جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

أسطورة سيزيف

جمال فهمي

الأحد، 27 نوفمبر 2022 - 08:27 م

لست أعرف بالضبط سر انشغالى هذه الأيام بواحدة من أشهر الأساطير اليونانية القديمة ، أسطورة أو مأساة ذلك الرجل المدعو «سيزيف» والتى بدأت (كما تقول الأسطورة) بعدما اعتبره الآلهة سكان جبل الأولمب متمردا يشق عصا طاعتهم ومن ثم حكموا عليه بعقاب لا يفوق قسوته إلا عبثيته ، إذا قضى الحكم أن يفنى سيزيف عمره كله وهو يجاهد لكى يرفع حجرا ثقيلا إلى قمة أحد الجبال ، فكان الرجل كلما وصل بحجره القدرى إلى قرب القمة عاد الحجر وتدحرج هابطا إلى السفح مرة أخرى ، فيعود سيزيف للجهاد العدمى نفسه ، وهكذا بغير نهاية.


أسطورة ومأساة سيزيف هذه وصلتنا روايتها بتفاصيل مختلفة خصوصا فى ما يخص سبب غضب الآلهة على الرجل ، غير أن كل الروايات اتفقت جميعا على طبيعة العقاب العابث الذى عوقب به بطلها ، كما أن هذه العبثية ألهمت عددا كبيرا من المبدعين والمفكرين والفلاسفة لإنجاز نصوص أثرت التراث الفكرى الإنسانى لاسيما بعد الثورة الصناعية وانبثاق الحضارة الغربية وما رافق صعودها من أعراض وظواهر وتغيرات نوعية ، لعل أخطرها وأشدها أذىٍ ظاهرة الاستعمار والهيمنة وتعميم الظلم والاستغلال وفرض التأخر بالقوة على باقى مجتمعات وشعوب كوكب الأرض.


هذه التغيرات والظواهر التى عصفت بالمجتمع  الإنسانى ، أحدثت (خصوصا فى بلدان الغرب) صدمات ضميرية قوية وشعورا مبهما وشبه جمعى بالتعاسة ، أفضى بدوره ، فى أوساط قطاع واسع من المبدعين والمفكرين ، إلى شيوع اللجوء للأساطير القديمة وإعادة صوغها بحيث تناسب مآسى العصر وعبثية الظلامات التى تواكبه .. من أنبه هؤلاء المبدعين ، المفكر والأديب الفرنسى ذائع الصيت ألبير كامو(1913 ـ 1960) فقد قدم فى واحد من أهم كتبه «أسطورة سيزيف» على نحو بدا فلسفة عميقة أكثر من كونه إبداعا أدبيا ، إذ اعتبر جهاد سيزيف العبثى وهو يرفع صخرته الثقيلة ثم يعاود رفعها إلى ما لانهاية ، صورة تختصر عبثية حياة البشر والمعاناة المجانية التى يكابدونها بغير أمل فى خلاص قريب ، أوبلا أمل فى أى خلاص.
غير أن كامو ، تعمد أن يرسم صورة سيزيف فى اللحظات التى كان يتابع فيها حجره وهو ينزلق عائدا الى السفح ، مرتديا ملامح البطولة والإصرار وليس ملامح القنوط واليأس بدليل أنه كان يبدأ من جديد مشوار الصعود بالحجر .. يقول كامو: «كان سيزيف فى هذه اللحظات أقوى من الآلهة التى تعذبه وتعاقبه بهذه العقوبة القاسية العبثية».
وبعد .. أشعر أننى أثقلت على القارئ الكريم  ، والآن أعود إلى ما بدأت به هذه السطور ، إذ قلت أننى «لا أعرف بالضبط» سبب أن أسطورة سيزيف تَلح وتسكن فى رأسى هذه الأيام ، لكنى أرجح  أن السبب المباشر هو وقوع بصرى على كتاب ألبير كامو بينما كنت أرصص تلال الكتب التى فى مكتبتى ، فقد تصفحت هذا الكتاب بشغف وكدت أغوص فى صفحاته التى عشت معها مستمتعا قبل سنوات ، لولا أن ضغط الوقت وزحام الكتب منعانى من السير فى هذه الغواية حتى النهاية ، فاكتفيت بالتقاط سطر من هنا وكلمة من هناك ، ثم وضعته بحرص على رف كتب من جنسه ، ومع ذلك يبدو أننى لم أستطع الإفلات من هاجس قديم أثارته «أسطورة سيزيف» بالذات فى نفسى ، خلاصة هذا الهاجس أن حال أمتنا العربية عموما ووطننا مصر خصوصا يشبه إلى حد التطابق حال البطل الأسطورى وصخرته التى لا تريد أن تستقر فى القاع ولا هى تبلغ القمة أبدا.
يعنى ، أنظر حولك عزيزى القارئ ، وستكتشف بسرعة ، كيف أن التاريخ الحديث أمتنا العربية ليس إلا وقائع جهاد وكفاح عسير ومحاولات مضنية ومتكررة ومتفاوتة القوة ، للنهوض والتحرر من قيود التخلف والبؤس والإمساك بأول طريق التطور الاجتماعى والاقتصادى والسياسى.. لكننا مازلنا ، مثل سيزيف « ، نجاهد أنفسنا ونعيد المشاوير نفسها التى مشيناها من قبل ، لعل وعسى نصل إلى القمة ونستقر هناك .

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة