د. محمد أبوالفضل بدران
د. محمد أبوالفضل بدران


يوميات الأخبار

فى وداع الشهيد عُبيد الله

د.محمد أبوالفضل بدران

الأربعاء، 23 نوفمبر 2022 - 06:19 م

كانت الجنازة العسكرية تسير فى كبرياء الشهيد ونهر من الدموع وتتجه إلى المقابر، وكلُّ يتذكر تقواه وورعه وحبه الناس

مساء حزين ذلك الذى حمل استشهاد الأخ الشهيد العقيد أحمد محمود عبيد الله، ذهب فى حملة أمنية لقرية الحجيرات ليلقى القبض على تجار الشابو، فوجئت الحملة برصاص من كل اتجاه، يسقط العقيد أحمد ليرتفع شهيدًا فى السماء، يُنقل إلى مستشفى المرزوق بجامعة جنوب الوادى، أهرول إلى أبيه العمدة محمود أراه فى ثبات الصابرين والمُحتسبين يردد قوله تعالى «إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ» يا الله كيف لهذا القلب أن يتحمل هذا الفقد المفاجئ؟ وجدتُ الصبر عند الصدمة الأولى.. اختفت كلمات التصبّر أمام رضا الوالد بقضاء الله وقدره راح يُصبّر مُعزينَه؟ وقفنا نصلى صلاة العشاء قرأ الإمام الشاب فى خشوع «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» راحت الآيات تسرى فى قلوبنا وكأننا نسمعها لأول مرة، يبيت الشهيد فى مشرحة الجامعة، فى الصباح اصطحبتُ والده الصبور وطفله جياد إلى المشرحة، كنت أتهيَّبُ هذه اللحظة، وأهرب من رؤية الموتى، أمسكتُ بيد والده وطفله دخلنا إليه كان كما قال أخوه اللواء محمد «عريس» ملفوف فى أكفانه البيضاء، يا الله، ما هذه الابتسامة والنور والفرحة التى تملأ وجهه، بدا حيا أمامى، انحنيتُ على جبينه وطبعتُ قُبلة، كدتُ أن أُصوّر هذا النور على وجهه وهذه الابتسامة لكن جلال الموت منعنى من هذا، «أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ» خرجنا وأنا أرى الدموع فى الوجوه، لكن أباه قال لى فى صوت هادى كيف نحزن وهُم كما قال تعالى «فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ» لا يجتمع الحزن والفرح، يسير الأب مع ابنيه المستشار فهد والأستاذ عبد الله، نتجه للصلاة على الجنازة فى مسجد سيدى عبد الرحيم القنائى، كيف أتت هذه الوفود وكيف انتظم هذا الجمع يدعو له بالرحمة والرضوان، وينظر للبشرى فقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم «الشهيد يشفع فى سبعين من أقاربه»، كانت الجنازة العسكرية تسير فى كبرياء الشهيد ونهر من الدموع وتتجه إلى المقابر، وكلُّ يتذكر تقواه وورعه وحبه الناس، قبل أن تتحرك الجنازة جاء اللواء قائد الأمن المركزى معزيًا والده الذى أمسك يده ونظر فى عينيه وقال ثلاثًا: «دَم ابنى فى رقبتكم» فوعده اللواء بالثأر للشهيد؛ اجتمعنا فى ديوان العائلة بكلاحين أبنود كان كل المعزين يعزى بعضهم بعضًا، وفى طريق العودة تذكرتُ أخلاقه وطيبة قلبه وخدماته للناس ورحتُ أردد قوله تعالى «لَهُمُ الْبُشْرَى فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ  ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»

انقذوا شبابنا من «الشابو»

يحدث فى بلدنا: شباب يدمنون «الشابو» من الجرعة الأولى، بيوت خربت وأراوح زُهقت، أب يقتل أولاده وبناته، شاب يقتل أمه وأباه وزوجته وأولاده، وآخر يعلق أولاده فى حبال البلكونة حتى يعطيه أهله ثمن الجرعة، جرائم لأول مرة تسمع بها الإنسانية؛ كل هذا من وراء هذا «الشابو» المخدر الذى يُشعِر مُتعاطيه بالقوة الطاغية يتصور أنه يقدر على كل شيء ولا يعى مدى تصرفاته ولا آثارها على نفسه أو على الغير، يضرب نفسه ضربات قاتلة ولا يتألم لأنه لا يحس، يقتل الآخرين دون أن يعرف مَنْ هم؟ باختصار هو خطر على نفسه وخطر على الغير؛ يدمن من الجرعة الأولى، على الشرطة الدور الأول فى مواجهة هذه العصابات وهذا واجبها لكن إذا لم يتكاتف الناس جميعا ضد هذا الخطر الوبائى الأكبر فلن تفلح الشرطة وحدها فى القضاء عليه، هناك عصابات تتاجر فى المخدرات ولا سيما الشابو الذى انتشر فى محافظات الصعيد كالنار ووقوده شبابنا، وأصبحت هذه العصابات مسلحة بأعتى أنواع الأسلحة ولا تخاف أحدا، تطاردها الشرطة تختبئ فى الجبال ومزارع القصب، وتعود مرة أخرى لبيع هذا السم القاتل تحت أعين الناس، تطوّر التجار من مستوردين إلى مُصنّعين، وبعضهم جلب أسيويين للتصنيع! إذا لم يقاوم الناس هؤلاء فسينتشرون فى كل مكان وستقوى عصاباتهم وملايينهم وسيدمن شبابنا وسيقتلون رجال الشرطة وأفراد الناس، لابد من تكاتف الجميع بالإبلاغ عنهم، فهم أعداء الشعب، هم قتلة الشعب، أما إذا تركناهم فسيقضون على شبابنا وسنسمع الجرائم وسيقتلون الجميع بالشابو أو بالأسلحة أو بكليْهما!!

رِجْل شامبليون و«قِلّة الأدب»

وجود تمثال لشامبليون واضعا قدمه على رأس فرعون مصرى بفرنسا يجعل الأمر يخرج عن دائرة الفن وحرية النحت إلى «قلة الأدب» فقد جاء شامبليون إلى مصر وجابها شمالا وجنوبا ولحُسن حظه استطاع فك رموز حجر رشيد المسروق منا وُيشكر على جهده لكن الحضارة المصرية هى التى وهبته الشهرة والعلم وليس من اللياقة والكياسة والدبلوماسية وضع قدمه على رأس فرعون مصرى ولو كان نحتا.. فهل تستحق حضارة عظيمة منحت باحثا حروفها فقرأها هل تستحق هذا التمثال المهين؟، وإن قيل حرية الفن والنحات حر فى بلد النور فلماذا انتفضت فرنسا كلها ضد كاريكاتير روسى؟

وهاج ماكرون وماج؟ وإذا كانت الحرية فى النحت فإننى أقترح أن نقيم مسابقة للنحاتين المصريين الكبار لنحت تمثال للسيد/ لويس التاسع مقيدا بالأصفاد أسيرا فى دار ابن لقمان وأن نضع هذا التمثال على مدخل الجامعة الفرنسية بمصر ونسخة أمام السفارة الفرنسية وتمثال بتمثال وحرية الفن لا تتجزأ... ما رأيكم؟

متى تتحرك السفارة المصرية بباريس؟ وهل تحدث السيد وزير الخارجية مع وزير خارجيتهم لتحطيم هذا التمثال المزرى بالحضارة المصرية العظيمة؟ آمل أن يكون ذلك قد حدث وإلا فإن مسابقة نحوت لويس التاسع أسيرا عندنا ستكون فى مداخل جامعات مصر كلها.. وإنا لمنتظرون!

جولة فى مدينة الزهراء

أتجول فى الأندلس وكأن التاريخ يحكى، تقول أليكريا مرشدتنا التى رحبت بنا: إن مدينة الزهراء Azahra هى المدينة التى بناها عبد الرحمن الثالث من أجل زوجته التى كانت تعشق الثلج فأمر ببناء مدينة جديدة على اسمها وزرع بها آلافا من الورد الأبيض حتى ليحسبه الناظر ثلوجا.

حينما وصلنا إلى هناك قالت أليكريا كل من ليس أوروبيا يجب أن يشترى تذكرة أما الأوروبيون فمجانا؛ كنت الوحيد الذى اشترى تذكرة حتى يرى مدينة الزهراء يا لغرابة التاريخ؟! ألم يقل نزار قبانى عندما زار الأندلس:

ومشيتُ مثلَ الطفلِ خلف دليلتى/ وورائى التاريخُ كومُ رمادِ

المدينة لم يتبق منها سوى أطلال مهدمة.. هنا كان الخليفة يستقبل ضيوفه، هنا كان يملأ حمام السباحة بالزئبق فتنعكس أشعة الشمس فى صالون استقبالاته فينبهر الضيوف، هنا كانت الزهراء، هنا كان الوزراء هنا كان المسجد.. (لم يتبق منه سوى القواعد) هنا كان آلاف الموظفين يسكنون.. هنا كان.. لم يعد هنالك شيء !!

هنا قرطبة

فى الطريق المنحدر من جامع قرطبة لمحتُ بيتا صغيرا دخلنا دون أن ندرى هل هو متحف أو منزل خاص.. كان منظره جميلا، امرأة محجبة جالسة على مقعد أمام طاولة صغيرة وهى تحدّث بعض السياح الذين دخلوا قبلنا، كان الحزن مايزال يعتصر قلبى، ما جدوى التاريخ إذا كنا لا نفيد منه؟ إذا كانت الأمكنة بلا أزمنة؟ والديار دون أهلها؟، تحدثتْ تلك المرأة بالإنجليزية مرحبةً بنا وقالت هذا متحف «قرطبة القرن الثانى عشر» دخلنا وتجولنا شرحت كيف كان الورق يُصنع آنذاك، لمحتُ بقايا فخّار وخطوطا عربية بالمزاييك نسج عليها «وقل رب زدنى علما» ثم تحدثت المرأة بالعربية فصِحتُ: هذا صوت عربى فى قرطبة، قالت: أنا سلمى.. فلسطينية، أهلا بكم رحنا نتجاذب أطراف الحزن وراحت تحكى عن أول زيارة لها، جاءت قرطبة منذ سنوات، رأت ما آل إليه حال الآثار الإسلامية فوهبَت نفسها لإحياء هذا التراث وراحت مع زوجها المفكر الراحل روجيه جارودى يفكران كيف نحافظ على ما تبقى من هذه الأطلال الأندلسية، هنا التاريخ فأنشأوا المتحف الإسلامى فى القلعة بقرطبة وهو متحف يطلّ على النهر بعد جسر (كوبرى) جميل. حكت لى كيف نزلت فى أول مرة فى فندق يطل على جامع قرطبة ورأت كيف يقوم أحد الإسبان بحرق جدار المسجد الخارجى واتصلت تليفونيا بالبوليس ولكن لا حياة لمن تنادى.. من هنا راحت تشترى هذا البيت وتحوله إلى متحف، راحت تحكى عن المعوقات والمعاناة التى تعانيها كل يوم.. عن المنغصات التى تتفتح يوميا ضدها ولكنها صامدة.. مجرد متحف يقول: هنا نشأت حضارة استمرت قرونا طويلة.. هذا الحدث أخرج محاكم التفتيش مرة أخرى ضد زوجها الراحل روجيه جارودى وضدها!! ثم تدخلت فى الحديث امرأة كانت بجوارنا.. أنا أم سلمى طُرِدتُ من فلسطين فى عام 1948 إلى القاهرة.. طردنا اليهود يا ولدى وأقسم لك بالله لقد تركت غسيلى منشوراً على الحبال وتركت بيتى وأملاك أبى وأسرتى وهُجّرنا إلى مصر فى آخر طائرة من مطار اللد.. استولوا على كل شيء! ورحت أكمل فى فلسطين وفى الأندلس.

فى النهايات تتجلى البدايات

« لو أستطيعُ أن أملأ الأنهارَ من عذابى

لارْتفعتْ مياهُ النهرِ للسماء» 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة