عبد الهادي عباس
عبد الهادي عباس


عبد الهادي عباس يكتب: غبار الذهن المكدود!

عبدالهادي عباس

السبت، 29 أكتوبر 2022 - 01:38 م

ذهني غائم تمامًا كهذا الجو الخريفي المكدود، مُتربٌ مثله، مهزوز الرياح كأمواج الإسكندرية الهوجاء التي تضرب صخور الشاطئ بلا رحمة؛ أتوضأ وأحمل سجادتي وأسعى مُجهدًا إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة في طقس أسبوعي فاترٍ، فأجد المسجد مكتظا بالرواد، ألوم نفسي على هذا التأخير المستمر: تأخير في الحياة وتأخير في الصلاة؛ الآن لن ألحق بيضة واحدة من الأجر بعدما صعد الخطيب المنبر. أكره الزحام والتزاحم فأستسلم في خنوع وأفرش حصيرة في الشارع الموازي فلا تلبث حتى تمتلئ بالمصلين الكسالى مثلي. أدعو الله أن يُمسك عنا الرياح الزواعب حتى تنتهي هذه الدقائق المُملة.

صوت الميكروفون سوط ينهش أذني كذئب جائع، صدى سأسأته يقيم الأموات من قبورهم؛ أتساءل دائمًا: أهذه ميكروفونات أم أبواق إسرافيل؟ أكره الصخب وأمقت الأصوات الزاعقة، إنها تشوش عقلي وتوتر أعصابي وتستنفر حواسي جميعًا فلا أتحكم في انفعالاتي، ومولانا يصرّ على دغدغة خيالنا بالحديث عن قصور الجنة وكعوب الحُور العين، ألمح ابتسامات المصلين الحالمة بواقعٍ أفضل؛ وأتساءل أنا عن أكوام القمامة التي تملأ الشوارع وتُحيط بالمسجد نفسه، أليس من الأوفق أن يُخفف مولانا في صلاة الجمعة ويتقدمنا في حملة لتنظيف مُحيط المسجد، ألا يكون ذلك خيرًا يُحبه الله ورسوله، وقدوة صالحة لأبنائنا الصغار.. أهرب من كلام الإمام المكرور إلى ذاتي، أتقوقع داخل شرنقتي الخاصة، أمزج خطوط الماضي بالحاضر وأقلبهما بفرشاة المستقبل فتخرج اللوحة سريالية باهتة لا ضابط لها.

تقفز صورته إلى ذهني مناوشة، إصراره على حمل ابني الطفل المتوفى على قدميْه طوال السفر إلى القرية لدفنه هناك، مهما اغتربنا في الداخل أو الخارج نُدفن في أرضنا، المصريون يرتبطون بأرضهم ولا يُحبون الاغتراب، نحن الوحيدون الذين نُسمي السفر داخل الوطن غُربة، إنها عادات القرية.. أتعجبُ لرقة قلبه لي وخوفه من تأثير الحُزن على نفسي، رغم أنني كنتُ أشد خوفًا عليه في الحقيقة، فأنا أعلم بواطن نفسه أكثر من أي أحد آخر، أقرأ جيدًا هدوءه رغم عواصف الغضب التي يُثيرها أحيانًا وانضباطه الشديد لكونه ابن المؤسسة العسكرية العريقة، أبتسم في سري وأقول: إنني أدرى بخبيئتك يا حاج خليل، أعلم يا جدي أنك رحيم جدا وإن جهل الناس ذلك، أعلم أنك كريمٌ جدا، ودودٌ جدا؛ حتى إذا وصلنا إلى المقابر تناول أبي منه حفيده مُدثرًا إياه بعباءته الفلاحي، ويضمه أكثر إلى قلبه وهو يمشي به بين المقابر ليناوله بدوره إلى آخر ليضعه بين أضراس ذلك القبر الجديد؛ أشاهد أنا ذلك وأفكر ببلاهة: كيف يجرؤون على ترك هذا الطفل الرضيع وحده في هذا القبر الموحش، وماذا إذا بكى، مَن سيُضاحكه أو يسد جوعه، أمه قد أُمرت بالبقاء في القاهرة، وأنا أُمرت بالذهاب إلى البيت لاستقبال المُعزين؛ هذه هي التقاليد الآثمة للقرى: العادات أولى بالاتباع وإن تمزقت الأكباد وانهارت القلوب..

أفزع على صراخ مولانا: أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ فأرفع يديّ أدعو وأستغفر مُراقبًا تلك الأكف التي ارتفعت في فتور، ومتسائلا عن هذه الوجوه الناعسة في انقباض وكأنها تحمل غُبار الأسبوع كله؛ عمال وصنايعية بملابسهم الرثة المليئة بالبوية والملطخة بالشحم، ذقون طويلة شعثاء وأسنان صفراء ووجوه تعيش في أيام سوداء حالكة.

أخيرًا يُقيم الإمام الصلاة فتقف الأجساد منحنية، وكأنها تحمل جبالًا من الهموم فوقها، يُجاهد الإمام في قراءة آيات مرتبطة بالموعظة التي ألقاها، وأنا أدعو في سري أن يقرأ الكوثر أو المعوذتين لينتهي سريعًا فقد بدأت الرياح تثير الغبار في وجوهنا، ولكنه يُصر على تلك الآيات الطويلة، وما يضره وهو منتعش تحت المُكيف إن ملأت الأتربة عيوننا، فقد أدى الفارس مهمته وانتصر في معركة الوعظ الأبدية.

رغم كل مساعي وزارة الأوقاف لإعادة الروح إلى المساجد وتعميرها بالأئمة المُجيدين والقراء الممتازين، فإن هناك كسرًا في نفوسنا نحن يجب أن نسعى إلى جبره ومعالجته قبل أن يتفاقم؛ علينا أن نقترب أكثر من المعنى الكبير للمساجد في الإسلام، ذلك المعنى وحده القادر على جعل أرواحنا تهفو شوقًا إليها، بدلًا عن تلك الأجساد المتلكئة عند كل زيارة جديدة وإن كانت أسبوعية؛ فالطاعة النابتة في حنايا القلب أوفق وأرجى بالقبول من تلك الناشئة عن عادة الجسد.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة