د. مصطفى محمود
د. مصطفى محمود


كنوز | العيال ظنّوا أنفسهم كباراً

الأخبار

الأربعاء، 02 نوفمبر 2022 - 05:45 م

د. مصطفى محمود

أحياناً تراودنى الرغبة فى البكاء مثل طفل صغير يتيم تاهت عنه أمه فى الزحام، وأشعر فى تلك اللحظات أننا جميعاً أطفال، لا فرق كبير يذكر بيننا وبين أطفالنا فى علمنا ومعارفنا وأخلاقنا. 

يخيل إلينا أننا اخترقنا السماوات بعلومنا.. ولو فكرنا قليلاً لوجدنا أننا ما زلنا فى حروف أ. ب. ث، وأننا كأولادنا على عتبة واحدة من الحيرة والتساؤل والجهل. 

يقول لك طفلك وهو يشاورعلى القمر: من أين جاءوا بهذا القمر يا أبى ؟ 

وتجاوب عليه بكلام كثير، وتتلو عليه نظريات وافتراضات خلاصتها أنه لا أحد يعرف الحقيقة، ولا حتى أينشتين نفسه، ويسألك طفلك عن جده الذى مات أين ذهب منذ موته، وعن أخيه الذى وُلد أين كان قبل مولده فلا تعرف جواباً.. 

فلا أحد يعرف ماذا قبل الميلاد ولا ماذا بعد الموت، ولا من أين ولا إلى أين. 

ويشاور لك على الكهرباء ويقول: ما هذا ؟ فتقول الكهرباء. 

ويسألك ما هى الكهرباء فلا تجد جواباً، ويسألك من أين أتت الكهرباء، فتحكى له حكاية طويلة عن ماكينات النور ووابور النور، وأنت لا تدرى ما النور، ولو سألت علماء الطبيعة كلهم ما وجدت فيهم واحداً يستطيع أن يدلك على ماهية النور وكنهه، ولا حتى نيوتن، ولا افوجادرو، ولا فاراداى. 

وما أجهلنا على الدوام.. 

ابتكرنا علم النفس وكتبنا فيه المراجع ونحن لا ندرى ما هى النفس. 

واخترعنا الساعات لنقيس الزمن ونحن لا نعرف ما هو الزمن. 

وسكنا الأرض من ملايين السنين وما زلنا لا نعرف عنها إلا قشرتها. 

ويجتمع شهود الحادثة الواحدة فيختلفون فى روايتها ويحكيها كل واحد بصورة، وهذا شأن الحادثة التى لم تمر عليها ساعة فما بال التاريخ الذى مر عليه ألوف السنين وكُتبت فيه المجلدات، وكلها تخيل. 

وما أبعدنا دائماً عن الحقيقة، وما أقل ما نعلم. 

وما أقرب الفارق بيننا وبين أطفالنا فى علمنا ومعارفنا، بل ما أقرب الفارق بيننا وبين أطفالنا فى أخلاقنا - نحن الأوصياء المربين - وكل منا يحتضن أملاكه كما يحتضن الطفل لعبته ولا يطيق أن تمسها يد منتفع. 

وفينا البخيل والشره، والأكول والطماع، ومن يسيل لعابه على المليم. 

والطفل يخطف والكبير يسرق. 

والطفل يضرب والكبير يقتل. 

والطفل يمد يده بالإيذاء، والكبير يمد عصاه وسكينه. 

والطفل يرمى بحصاة، والكبير يرمى بقنبلة ذرية. 

ألا يحق لى بعد ذلك أن أبكى على هذا العالم من العيال الذين ظنوا أنفسهم كباراً ؟!

من كتاب «الشيطان يحكم» 

نقدم هذا المقال لقراء «كنوز» فى الذكرى 13 لرحيل الكاتب الطبيب المفكر الروائى عازف العود الفنان د. مصطفى محمود صاحب أكثر من 80 كتابا وعشرات الحلقات من برنامج «العلم والإيمان»، رحل عن عالمنا 31 اكتوبر 2009 عن عمر يناهز 88 عاما، وقد اخُتير عام 2001 ضمن أكثر مائة شخصية مؤثرة فى القرن العشرين. 

اقرأ أيضا | في ذكري رحيل مصطفى محمود.. محطات في حياة «صاحب العلم والإيمان»

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة