عبدالله البقالي
عبدالله البقالي


حديث الأسبوع

أوروبا .. ليست بالصورة التى روجتها طيلة عقود

الأخبار

السبت، 29 أكتوبر 2022 - 06:04 م

ينبه تقرير حديث لصندوق النقد الدولى صدر قبل أيام قليلة من اليوم، إلى خطورة (تباطؤ النمو الذى سيكون عاما فى القارة الأوروبية هذه السنة) ويتوقع بأن يعرف نصف عدد الدول الأوروبية ما سماه ب (الركود التقني)، هذا يعنى أن وتيرة النمو الاقتصادى ستتراجع -حسب نفس التقرير- إلى نسبة لن تتجاوز 0٫5 بالمائة كمعدل عام، فى حين ستنزل النسبة فى بعض الدول الأوروبية إلى أقل من الصفر، بما ستكون له تداعيات على الناتج الإجمالى الخام فى دول القارة العجوز، الذى سيتهاوى إلى الأسفل وسيطلق العنان لارتفاع العديد من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية السلبية، كالبطالة وضعف قيمة الاستثمارات العمومية والخاصة وانتشار الهشاشة الاجتماعية، وغيرها كثير .

تقرير صندوق النقد الدولى ليس وحيدا فيما ذهب إليه فيما يخص رصد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فى دول القارة الأوروبية، بل تواترت معطيات ومستجدات كثيرة تؤشر على أن الدول الأوروبية تعيش مرحلة من أسوأ مراحل عمرها، فى ضوء التطورات الكبيرة والكثيرة فى العالم، حيث أبدت هذه الدول منسوبا عاليا من العجز فى التعاطى معها، وإيجاد الحلول المناسبة لها، بما يحفظ لها هيبتها وقوتها على التأثير فى مسار الأحداث فى نظام عالمى بالغ التعقيد.

بل إن خبراء اقتصاديين آخرين أكدوا أن الصدمة الاقتصادية الجديدة التى تعرضت لها دول القارة الأوروبية ستكون لها تكلفة غالية جدا، والتى قد تتجاوز حجم الناتج الإجمالى فى دول الاتحاد الأوروبى فى عام 2022 والذى تقدر قيمته المالية بـ 175 مليار أورو. ويسجل هؤلاء الخبراء قصور المعالجة الفعلية لهذا التدهور، ويستدلون على ذلك بعجز البنك المركزى الأوروبى على التوفيق بين مكافحة التضخم ودعم النشاط الاقتصادى .

من حيث التفاصيل التى تؤكد حالة اللايقين الاقتصادى والسياسى السائدة راهنًا فى دول القارة الأوروبية، تتجلى العديد من الحقائق الصادمة، التى تكشف عن خواء العديد من القناعات وفراغها من أى محتوى .

الاتحاد الأوروبى الذى كان يقدم نفسه كتكتل اقتصادى جهوى وقارى قوي، ويوحى بالقوة والقدرة على مواجهة التحديات والتصدى للإكراهات، يتضح حاليا أنه ليس بتلك الصورة التى كان يقدم بها نفسه إلى العالم، خصوصا للدول النامية التى كانت تراهن على التعاون الاقتصادى معه، وأنه على غرار كثير من التجمعات الاقتصادية الجهوية فى العالم يعانى من اختلالات بنيوية عميقة جدا تجعله عاجزًا، ليس فقط، على أن يكون فاعلا فى العلاقات الدولية السائدة، بل أساسا على أن يكون مؤهلا للتصدى للتداعيات السياسية والاقتصادية المترتبة عن التطورات المستجدة فى العالم .

لسنا فــى حاجــة إلى القول بــأن معانــاة كثير مــن الــدول الأوروبيــة كبيــرة لا تختلف عما تعانيه دول متخلفة كثيرة، فهى عاجزة فى ضوء ما يجرى من أحداث خطيرة على ضمان أمنها الطاقى والغذائى فى بعض الحالات، وأنها لم تسلم من الارتفاعات المهولة فى أسعار العديد من المواد الاستهلاكية، بعدما اتضح أنها دول عاجزة حتى عن إنتاج ما تحتاجه فى الاستهلاك الداخلي. وهى عاجزة أيضا عن التصدى بفعالية إلى ارتفاع معدلات التضخم، ولم تجد من علاج لهذا الداء غير الكي، المتمثل فى رفع سعر الفائدة مما ستكون له تداعيات قوية على الاستثمار وعلى القروض وعلى السيولة المالية بصفة عامة .
سياسيا بدا الاتحاد الأوروبى فى وضعية ملحق للإدارة الأمريكية، حيث تنتظر حكومات دوله اتخاذ القرار فى البيت الأبيض لتسارع إلى تنفيذه بالصيغة المطلوبة، المقصود هنا الحرب التى تخوضها الولايات المتحدة الأمريكية معززة بالموالاة الأوروبية ضد روسيا فوق التراب الأوكرانى .

واضح أن إدارة البيت الأبيض الأمريكى تصر على قيادة هذه الحرب، لأن الظروف والتطورات سمحت لها بوقف نهائى للتقارب الروسى الأوروبي، الذى تسارعت وتيرته خلال السنوات الأخيرة، كما أنها تعى وتدرك جيدا أن الإبقاء على هيمنتها وتفردها بقيادة النظام العالمى السائد يتوقف على إضعاف روسيا والصين، كقوتين سياسيتين واقتصاديتين تترصدان الفرصة لهدم البنية التقليدية للنظام العالمى السائد، ويستوجب من جهة أخرى لجم دول القارة الأوروبية والإبقاء على الاتحاد الأوروبى كقوة اقتصادية إقليمية محدودة التأثير فى صناعة القرار الدولي، وفى المتغيرات والتحولات الجيواستراتيجية العالمية .

هذا ما تكشف عنه المعطيات الراهنة، فدور دول الاتحاد الأوروبي، خصوصا دول منطقة عملة الأورو يقتصر على تقديم الدعم المالى والعسكرى حينما يطلب منها ذلك، وهى تدفع بسخاء غير مسبوق فى نفس الوقت الذى تواجه فيه صعوبات كبيرة فى ضمان توفير التمويل المالى اللازم، لكن قرار الدفع عند الطلب يتخذ خارج عواصم هذه الدول .

ما حدث فى دولتى السويد وإيطاليا يجب قراءته فى سياقه الحقيقي، فالصعود اللافت لقوى اليمين المتطرف، وفوزها بثقة الناخبين فى الانتخابات التشريعية، يؤشر على إرادة الشعوب الأوروبية فى تجريب قوى سياسية محافظة فى مواجهة التغول الأمريكي، واستعادة التحكم فى القرار السيادى الوطني، الذى انفلت من الداخل الأوروبي. إنها قد تكون حالة تمرد على السياسات الأوروبية فى العديد من المجالات خصوصا فيما يتعلق بالمصالح الأوروبية فى الخارج .

يبقى التساؤل فى الأخير عما إذا كانت دول القارة الأوروبية ستستفيد من دروس الحرب على أوكرانيا، وهى كثيرة ومتعددة، بأن تتحول إلى فاعل جيواستراتيجى حقيقى يتمتع بقوة التأثير والردع حينما يتطلب الأمر ذلك، أم أنها ستستمر بالقبول بدور الموالى والتابع لقوة عالمية مهيمنة؟ وهل ستبحث عما يضمن لها أمنها الطاقى والغذائي، أم أنها ستستمر فى التعويل على دول أخرى كثير منها بعيد ومرشح فى أية لحظة للصدام مع الغرب، فى تلبية حاجياتها الاستهلاكية الأساسية؟

إنها محطة مكاشفة حقيقية لدول ظلت تدفع بما لا تملكه من قوة، ولحظة امتحان عسير حقيقى سيكون لها ما بعدها .
نقيب الصحفيين المغاربة
 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة