من طبيعة القناة، أظن أنه لم يعد شبهة مبالغة فى وصف ما حدث فى ٦ أكتوبر بأنه تطبيق مثالى لمفهوم الاقتحام.

سرت همهمات إعجاب، ثم سرعان ما ارتفعت أصوات بعضنا تعبيراً عن دهشة، ترجمها زميلى فى المقعد المجاور:

ياالله الأمر يختلف تماماً عما كنا نتخيله، أليس كذلك.

وكانت الاجابة هزة جماعية من الرؤوس.

لم تفارق ابتسامة الرضا وجه مرافقنا، ثم واصل حديثه:

أرجو اجابة واضحة محددة، هل اقتنعتم أن اجتياز القناة كان اقتحاماً لا عملية عبور فحسب؟

وبلسان رجل واحد انبرينا: يقيناً اقتحام، بل وشديد الصعوبة.

كانت هزة رأسه معبرة عن سعادته بتجاوبنا الواعى، وعاد ليكمل ما بدأه:

ما أن انجز الأبطال اقتحام المانع المائى الأكبر، جاء دور عملية، بل عمليات اقتحام أخرى.

تساءلنا: كيف؟

العدو أنشأ ساتراً ترابياً على الضفة الشرقية مباشرة، بل أنه يلامس حافة القناة تماماً، وصل ارتفاعه فى بعض المواقع نحو ٢٠ متراً وبزاوية ميل تجعل من تسلقه أمراً أقرب للمستحيل، لكن الأبطال قهروا المستحيل، ألا يعد التعامل مع هذا الساتر اقتحاماً؟

.. وصنعنا السابقة الأولى

لم ينتظر مرافقنا إجابة، وكأنه لم يطرح سؤالاً، ثم واصل شروحه:

الحقيقة التى لايجب أن نغفلها أن مواصفات القناة على هذا النحو، ثم وجود الساتر الترابى على حافتها مباشرة، ينفى أى وجه للشبه مع الظروف والملابسات التى أحاطت بحروب سابقة، ومن ثم فلا خبرة تاريخية نستقى منها دروساً مستفادة، بل كنا نحن من يصنع الخبرة المتفردة، والسابقة الأولى.
صمت محدثنا لحظات، وكأنما يمنحنا فرصة لاستيعاب ماذكره، قبل أن يواصل حديثه:

اقتحم الأبطال أشداء العزم والعزيمة كل ذلك ليصبحوا فى مواجهة مهمة غاية فى الخطورة والصعوبة فى آن واحد، كان عليهم اقتحام خط بارليف الشهير، بمواقعه الحصينة، ونقاطه القوية، متعددة الطوابق، شديدة التعقيد فى تصميمها، يكفى أن تعلموا أن كل طابق مكون من عدة دشم من الأسمنت المسلح، المقوى بقضبان سكك حديدية، وألواح من الصلب، مع وجود فتحات تمكن العدو من الاشتباك على جميع الاتجاهات، وبعد وقبل ذلك كله، هناك اسلاك شائكة كثيفة تحيط بكل نقطة، بالإضافة إلى حقول ألغام هائلة!.

قلت موجهاً كلامى للضابط الشاب:

سمعنا عن خط بارليف الكثير، غير أننا لم نتصوره على هذا النحو، رغم الدعاية الصهيونية التى روجت لكونه أقوى خط دفاعى فى التاريخ، وأن على من يهاجمه لكى يستولى عليه، استخدام قنبلة ذرية!

أنصت باهتمام، ثم واصل مرافقنا حديثه الذى حمل هذه المرة مفاجأة كبري:

ماذا لو علمتم أن ما ذكرته لايعدو كونه واحداً من ثلاثة خطوط دفاعية، الثانى يبعد عن الأول ما بين ٣٠٠ و٥٠٠ متر، ثم على بعد يتراوح من ٣ إلى ٥ كيلو مترات يقع الخط الثالث.. كان على أبطالنا اقتحام الخط تلو الآخر فهل كان ما حدث مجرد عبور؟!

عندما وصل مرافقنا إلى هذه المرحلة فى الحكى، كنا قد وصلنا إلى مقصدنا، إحدى النقاط الحصينة لخط بارليف، ليبدأ شرحاً عملياً يوضح لنا خلاله، الكثير مما ذكره أثناء رحلتنا من القاهرة إلى سيناء.

لماذا نستدعى التاريخ؟

لماذا ألحت الذاكرة، واستدعت هذا الجانب من رحلة مضى عليها نحو نصف قرن من الزمان؟

لاشك أن السؤال سوف يكون شاغلاً لعقل من يقرأ هذه السطور.

ربما يظن البعض أنه أقرب إلى حديث المناسبات، ومع أن هذا مقبول ومبرر، إلا أن ما حدث فى أكتوبر ٧٣، جدير بما يتناسب مع عظمته، ومن ثم فإن حديث المناسبات أقل بكثير مما يستحق!

الحق أقول لكم، لقد أزعجنى منذ فترة ليست بالقليلة، حملات التشكيك الممنهجة التى تستهدف تشكيك جيل الأبناء، ثم جيل الأحفاد فى أن ما حدث أحطناه بهالة لايستحقها!!

بعيداً، عن اللغط الذى أثير مبكراً عن هل أكتوبر كانت حرب تحريك أم تحرير؟

وكأن الحروب يتم خوضها مفصولة عن رؤية استراتيچية شاملة، تكون القوة العسكرية إحدى أدواتها إلى جانب أدوات أخرى كالسياسة والدبلوماسية والاقتصاد..و..

ثم كان النفخ فيما حدث من ثغرة عند منطقة الدڤرسوار، ولم تنجح آلة الدعاية الصهيونية فى تسويقه على أنه أحدث تعادلاً بين من جمع عبقرية التخطيط، إلى جانب الإعجاز فى التنفيذ، ليتساوى مع من سعى إلى «مجرد شو»، تأكد تماماً أن أثره شديد المحدودية.

الأخطر أن يتبنى البعض - على قلته - ما تروجها أبواق مشبوهة، بأن ما انجزناه لايرقى إلى نصر حقيقى!!

منتهى الزيف والكذب البواح، والافتئات على ما شهد به خبراء العالم لصالحنا.

الذكريات فى سياق كهذا، مطلوب بل ضرورى استدعاؤها، ذاك الزاد من التاريخ الحى، يحمل فى طياته أبلغ رد على الادعاءات التى يسعى أصحابها إلى تزييف وعى أجيال لم تعاصر الحدث العظيم، وتستغل السوشيال ميديا نقاط ضعفها، لتسلبها الحق فى الفخر بنصر أنجزه جيشنا الباسل، وسوف يبقى الأعظم فى العصر الحديث.

.............................

الأمم الحية لا تتعرف على تاريخها إلا إذا قرأته، ثم استخلصت عبره.

عندما كتبت هذه السطور، كانت محاولة متواضعة على قدر ما أملك، كى أذكر أجيال الأبناء والأحفاد بتاريخ الوطن، وأنصع صفحاته، لادراك مغزى محاولات التشكيك فيه، حتى تملك هذه الأجيال البوصلة الصحيحة، لتحديد اتجاه خطواتها نحو المستقبل، ولن يستقيم ذلك إلا بادراك الكيفية التى سار بها التاريخ عبر محطاته الحاسمة، وأكتوبر ٧٣ أخطر تلك المحطات.

قراءة التاريخ قد تستدعى الفخر، لكن الأهم أن ترسخ الوعى، وتجلى الحقيقة.

تلك هى المسألة.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة