صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه


أحمد الزناتى يكتب: شـجرة الكون من أوراق العوسج الملتهب

أخبار الأدب

السبت، 03 ديسمبر 2022 - 01:29 م

 

أكثر ما أعجبنى فى تحليل المؤلف ملاحظته أننا كلما مضينا قُدمًا فى كتاب فيتجينشتاين نكتشف أن مهمة الفلسفة رسم الحدود، أى رسم حدود ما لا يمكن التفكير فيه.

لنفرض أن رجلًا جاء إلى بستان ورأى يافطة كبيرة أعلى البوابة كُتبت عليها جملة مأخوذة من نجيب محفوظ تقول: «فى الصحراء واحة هى أمل الضال»، وأسفلها بخط أصغر: «لا تدخل، وإن دخلتَ شيل على قدّكَ». لكنه دخل من باب الفضول، فأعجبّه كل مافى البستان، ولأنه نَهِم، وقلبه مُعلّق أبديًا بالزهور، قبضَ بكفّه على زهرة بعينها، وعينه على زهرة أخرى أغوته صورتها، فهمسَ حارس البوابة: «مهما قبضتَ بِكفّك، فلن يوازى ما قبضتَه شيئًا قياسًا بوفرة أزهار البستان، اسمع منى: زهرة واحدة كافية».

اقرأ أيضا| منى نور تكتب: بعد أن أجاز مجمع اللغة استخدامها شرعية «الاستعباط»!

القصة السابقة تصدق بحذافيرها على اختياراتنا للكُتب، وأحسب أن الأمر ذاته ينطبق على سِفر العوسج الملتهب – ابتكار فلسفة الدين للفيلسوف الفرنسى جان غريش. تردّدت فى مقاربة هذا السِفر الضخم لأسباب عديدة؛ أهمّها أن أى قراءة لهذا العمل لا بدّ أن تكون قراءة عاجزة عن الإحاطة بجوانبه نظرًا إلى ثراء المادة، ثانيًا أن أية قراءة ستكون أقرب إلى تلخيص بعض أفكاره، شىء أقرب إلى مراجعـة.

وهو  أبعد ما يكون عن رؤيتى. أريد أن أمضى لأبعد من ذلك نسجًا على منوال السيد فيتجينشتاين كما سنرى لاحقًا. خيـر للقارئ/الباحث المتفرّغ أن يبدأ بالتسلسل الطبيعي، وللقارىء الحُرّ الجوال من أمثال هيرمان هسّه وأمثالى أن يبدأ بأى جزء يشاء، ما دام يعرف ما الذى يبحث عنه. 

أحبُّ أولًا التنويه بالجهد الخارق المبذول فى الترجمة، فضلًا عن المقدمة العربية الثرية التى كتبها المراجع الأستاذ مشير باسيل عون، وإن كنت أتحفظ على ابتكاراته لترجمة بعض الاصطلاحات القارّة مثل «الفِسارة» الذى ابتكره على وزن «صناعة» كترجمة لمصطلح الهيرمنيوطيقا (وقد اعتمدها العلّامة د. محمد عنانى فى ترجمة موسوعة الهرمنيوطيقا مثلًا)، لأنه يأتى بعدها بسطر ويقول الفِسارة والفينومينولوجيا، بدلًا من الفِسارة والظاهراتية.

فى البداية أسَـر انتباهى العنوان. العوسج شـجر ينبت فى الأراضى الصحراوية الجافة والحارة لأنه يحتاج إلى قليل من الرطوبة. يستهلُّ د. غريش الجزء الثانى بعبارة تقول: «كلم الله موسى من عوسج (شجرة صغيرة)، خلع موسى [النبي] نعليه احترامًا للأرض المقدسّة.

والمكان الذى تتجلّى فيه عظمة الله ونوره لا يحق لنا مغادرته دون تعظيمه». المرجع إذن نَقْلى محض، بمعنى الكلام هنا عن إله الوحي، إله إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب، لا إله الفلاسفة. يتسائل المؤلف هل أصبح العثور على هذا المكان متعذرًا؟ هل حلَّتْ به لعنة الفلسفة الحديثة؟ وأحسبه على درجة من التهذّب والمهنية العلمية بحيث أنه لم يخض طويلًا فى سؤال: هل حلّتْ عليه لعنة ما بعد الحداثيين ومُفكّـكى ومُهلهِلى ومُخرّبى كل قيمة؟ 

اللافت أن العوسج =الشجرة الصغيرة، استخدمها غريش رمزًا للتجربة الدينية أو الضربة التى تصيب الإنسان فيكتسب بصيرة من نوع ما، واستخدمها القرآن المجيد فى التعبير عن النقيض. فى سورة الصافات نقرأ عن شجرة الزقوم، التى جُعلت فتنة للظالمين (أذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ).

وضرب القرآن بها المثل فى سورة إبراهيم فشبّه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، والكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة. وسدرة المنتهى، التى عندها «جنّة المأوى»، هى شجرة عظمى يقف عندها علم الخلائق كما أخبرنا الأثر. خرج أبو البشر آدم من الجنة بسبب الأكل من الشجرة المحرمة، فى سورة طـه (وَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى).

وفى العهد الجديد نقرأ عن نثنائيل (أحد رُسل السيد المسيح) أنه اختلى مع الله تحت ظل شجرة التين وآمن بالمسيح قبل رؤيته. نقرأ فى سِفر يوحنا اللاهوتى (7:2): «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ الَّتِى فِى وَسَطِ فِرْدَوْسِ اللهِ».ونقرأ فى إنجيل متى: «اِجْعَلُوا الشَّجَرَةَ جَيِّدَةً وَثَمَرَهَا جَيِّدًا، أَوِ اجْعَلُوا الشَّجَرَةَ رَدِيَّةً وَثَمَرَهَا رَدِيًّا، لأَنْ مِنَ الثَّمَرِ تُعْرَفُ الشَّجَرَة»ُ (متى33:12).

كما ارتبطتْ شجرة الجميز بالفكر المصرى القديم الخاص بنشأة الكون، واعتبرها الأم السماوية للإنسان، كما صُنعت منها التوابيت المقدسة كتابوت الإله أوزيريس. جلس البوذا أسفل شجرة تين عملاقة فى القرن السادس قبل الميلاد حتى وصل إلى الاستنارة. وأقسم الله فى القرآن بالتين والزيتون.

وبدأ الشيخ الأكبر محى الدين بن عربى كتابه الموجز شجرة الكون بعبارة:» فرأيت الكون كله شجرة، وأصل نورها من حبة كُن، وكل ما يظهر ذلك من حوادث، الغيب والشهادة والكفر والإيمان، كل ذلك من ثمرها الذى أثمرته، وطلعها الذى أطلعته.

وأفرط لودفيج فيتجينشتاين فى استعمال كلمة الشجرة وهو يضرب الأمثال على الألعاب اللغوية فى يومياته. وكانت قصيدة الشجرة (نقلتُها إلى العربية كاملة فى أحد أعمالى المترجمة) هى آخر ما كتبَ هيرمان هسّه قبل وفاته بأيام، وعثرت عليها زوجته بعد رحيله. 

لا أرمى إلى شىء. الأمثلة السابقة أوراق من أغصان العوسج الملتهب، وهى مجرد ملاحظات عابرة خطرتْ وأنا أتأمّل العنوان، ثم عرفت أن للمؤلف كتابًا بالفرنسية اسمه شجرة الحياة.

كنت أود منه لو أنه تقصّى– من بين الاستطرادات العديدة التى يغصّ بها العمل ولا ضير- الجذور الدينية/اللاهوتية/الأسطورية لرمز الشجرة وتعالقاتها فى الفلسفة والأدب والدين من منظوره البحثي.

ربما يُكمل الأمر رجل آخـر لو  كان من أهل الدنيا، منطلقًا من نظرية الـArcetypes  اليونجية؛ أو لماذا يهبط رمـز الشجرة على العقل وهو يستدعى المقدّس؟ 
حسب قرائتي، فلكل فيلسوف/لاهوتى/مفكّر تجربته ولكلٍ صورته عن العوسج الملتهب، وهى صورة تختلف باختلاف التجربة فضلًا عن تَــمَـــثُّل فكرة العوسج داخل وعيه، بمعنى تمثّلات (العوسج = تجربة المقدّس) لدى هوسيرل تختلف عنها لدى هايديجير ولدى ميرتشا إلياده وباول تيليش ووليام جيمس وفيتجينشتاين، إلخ، إلا أنها أوراق مختلفة ألوانها، تنبت من شجرة كونية واحدة اسمها تجربة الإنسانى وهو يحاول استشعار المقدس، وليس وهو يثرثر ليفهمه أو وهو يتسائل بضيق أفقٍ عن مغزى الصمت الإلهي، برغم أنّ السماء لم تصمت ثانية واحدة، المشكلة فى فمك المفتوح دائمًا وأذنيك المُغلقتيْن دائمًا.

أعجبتنى ملاحظة المؤلف الذكية فى الفصل الخاص بتجربة/كتاب وليام جيمس تنويعات التجربة الدينية بأن مضمون العمل كلّه يتمّثل فى تجربة دينية شخصية كما تشهد على ذلك دراسات حديثة لسيرته الشخصية (ص 512، ج2)، وهو السبب فى اختيارى لتجربة فيلسوف واحد من خارج فلاسفة الدين المعروفين. 

من المستحيل، بل سيكون ضربًا من الهزل الإشارة إلى مضمون العمل وأبوابه، لأنه كما سأشير فى نهاية الكلام، يعبّر عن استعارة أعمق لشىء أبعد. لذلك سأتوقّف عن تجربة واحدة، وكنت أودّ التوقف طويلًا أمام تجربة الألوهي/المقدّس عند هاديديجير.

لكن مشّاء الغابة السوداء نسيج وحده، ويستحق عملًا منفردًا. سأعرض كيف ضربَت حرارة العوسج الملتهب فيلسوفًا جمع بين متناقضين أساسيين (العقل المنطقى أمام الشعور الجوّاني)، أقصد تجربة الفيلسوف والرياضى النمساوى الكبير لودفيج فيتجينشتاين، لِما رأيتُ فى تجرب ذلك اللغوى المنطقى مع استعارة العوسج الملتهب تجربة العُمر كلّه.

لماذا اخترت فيتجينشتاين؟ بحسب المؤلف يعبر فكر الرجل عن التقاء فريد بين عقلانية جذرية هدّامة وبين شعور حيّ وعميق بحدود الفكر. أبدى فيتجينشتاين منذ نعومة أظفاره اهتمامًا بالغًا بالدين، وقرأ مبكرًا تولستوى ودوستويفسكى وكيركجارد والقديس أوغسطين.

أى بالمفكّرين الأكابر الذين نستطيع ربط كتاباتهم بالفلسفة الدينية عمومًا. يكشف كاتب سيرته الذاتية عما يشبه تجربة إشراق صوفى (أو وهجّ قوى مِن أنوار العوسج الملتهب) فى سنة 1910 ربما أثّرت فى حياته كلها. 

كان الرجل مقتنعًا طوال حياته بإله أخلاقى يدين له بأشياء كثيرة، لكن لا شىء يدلّ على أنه إله الإيمان المسيحى. دوّن فيتجينشتاين خواطره فى مذكرات السرية. فى سنة 1916 كتبَ نصًا مذهلًا هو أقرب إلى عقيدة شخصية يقول: «الله وغاية (Zweck) الحياة؟ أعلم أنا هذا العالم موجود بالفعل وأنى موجود بداخله.

وأن ثمة شيئا إشكاليا بداخله ندعوه معناه، وأن هذا المعنى ليس باطنيًا فيه، بل هو برّاني، وأن الحياة هى العالم، وأن إرادتى خيّرة أو شريرة، وإن الخير والشرّ، على نحو ما، متصلان بمعنى العالم، معنى الحياة، أى معنى العالم، نستطيع أن ندعوه الله، وأن نعقد مقارنة [Gleichnis] الله بالأب. الصلاة هى التفكير فى معنى الحياة». 

لم أتوقّع قط أن يقرن فيتجينشتاين، وهو اللغوى المنطقى الصارم، معنى العالم/الحياة بالله، أستحضر هنا تجربتى فى سنوات الجامعة مع الوضعية المنطقية، رودولف كارناب ورفاقه، وزكى نجيب محمود (فى بداياته) مع كتاب خرافة الميتافيزيقا، وكانت مخيّبة للآمال، بل أقول مثيرة للسخرية.

المهم، بعدها بشهرٍ يكتبُ فيتجينشتاين فقرة ثانية تقول:» يعنى الإيمان بالله فهم مسألة معنى الحياة. يعنى الإيمان بالله أن وقائع العالم لا تُوجِد الحل لكل شىء. يعنى الإيمان بالله أن الحياة ذات معنى». 

فيتجينشتاين مشغول بالبحث عن معنى حياته/العالم. عبقرية فيتجينشتاين كما أرها فى أنه اكتشف أن المعنى الإشكالى الغامض للحياة ليس موجودًا أبدًا بداخلها، أى أننا لا نجد واقعة بعينها تتضمن بنفسها معنى أو تفسير كل الوقائع الأخرى التى تصادفنا ونحار فى فهمها. ألا تذكّرنا هذه بشذرة خاطفة لمحيى الدين بن عربى فى العبادلة: «حقيقة المعنى له، لا لكَ»؟ 
فى كتابه الأشهر رسالة منطقية فلسفية يقول (والاقتباس هنا أنقله عن د.غريش): «يجب أن يكون معنى العالم خارج العالم، داخل العالم يظلّ كل شىء على النحو الذى هو عليه، وسيحدث كل شىء كما سيحدث». ربما تُتهم الفكرة بأنها انهزامية، رواقية، سلبية، رجعية، يمينية، إلخ. قـلْ ما شئتَ.

ولا تِفرق، والله لو جئتَ بمثل المعلقات السبع فلن تغيّر من حقيقة كلام فيتجينشتاين شيئًا. لماذا؟ لأن هذا قانون من قوانين لعبة الحياة الكبرى. كل محاولات تغيير/إصلاح العالَم انطلقتْ من تصّور ساذج مفاده أن المُغيِّر يفهم ماهية الحياة وماهية العالم وقوانينه ومعادلاته الخفيّة، ناهيك عن كونه يفهم نفسه من الأساس.

وهل هذا هو السبب الذى دفع فيتجينشتاين بعد إنهاء عمل حياته رسالة فلسفية منطقية إلى أن يفرغ لمهمات أكثر تواضعًا، لكنها مفيدة أكثر، كأن يصبح مدرّس ابتدائى فى قرية نائية بالنمسا؟ أو ربما يفتح مكتبة وخردواتى فى بقعة بعيدة أمام البحر؟ يقول المؤلف إن الكتاب يغصّ بالفقرات الغامضة (وإن كنتُ أوصى القاريء المهتمّ بالعودة إلى كتاب أسهل وأمتع بعنوان فى اليقين بترجمة مروان محمود لو أراد الاستزادة). 

أكثر ما أعجبنى فى تحليل المؤلف ملاحظته أننا كلما مضينا قُدمًا فى كتاب فيتجينشتاين نكتشف أن مهمة الفلسفة رسم الحدود، أى رسم حدود ما لا يمكن التفكير فيه. أقول فى نفسي: أليست هذه مهمة الإنسان؟ أن يرسم حدود ما يعرف وما يقدر عليه؟ أفكّر أحيانًا أننا سنحمّل أية تجربة ما لا تطيقه حينما نطالبها بإنتاج خطاب أخلاقى شامل يحسم كل قضية ويجيب عن كل سؤال. 

على أى حال ينبغى أن يحذر القارىء وهو يتعامل مع فيتجينشتاين، لا يجوز لنا أن ننسب إليه تجربة صوفية إشراقية بالمعنى الشعبى الدائر فى الأذهان، إذ لم يتكلّم الرجل عن التصوف، وإنما عن العنصر الصوفى (بالألمانية Das Mystische).

وذلك الهاجس الغامض، السرّي، أى ما لا يُمكن التعبير عنه، ومن هنا لا ينبغى أن نفكّر فى أنه كان يجهّز نفسه للكتابة عن تجربة دينية روحانية، أما دلالة التصوف الوظيفية فإنها كانت فى صُلب أفكار فيتجينشتاين حثًا على الصمت. 

وربما يعرف أغلبنا جُملته المشهورة: «ما لا يمكن الحديث عنه، يجب الصمت دونه»، لأنه ينتمى إلى خبرة شعورية وجمالية من نوع آخر. «كل شىء مقبول إلا الثرثرة المتعالية»، هكذا كتبَ فى إحدى رسائله. الثرثرة وجود زائف بحسب هايديجير، يحجب وجودك الأصلى لكنه ربما- فى ظني- يكون مسكنًا مؤقتًا يداوى واقع إنسان بائس أعجز عن حلّ مشاكله الشخصية، فيبحث عن حلول لمشاكل الأرض. 

جُملة أخيرة مهمّة أحب أن أوردها على لسانه: «إذا افترضنا أنه قد أجيب عن كل الأسئلة العلمية الممكنة، فستظلّ حياتنا قائمة على ما هى عليه. والحق أنه لا ينبغى سؤال بعد ذلك وهذا تحديدًا هو الجواب. ألا يصبح الناس الذين اهتدوا إلى رؤية واضحة لمعنى الحياة، بعد طول شكّ، عاجزين عن التعبير بالقول عن محتوى هذا المعنى؟» 
ونحن، ألا نرى الشيوخ والمسنّين يهزّون رؤوسهم عندما يُسئلون عن معنى الحياة ويبتسمون؟ ألم يكتف تولستوى فى نهاية حكاية بكتابة قصص وأمثولات رمزية تُحكى للأطفال بعد أن أنفق عُمرًا على كتابة سردياته الكبرى؟ 

بعد الانتهاء من قراءة الجزءين الثانى والثالث، وقد استغرقا شهورًا طويلة على فترات متقطعة، أسأل نفسي: هل يمكن لكتاب أن يتحوّل إلى رمز يلخّص تجربة الحياة، وأنا لا أقصد هنا مضمون الكتاب وأفكاره، بل مبدأ أنّ الكتاب نفسه يمثّل مغامرة هائلة مُـدوِّخـة، شىئ أشبه بمتاهة بورخيسية كونية تلقنك درسًا معتبرًا لو خرجتَ من المتاهة سالمًا؟ أعود إلى الحدوتة التى بدأتُ بها المقالة.

قصة الرجل الذى يريد القبض على كل الزهور، لكنه يُنصح بالاكتفاء بزهرة واحدة. الأمر فى اعتقادى لا يزيد على بحث يومى متواصل عن قطعة مفقودة تُكمل الصورة بهدف الاقتراب من فهم اللوحة الكلية حتى يأتى اليوم الذى يتوقف فيها مندوب الشحن عن توصيل الكتب أو تتوقف أنتَ عن النزول وشراء المزيد.

ويُكشف الغطاء وينتهى الأمر. لم أرَ الموضوع فى قوة الكتاب – وهو كذلك بل هو أقواها فى هذا الحقل بلا جدال - فكُتب فلسفة الدين فى بيتى وبِلغات عدّة تملأ مجمع التحرير، الموضوع هو ما انتهى إليه فيتجينشتاين نقلًا عن كانط: مالذى أستطيع معرفته؟ ما الذى عليَّ فعله؟ ما الذى يحقّ لى أن أرجوه؟ 
فى منتصف كتاب بحر بلا ساحل للمرحوم ميشيل شودكيفيتش عن سيرة ابن عربى إشارة إلى ما يشبه استحالة الإحاطة بالفتوحات المكية إحاطة شاملة، وأن كتاب الفتوحات ربما سيبقى إلى الأبد ممتنعاً على الجميع لأنه بحسب تعبير ابن عربى «علم لدنى يصدر عن إملاء إلهى».

يُشبِّه شودكيفيتش الفتوحات بقرن خِصب (المقصود تعبير يرمز إلى الوفرة فى الأساطير الكلاسيكية)، بحيث يجد فيه كل واحد وفق ذوقه وميوله، رموزاً ومصطلحات تقنية وأفكاراً وصيغاً من دون أن يشك فى تماسك المجموع ومن دون أن يبحث فى سـرّ هندسة أو بنية الكتاب.

وبمعنى أن أحدًا من الشُراح (القاشانى مثلًا وغيره) لم يُشكِّـك فى تماسك بنية الفتوحات. وكأن الفتوحات أشبه بمتاهة كونية، لكنها متاهة مزودة بمنافذ خروج. يدخلها المرء باحثاً عن شىء ما، وحالما يجده فعليه المغادرة سريعًا.

ولو تعثّر فيما لا يعنيه فعليه تركه (عملًا بمبدأ شيل على قدّك)، سماوات مفتوحة تجيب كل واحد بحسب حاجته وتعطيه بحسب طاقته.عند ك. ج. يونج الأمر نفسه، الأعمال الكاملة شىء مرعب، محتاجة إلى فريق كامل وحياة موازية للإحاطة بها، علم لدنى من نوع آخر، لا أحد يملك الطاقة ولا الوقت لقراءة الفتوحات كلها أو أعمال يونج كلها، وأظن – فى عصرنا الحالي- ولا العوسج الملتهب كلّه ويزعم تمثّل أفكاره تمامًا. فقرات بعينها هى المطلوبة: شيل على قدك. الانتقاء، لا فى الكتب وحدها، بل فى البشر أيضًا. 

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة