صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه


مؤتمر أدباء مصر وقضية التطبيع

أخبار الأدب

الأحد، 23 أكتوبر 2022 - 02:25 م

جاء نص التوصية أكثر قوة، حيث نص على «إدانة الأدباء الذين يتعاملون مع العدو الصهيونى» وهذه هى المرة الأولى التى يظهر فيها تعبير «العدو الصهيونى»، كما نص البيان لأول مرة على «إدانة التطبيع الثقافى» بعد أن كان فى السابق يتحدث عن مجرد الرفض وعن المقاطعة.

هذه المعركة بينت تمسك المؤتمر بموقفه، ورصدت حدوث تغير لدى بعض الأدباء نحو إسرائيل، كما أثبتت أن المؤتمر قادر على إثارة الحيوية فى حياتنا الثقافية.

الحديث عن مؤتمر أدباء مصر بالنسبة لى هو حديث الذكريات، فقد عشت أحداثه لحظة بلحظة، وكنت طرفاً فيها، أوصانعاً لها منذ نشأته عام 1984حتى عام 2007، وفى هذه العجالة أقف عند نقطة واحدة أراها ضرورية حين نتحدث عن سيرة هذا المؤتمر وهي: المؤتمر وقضية التطبيع.
ارتبط المؤتمر بموقفه من التطبيع منذ اللحظة الأولى، ففى الدورة الأولى التى انعقدت فى المنيا عام 1984 شكل الدكتور سمير سرحان لجنة لصياغة توصيات المؤتمر تتكون من رؤساء اللجان وبعض الشخصيات العامة، وقد دخلت هذه اللجنة باعتبارى رئيس إحدى اللجان (لجنة أندية الأدب)، وفرضت نفسها علينا توصية خاصة بموقف الأدباء من إسرائيل، وبدأنا الاجتهاد فى الصياغة، اقترح بعضنا صياغة التوصية باعتبارها تحديداً لموقف قاطع يتعلق بالمبدأ، أى أن تكون التوصية معبرة عن عدم الموافقة على التطبيع مع العدو الصهيونى بشكل مطلق، واقترح البعض الآخر صياغة مشروطة، بمعنى أن التطبيع لن يتحقق مادامت إسرائيل مستمرة فى ممارساتها العدوانية ضد الفلسطينيين، وتحتل الأراضى العربية.

وربما لا يتصور البعض المناخ المحيط بالمؤتمر فى تلك الفترة، فقد كانت الاتفاقية طازجة، وكان بعض المسئولين يرون ضرورة التطبيع طبقاً للاتفاقية، وحدث فى أواخر أيام السادات أن طلبت إسرائيل المشاركة فى معرض الكتاب.

وتمت الموافقة السياسية على هذه المشاركة، وأعلنت فى وسائل الإعلام، ومن حسن الحظ أن المسئول عن معرض الكتاب آنذاك كان مثقفاً مصرياً كبيراً يقدر مسئوليته التاريخية.

وهو الشاعر صلاح عبدالصبور، فما كان منه إلا أن وضع استقالته على مكتبه بالمعرض، واتصل بوزير الثقافة منصور حسن، وأبلغه بذلك، وذهب إلى منزله مفضلاً الاستقالة على أن يرتبط اسمه بمشاركة إسرائيل بمعرض القاهرة الدولى للكتاب.

وقالت لى السيدة سميحة غالب، أرملة الشاعر الكبير، إن صلاح عبد الصبور فوجىء صباح اليوم التالى، فى الساعة السابعة صباحاً، بالبواب يدق بابه ويبلغه بأن الوزير ينتظره فى سيارته أمام العمارة، فنزل صلاح عبد الصبور بثياب النوم.

وفوقها جاكت وجده أمامه، ليرى ما الخبر، فأخبره الوزير أن الرئيس السادات طلب استمراره فى منصبه. وقامت مظاهرات فى المعرض تطالب بعدم مشاركة العدو الصهيونى فى فعالياته، ودفع المشتركون فيها ثمن موقفهم من حريتهم.


وما حدث فى معرض الكتاب حدث فى مجالات أخرى، إذ وافق الوزير عبد الحميد رضوان على سفر الفرقة القومية للفنون الشعبية إلى إسرائيل، وكان مقرراً أن يذهب الفنان محمد خليل معها باعتباره مشرفاً، إلا أن الرجل رأى فى هذا موقفاً غير وطنى، فقرر أن يدخل المستشفى فى اللحظة الحاسمة ليكون المرض المفاجيء عذراً مانعاً له عن السفر، أى أن القيادة الرسمية للدولة كانت مصممة على تنفيذ التطبيع الثقافى، لولا موقف المثقفين المصريين الذى ظل صامداً.


فى ظل هذا تمت مناقشة التوصية الخاصة بعدم التطبيع، وأجزم أنه كانت هناك رغبة من أعضاء لجنة الصياغة فى تمرير التوصية دون صدام مع السلطة، وفى ختام المناقشات اقترح سمير سرحان رئيس الثقافة الجماهيرية آنذاك، صياغة التوصية بشكل يسمح لها بالمرور، ووافقه الجميع، بل وشاركوا فى ضبط السياق، وأخيراً جاءت صياغة التوصية كالتالى:


«أمام الجرائم التى ترتكبها إسرائيل فى الأراضى المحتلة وفى لبنان، وأمام عدم التزامها بالمواثيق الدولية يوصى المؤتمر بعدم التعامل الثقافى مع إسرائيل فى كل صوره، حتى يتم الجلاء عن الأراضى العربية، وعودة الحقوق المشروعة لشعب فلسطين».


وكما تلاحظ فإن كلمة عدم التطبيع لم ترد فى التوصية فى صياغتها الأولى، كما أنها صيغت بطريقة مشروطة، أى أننا لن نتعامل مع إسرائيل بسبب جرائمها، وعدم احترامها للمواثيق الدولية،  وهى صياغة تؤدى الغرض من حيث إعلان موقف الأدباء، دون أن تصطدم بسياسة الدولة المعلنة الخاصة بالتطبيع.


من الجدير بالذكر أيضاً أن هذه التوصية من ناحية الترتيب جاءت آخر توصية، وهذا ترتيب له دلالته. ولم يتغير ترتيب هذه التوصية إلا فى المؤتمر الثالث الذى انعقد فى الجيزة فى الفترة من 3/9/ 1987- 5/9/ 1987، إذ احتلت التوصية المركز الثانى فى ترتيب التوصيات، ففى توصيات هذه الدورة ظهر تعبير «عدم التطبيع» صريحاً لأول مرة، وجاءت التوصية كالتالي:
«رفض كافة أشكال التطبيع الثقافى مع إسرائيل، ومقاطعة كل من يتعاون معها بأى شكل من الأشكال فى المجال الثقافى».


أما فى المؤتمر الرابع المنعقد فى دمياط فى الفترة من 12- 15/9/1988 فقد واصلت التوصية الصعود لتصير جزءًا من مقدمة التوصيات، وتسبق أى توصية أخرى، وجاء نص التوصية أكثر قوة، حيث نص على «إدانة الأدباء الذين يتعاملون مع العدو الصهيونى».

وهذه هى المرة الأولى التى يظهر فيها تعبير «العدو الصهيونى»، كما نص البيان لأول مرة على «إدانة التطبيع الثقافى» بعد أن كان فى السابق يتحدث عن مجرد الرفض وعن المقاطعة. والحقيقة أن الصياغة الجديدة تبين التغير الذى جرى على الساحة، إذ حاولت إسرائيل فى هذه الفترة اجتذاب بعض المثقفين، ونجحت مع أحد الكتاب السكندريين، ومع مخرجة سينمائية غير مشهورة، وكانت تبذل محاولات مع المزيد من كتاب الإسكندرية، ومن هنا بدأ الحديث عن إدانة الأدباء الذين يتعاملون مع العدو الصهيونى، ومن المؤكد أن هذه الإدانة كانت تعبيراً عن رأى عام للأدباء، وأنها ساهمت فى وقف موجة التطبيع الثقافى التى كانت إسرائيل تحلم بها.


وقد استمرت التوصية بعد ذلك دون مشاكل حتى وصلنا للمؤتمر الثامن الذى انعقد بالعريش فى الفترة من 30/ 10/1993-3/11/1993 برئاسة فتحى غانم، حيث قمت بعرض التوصيات باعتبارى أميناً عاماً للمؤتمر على الأستاذ فتحى غانم قبل إعلانها، وكانت المفاجأة أن الأستاذ فتحى اعترض على التوصية الخاصة بعدم التطبيع.


كان رأى فتحى غانم أن وصف اليهود بالعدو الصهيونى يستحق المراجعة، وأن اليهود بشر من حقهم أن يكون لهم وطن مثل الفلسطينيين، وأن الصيغة التى يتبناها المؤتمر فيها تشدد، وأن من الطبيعى أن يكون هناك متشددون فى كل مجتمع، لكن المهم أن نعيد النظر فى مسألة «العدو»، وأن نستبدلها بكلمة «العدوان». وتحدث فتحى غانم عن أنه لا توجد عداوات دائمة، وأن الدول العربية تتفاوض مع إسرائيل بشكل ثنائى، وأن بيننا وبين إسرائيل معاهدة.


 كان رأى فتحى غانم صدمة لى شخصياً، وقد ناقشته فيه لكنه تمسك برأيه، وعند انعقاد الجلسة الختامية رأى أن يناقش الأدباء فى الموضوع، واشتعلت النيران، وكان الدكتور القط يجلس معنا على المنصة، وأدلى بدلوه فى الموضوع، وهاجم التوصية، وانتقد صياغتها اللغوية، حيث جاء بها تعبير «كافة أشكال التطبيع» إذ إن كلمة (كافة) لا تأتى إلا فى نهاية الجملة وتعرب حالاً، ولا شك أن ملاحظته اللغوية صحيحة، رغم أن شاعراً وأستاذاً من أساتذة اللغة العربية هو الذى تولى الصياغة النهائية للتوصيات.

المهم أن الصالة هاجت ضد فتحى غانم الذى أصر على موقفه، وهب من الصالة من يقف إلى جوار فتحى غانم، و لعب الأستاذ فتحى العشرى الصحفى بالأهرام الدور الرئيس فى هذا الأمر، وأمام هذا الانقسام واللغط فى الجلسة طرحت على القاعة اقتراحاً محدداً، وهو أن نقر بقية التوصيات ونترك هذه التوصية للمناقشة بعد الانتهاء من إقرار التوصيات الأخرى.

 

وبالفعل قرأت التوصيات، وعندما جاءت التوصية أثناء القراءة قلت: «لنؤجلها الآن»، فصاح أعضاء المؤتمر: «إقرأها.. إقرأها» وقرات التوصية، وضجت القاعة بالتصفيق الحاد لمدة طويلة، حينئذ قلت: «سأعتبر هذا التصفيق تصويتاً على التوصية ولن أطرحها للمناقشة بعد ذلك»، وضجت القاعة بالتصفيق مرة أخرى.


بعد المؤتمر لم تنته المعركة، فقد واصل الأدباء الهجوم على فتحى غانم لعدة أشهر، لكن الأخ فتحى العشرى انفرد بالهجوم على المؤتمر، فكتب فى الأهرام بتاريخ 12/11/1993 يقول «عقدت ثمانى دورات استنفدت أغراض المؤتمر، بدليل تكرار التوصيات، تلك التى تطالب بمناهضة التطبيع الثقافى مع العدو الإسرائيلي».

واختتم مقاله بقوله «أما المكاسب التى تحققت فيمكن تحقيق أضعافها بغير الحاجة إلى مؤتمر استنفد أغراضه، وشوهت صورته على نحو ماعرضنا»، واستنكر فتحى العشرى ما فعلته بشدة حين اعتبرت التصفيق تصويتاً على التوصية، وأبلغنى حسين مهران فى حينه أن فتحى العشرى شكانى إلى الوزير فى أحد لقاءاته به.


فى مقابل هذا تواصل الهجوم على فتحى غانم، فكتب مصطفى الأسمر فى الجمهورية (عدد 9 ديسمبر 19993) مقالاً بعنوان: «رئاسة غانم للمؤتمر نوع من التطبيع» جاء فيه: «مضيعة للوقت أن أناقش الأديب فتحى غانم فى رأيه الذى أعلنه فى مؤتمرنا عن ضرورة التطبيع مع إسرائيل.

وعدم وصفها بالعدو، فيقيناً له رؤيته وتقديره الدقيق، وهو بذلك الأدرى والأعلم، ولكن يبقى موقفه معلقاً فى عنقه حتى يوم القيامة. وعبث ما بعده عبث أن نتحاور حول بديهيات، لا أقول إن الدراسات والبحوث والأحداث المعلنة والخفية قالت فيها رأياً، وحددت موقفاً.

ولن أتحدث عن تفاصيل الصراع العربى الإسرائيلى المتسمة بالتعقد والسرية، فغانم يقيناً يعرفها بحكم موقعه، وبحسه الأدبى مثلى، وإن أنكر، لكن سأطرح عليه سؤالاً واحداً لا أزيد عليه، إن كان للأستاذ غانم كما أوضح رأى مغاير لرأى إجماع أدباء الأقاليم المعروف، كيف غاب عن أعضاء أمانة المؤتمر ذلك، بل على أى أساس تم اختياره رئيساً للمؤتمر؟ أهو مثلاً شكل من أشكال التطبيع يفرض عليهم؟ أرجو ألا يكون الأمر كذلك».


وكتب قاسم مسعد عليوة فى الصفحة ذاتها تحت عنوان «إسرائيل لم تتغير فلماذا تسقط عنها صفة العدو»، يقول: «تضج الممارسات داخل إسرائيل ذاتها بمظاهر العداء لما هو إنسانى، مثل إلغاء قانون المواطنة الفلسطينية، إنكار بعض حقوق الإنسان الأساسية، خرق حرية الاعتقاد بواسطة الإكراه الدينى، سن تشريعات التمييز العنصرى، تكريس القيم التى تشجع على العنف، بالإضافة إلى الاعتقال دون محاكمة، نسف المنازل، منع التجول، إبعاد غير المرغوب فيهم،....... فهل تخلت إسرائيل عن الأفكار الصهيونية حتى يمكن أن نقول إنها لم تصبح عدواً للعرب والبشرية، أم تخلى فتحى غانم عن موقفه من العنصرية فأصبح مؤيداً لها بعد معارضة، أم أن الروائى الكبير قال ما قال وعينه – كما يتردد - على جائزة نوبل للآداب؟».


وكتب فؤاد حجازى بتاريخ 25/11/1993 فى الجمهورية تحت عنوان: «لا يا أستاذ غانم» يقول: «يطالب فتحى غانم باستبدال كلمة العدوان بكلمة العدو، أليس هذا تلاعباً فى الألفاظ؟ وهل ينسى غانم ومن يذهب مذهبه أن ما اصطلح على تسميته بإسرائيل القديمة، أى حدود 1967، هو نفسه عدوان؟ أليس جزءًا من فلسطين العربية؟ إذن فالعدو والعدوان قائمان مادام هناك جزءٌ محتل من فلسطين تحت أى مسمى.


ليقبل السياسيون ما يشاءون، فلهم حساباتهم وظروفهم، سواء من قادة الدول العربية، أو قادة الشعب الفلسطينى، ولكننا أدباء لا نستطيع أن نغفل عن الحق العربى الضائع مادامت إسرائيل قائمة، ومن واجبنا كأدباء ان نظل نزرعه فى وجدان الأجيال المختلفة حتى يأتى الجيل القادر على تحرير فلسطين، وليس هذا اليوم ببعيد».


ووصل الأمر إلى حد أن الحزب الناصرى وجه اللوم لصحيفته لأنها كانت تنشر مقالات لفتحى غانم، ومنع نشر مقالاته، وقام فتحى غانم بالهجوم على الحزب فى روزاليوسف، وانضمت بعض الأصوات إلى فتحى غانم، ووقفت أصوات اخرى أكثر ضده، واستمرت المعركة عدة أشهر، وشاركت فيها صحف ومجلات عديدة.


المهم أن هذه المعركة بينت تمسك المؤتمر بموقفه، ورصدت حدوث تغير لدى بعض الأدباء نحو إسرائيل، كما أثبتت أن المؤتمر قادر على إثارة الحيوية فى حياتنا الثقافية. وبعد معركة فتحى غانم بعامين، أى فى الدورة العاشرة للمؤتمر التى انعقدت فى المنيا فى الفترة من 18_20ديسمبر 1995 شبت معركة أكثر ضراوة بسبب التوصية نفسها، فقد طلب السيد المحافظ اللواء عبد الحميد بدوى حذف التوصية الخاصة بالتطبيع، وطلبنى الدكتور عبد الحميد إبراهيم رئيس المؤتمر.

وعميد كلية الدراسات الإسلامية التى تستضيف المؤتمر، فى مكتبه، وأبلغنى رغبة المحافظ، ورفضت تلبية رغبته، وبعد دقائق من المناقشة فوجئت بأحد كبار المسؤولين عن الأمن فى المنيا يدخل علينا ومعه كوكبة من رجاله، وبصحبتهم أمين الحزب الوطنى بالمنيا آنذاك، وطلبوا منى حذف التوصية، وتمسكت ببقائها.

وحينئذ قرر مسئول الأمن، وأمين الحزب الوطنى، والدكتور عبد الحميد إبراهيم، الاتصال بحسين مهران رئيس الهيئة تليفونياً، ورفض حسين مهران رأيهم، وطلب محادثتى، وقال لى فى التليفون: «تمسك بموقفك»، وتمسكت بموقفى، وقدم المفاوضون بدائل، مثل: أن أجلس فى القاعة، على أن يقرأ غيرى التوصيات، بدون التوصية الخاصة بعدم التطبيع.

ورفضت، ومثل: عدم قراءة أية توصيات، ورفضت، وفوجئت بموقف من شخص لا أحب أن أذكر اسمه يقول لي: «تريد أن تكون بطلاً على حسابنا؟» وكانت صدمة لى، لكنى لم أقف عند عبارته، وقلت لمسئول الأمن إننى مسئول فى الدولة مثله، فأنا مدير عام فى هيئة قصور الثقافة.

وأنا أتكلم عن أدباء الأقاليم بحكم معرفتى بهم، وإن عليه أن يأخذ برأيى باعتبارى صاحب خبرة، لأن ما يريده قد يسبب مشكلات هم فى غنى عنها، خصوصاً أننا فى رحاب الجامعة، وقد ينضم الطلبة لأعضاء المؤتمر، لكن الرجل ومن معه لم يهتزوا، ثم رن جرس التليفون، وكان المتحدث حسين مهران للمرة الثانية.

وجاءنى صوته عبر الهاتف ليقول لي: «الوزير وافق على حذف التوصية». أيقنت ساعتها أنى بلا غطاء سياسى، فالوزير الذى أنتمى لوزارته لا يتمسك بالتوصية، ورغم هذا تمسكت بالتوصية من منطلق أنى كاتب قبل أن أكون موظفاً، وأمام عنادى أحضروا لى سيارة حقيرة، وطلبوا منى أن أغادر المنيا فوراً، وصحبتنى السيارة إلى الفندق لأخذ متعلقاتى، ثم إلى محطة القطار.

ولم يجدوا تذكرة نظراً لعدم الحجز، فأخذونى إلى محطة الميكروباصات لكنى رفضت الركوب، فأخذونى إلى محطة أوتوبيسات الأقاليم، وأركبونى فى أول أتوبيس، ولم ينصرفوا بعد ركوبى، بل ساروا خلف السيارة ليتأكدوا من سفرى.


انتهى المؤتمر دون توصيات، وقيل إن أحد المسئولين عن المؤتمر، من المنيا، هدد الأدباء حين سألوا عن التوصيات، وعقب ذلك بدأ الهجوم على عنيفاً، فى اكثر من صحيفة، وأصبحت الجانى لا المجنى عليه، واضطررت لكتابة ما حدث إجمالاً فى صحيفة الجمهورية (عدد 4 يناير 1996) وقلت:«أثناء انعقاد لجنة التوصيات بالمنيا قالت السيدة فريدة النقاش إنها تتوقع حدوث شىء لتخريب مؤتمر ادباء مصر فى الأقاليم، ولم تغفل عن الأسباب، فقالت: إن هذا التخريب سيتم بسبب الموقف الصلب ضد التطبيع مع إسرائيل. وفى اليوم الثانى للنبوءة أصبحت حقيقة.

ووقفت سلطات عليا تحول دون صدور التوصية، وتضامن مع هذه السلطات رجال خافوا على مواقعهم، رغم أنى أكدت للجميع أن هذه التوصية مجرد ترجمة لموقف اتحاد كتاب مصر فى هذا الصدد، وأنها تعكس موقفاً عاماً لمثقفى مصر وفنانيها من أعضاء النقابات الفنية والأدبية، لكن النية كانت مبيتة.


وقد فكرت أن أكتب التفاصيل الدقيقة للضغوط التى تعرضت لها لحذف هذه التوصية، لكنى بعد أن ترويت وجدت أن الأمر صعب، فالوقائع التى حدثت لا يوجد عليها دليل واحد، ولا شاهد واحد، وليس بين أصحابها من يمتلك الشجاعة ليعترف بدوره.

وإلا ما سارعوا جميعاً بعد انتهاء المؤتمر لتبرئة ساحتهم فى الصحف، ونسبوا إلى أنفسهم الإيمان العميق بعدم التطبيع، وإزاء هذا الوضع الذى لا أحسد عليه رأيت أن أغلق فمى، فليس من المستبعد أن يقاضينى أحد ال... شرفاء الذين لم يتورعوا عن إنكار الحقائق جهاراً نهاراً.»


ومن حسن الحظ أن الأستاذ يسرى السيد الصحفى بالجمهورية، والمسئول عن صفحة أدباء الأقاليم، كان حاضراً فى جلسة التوصيات، وكتب لنفسه نسخة منها ليلحق بموعد طبع صفحته، فقد قام يسرى بإعلان التوصيات فى نادى هيئة التدريس بالمنيا، أثناء تقديم الغداء للحاضرين.


وأجرى يسرى السيد حواراً مع وزير الثقافة (بعدد 4/1/1996 من صحيفة الجمهورية) قال فيه الوزير: «أما بشأن التطبيع مع إسرائيل أرجوكم لا تزايدو علينا. هل نسيتم أن وزيركم رفض مقابلة سفير إسرائيل أكثر من مرة، وقلت لرئيس وزراء إسرائيل: التطبيع ليس قرارى، ولكنه قرار الأدباء والمثقفين والفنانين».


وتعالت الصيحات ضدى إلى حد أن محمداً الشافعى كتب فقرة  يدافع عنى فيها فى مواجهة هذه الحملة فى مجلة الكواكب بتاريخ 2/1/1996 بعنوان: «النقد وليس الذبح» جاء فيها: 
 «يتعرض الناقد المبدع محمد السيد عيد مدير الثقافة العامة بقصور الثقافة، وأمين عام مؤتمر أدباء الأقاليم إلى حملة شرسة من الهجوم والتجريح تحت شعار انتقاد الأخطاء التى حدثت فى مؤتمر أدباء الأقاليم الأخير، وللحق فإن أخطاء المؤتمر الأخير ليست استثناء، فقد حدث ما هو أكبر منها فى المؤتمرات السابقة، كما أن المؤتمر الأخير قد شهد العديد من الإيجابيات.

ولكن الأهم من هذا كله أن هذه الحملة ليست فى صالح أدباء الأقاليم بشكل خاص، وذلك لأن محمد عيد قد استطاع خلال الأشهر الماضية أن يضخ الكثير من الدماء فى شرايين حركة أدباء الأقاليم من خلال العديد من المؤتمرات، كما أنه من أشد المؤمنين بقضايا وحقوق أدباء الأقاليم، ومن هنا نؤكد على أن النقد حق مباح ولكن الذبح حرام وظالم».


 ولم يقف الأمر عند حد الهجوم على شخصى بل امتد للهجوم على المؤتمر، وقيل إنه استنفد أغراضه، وهى دعوى متكررة لا تتوقف منذ الدورات الأولى للمؤتمر، وكأن أصحابها يستكثرون على الأدباء أن يكون لهم تجمع سنوى يتيح لهم فرصة اللقاء والتعارف ومناقشة القضايا الخاصة.


وقد استمر الهجوم طويلاً، ولم تنكشف الحقيقة إلا بعد عامين تقريباً، من خلال حديث صحفى للدكتور عبد الحميد إبراهيم مع يسرى السيد فى صفحة أدباء الأقاليم فى 12فبراير 1998، وأقوم بنقل هذا الجزء من الحوار بالحرف الواحد:


«قلت (أى يسرى السيد): هل يختلف موقف المثقف عندما يكون بعيداً عن السلطة والمسئولية عنه عندما يكون داخلها؟
قال (أى الدكتور عبد الحميد إبراهيم): ماذا تقصد؟
قلت: بعيداً عن التعميم والنماذج الكثيرة، كان لك موقف غريب عندما عقد مؤتمر أدباء الأقاليم بالمنيا وكنت رئيساً له، عندما انحزت لمحافظ المنيا السابق عبد الحميد بدوى فى الإصرار على عدم صدور توصيات المؤتمر فى الجلسة الختامية، لتضمنها بنداً بعدم التطبيع مع إسرائيل.


قال: دعنى أكشف لك أسراراً حان الوقت لإظهارها، أود أن أبرئ ساحة الصديق محمد السيد عيد، فقد كان موقفه صلباً يشكر عليه، ودافع حتى النهاية عن رغبة المثقفين فى تسجيل توصية عدم التطبيع، وأصر على ذلك، ولكن المحافظ السابق عبد الحميد بدوى كان صارماً للغاية.

وأصدر أوامره بحجز محمد السيد عيد فى المستشفى بحجة المرض، وكاد الأمر يتطور إلى صدام بين الأدباء والأجهزة الأمنية، لولا تدخلى كرئيس للمؤتمر واقتراحى كحل وسط أن ينتهى المؤتمر دون ذكر للتوصيات.


قلت: لكننا أعلنا التوصيات فى نادى هيئة التدريس رغم هذه التهديدات.وقال: المهم أنها لم تذكر بالجامعة، وأنقذت محمد عيد من الاعتقال، والأدباء من الصدام، وإلغاء المؤتمر، وقد أدركت القيادة السياسية غباء هذا التصرف، فتم تغيير المحافظ فى أول حركة للمحافظين، وعقد مؤتمر آخر بالمنيا للرواية العربية، وتحت رئاستى، وأصدرنا التوصية، ولعل هذا التوضيح يبرئ ساحة محمد عيد أمام الأدباء».


إن ماحدث فى هذا المؤتمر كان أقسى موقف مررت به فى حياتى، وكما هو واضح لم تتضح الحقيقة إلا بعد سنين، وكان من الممكن أن أفقد وظيفتى بسبب موقفى الصلب، وأفقد سمعتى بين الأدباء، بسبب لعبة السياسة، وتبرؤ الجميع مما حدث فى حينه، بعد أن تبين أنهم كانوا مخطئين.وعلى أى حال أثبتت التجربة أن أمين عام المؤتمرإذا كان مسئولاً فى الهيئة يكون أكثر عرضة لدفع الثمن.

اقرأ ايضا | صلاح بوسريف يكتب : أعْلَى مِنَ الغَيْمِ أدْنَى مِنَ الوَتَرِ

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة