جون آشبرى
جون آشبرى


ممدوح رزق يكتب: صورة ذاتية فى مرآة محدبة.. العالم مأساة لغوية

أخبار الأدب

السبت، 03 ديسمبر 2022 - 01:42 م

ينحاز «جون آشبرى» إلى الوخزات المتلاحقة المستندة على نوع من الطيش. يستعمل المفردات كأشلاء أو شظايا مشيرًا إلى جسد ممزق أو بنية محطمة. الجسد الذى يكافح لأن يكون بديلًا لوجود محصّن تم تغييبه قسرًا، أو البنية التى تجاهد لأن تكون تعويضًا عن «كونية مستحيلة».

العالم هناك شاعر قد يبدو لقارئ ما أنه يعيش حالة «تأليه» للغة، وفى المقابل هناك شاعر آخر قد يبدو أنه فى حالة عداء «ساخر» معها. «جون آشبرى» بالنسبة لى هو أحد هؤلاء الشعراء الذين يمتهنون تقويض اللغة. أحد الذين لا تعد صراعاتهم مع الكلمات ظواهر شكلية لقصائدهم بل جوهرًا لمضامينها. فى مختاراته «صورة ذاتية فى مرآة محدبة» التى ترجمها غسان الخنيزى وصدرت عن دار روايات يمكن لنا التعرّف على هذه الغريزة الأسلوبية / الفلسفية لدى جون آشيرى لتفتيت ما يحتمل أن يكون «أثرًا لغويًا».

اقرأ أيضا| أحمد الزناتى يكتب: شـجرة الكون من أوراق العوسج الملتهب

«لا تضمن الغضب فى المسافة / التى يستلزمها الذهاب من هنا إلى التل وسط المدينة / حيث برج الياقوت. / آخرون غيرك قاموا بالرحلة، والقليل منهم وجد / ما يثير التعجب ما إن انقضى فعل الوصول. / كلماتك تحمل معانى كثيرة / بمجرد انطلاقها. احتفظ بقصيدة ساخرة / للجِرار بمجرد أن تنقضى / ستحملها كورقة اعتماد، / قطعة من الجلى لا تحقق شيئًا. / على طول النهر الصغير حيث وقفنا مرة / هناك أمور جديدة يجرى استيعابها / وكشف أسرارها. هل يهمنا هذا؟ / أم أن الوقت قد حان بالفعل للعودة إلى الداخل؟ / «على الواجهة البحرية» كان فيلمًا جيدًا. / هل نُنهى الحديث ههنا؟»

يقوم «جون آشبرى» بتخريب السياق بواسطة الإيحاء بدراما تسعى للاكتمال، أى تقبل التأويل كدلالة مستقرة، لكن القصيدة تقوم على «وهم المشهدية» أو التكوين «السرابي» لصور تدعى محاولة التجرد من نقصانها فى سبيل إزاحة المشهد كموضوع أو محو الصورة كمعرفة استباقية.

ونلاحظ هنا أن آشيرى يعيّن ما يشبه شفرة ـ مضادة للبلاغة ـ بين مفردات متقابلة لخلق مسافات مناقضة بين حضورها والرجاءات العفوية لهذا الحضور: «معانى  ساخرة»، «اعتماد ـ لا تحقق شيئًا».

و«استيعابها، كشف أسرارها ـ هل يهمنا هذا؟». كأن المسافة / الرحلة هى مسار إفساد التناغم بين الخطوات وتوقعاتها حيث يمكن اكتشاف هذا الانسجام المهشّم فى «الداخل» / الأنا «ككينونة شعرية»، أى حيث تقتل الكلمات وعودها.

و«الحياة بأحزانها، الحياة بدموعها. / وأنت تعرف ما يعنى ذلك: / السماء فى جارور، / والملابس الداخلية العالم السفلى / على أرضية القمر. / تحت مصابيح الطوارئ ذعر صغير يتنامى، / منزويًا على نفسه، يدوى / أمام أضواء مركبتك، بتموّج. / أنت للتو غدوت صغيرًا جدًا / وليس بوسعى إلا أن أحيطك / بالمنشفة الكتانية التى استبقيناها لهذا الغرض. / الطبيب أوصى بالراحة. / البقرة الحلوب.

وهو عمل فيه كسب، / غير أن الريع ليس عظيمًا بما يكفى / لكى تفرحوا أيها الناس / ليست هى الخلود، / هذه الأشجار الميكانيكية، أشجار الحور. / جيد معرفة أنك لا تفتك بها كلها بنفسك / فى الجهة الأخرى من الشارع يا عزيزي».

مقاربة ما يعادل لطشات هذيانية فى هذه القصيدة، تتدفق كحنين أعزل ومشرّد «ذكريات مفقودة وماض متأرجح من الاستعادات المبتورة والملتبسة»؛ هذه المقاربة تحيلنا إلى استفهام المتعة الحلمية الناجمة عن تأمل اللغة فى هذه الوضعية من التشذر والتناثر. تكمن هذه المتعة فى تخلى اللغة عن خداع التماسك «ثمة حق فى مكان ما يبرر خطاب الصلابة».

ولكى تسترد منطقها «غير التفسيرى» أو طبيعتها «اللاتبريرية» التى تراوغها وتنكرها طوال الوقت. تشير إلى تلك الذات المجهولة التى تتجاوز اللغة «العارية من التبجيل» فى احتجابها القهري. الذات التى يومئ لها ويؤكدها الذعر الغاضب نحو السماء، والمشكّل من أحزان ودموع ووعى انتقامى بالفناء.

و«عندما أفكر فى الانتهاء من عمل، عندما أفكر فى العمل المنجز، يغمرنى حزن عارم، حزن ويا للمفارقة يشبه الفرح. ها وقد وضعت ظروف العمل بعيدًا، فكينونته تتملكني، مثل قاطن منزل مستأجر. أين أنت الآن، أيها القلب الشريد؟ قد علقت فى مفصل، أو نفثت داخل طبقات الجدار، مثل أسلافك المغمورين.

وقد مُنحوا أسماءً الآن؟ من الأفضل ألا نسترسل فى الكلام عن حالنا، لكن أن نفعل ذلك هو أمر ملهم للغاية. مثل خوان ملآن بالقنانى والفاكهة. كما هى طائرة ورقية على شكل صندوق بالنسبة لطائرة ورقية. داخل التعثر. الطريق إلى التنفس. الرسم الكاريكاتورى على السبورة».

ينحاز «جون آشبرى» إلى الوخزات المتلاحقة المستندة على نوع من الطيش. يستعمل المفردات كأشلاء أو شظايا مشيرًا إلى جسد ممزق أو بنية محطمة. الجسد الذى يكافح لأن يكون بديلًا لوجود محصّن تم تغييبه قسرًا، أو البنية التى تجاهد لأن تكون تعويضًا عن «كونية مستحيلة».

بهذا الاستعمال «التعثر فى الأشلاء أو الشظايا» يمكن التحديق إلى ما أجبرت الفردية أن تكونه: رسم كاريكاتوري. محض هزل مؤقت. التحديق الذى قد يُسمى ـ بالتهكم اللازم ـ «حرية معكوسة». 

«الغرفة التى دخلتها كانت حلمًا بهذه الغرفة. / حتمًا كل آثار الأقدام على الأريكة هى لى. / الصورة الشخصية البيضوية / لكلب هى صورتى فى عمر مبكر. / شىء ما يتلألأ، شىء ما قد امحى. / كنا نأكل المكرونة ظهرًا كل يوم / ما عدا الآحاد، عندما يستجلب طائر سمان صغير / كيما يقدم إلينا. لماذا أخبرك هذا كله؟ / أنت حتى لست هنا».

كلمات فى صيغة من العراء الرمزى حيث يهدم المعنى نفسه فى اللحظة التى تحاول كل كلمة أن تحيل إلى برهانها الموثق. تنتج فكرًا يعاند الترابط، شبحيًا، مخلخِلًا، أقرب لموسيقى التفكيك التى تحوّل اليقين إلى دعابة هازئة.

ويتحوّل العالم إلى إرجاء جحيمى «لا أحد هنا» كحماية «حتمية» للمطلق. يتجسد الشعر كتجانس ثأرى مع هذا الإرجاء، أى أن الشاعر يوطد دليلًا دامغًا على أن أكاذيب الحكمة تتجلى ناصعة فى بصيرته. 

«كما نفذّها بارمجيانينو، اليد اليمنى / أكبر من الرأس، تندفع نحو الناظر / وتحِيد بسهولة مبتعدة، كما لو أنها تحمى / ما تعلن عنه. بضعة ألواح زجاجية معشقة، عوارض خشبية قديمة، / فرو، قماش موسلين بطيات عدة، وخاتم من المرجان / كلها تتعاضد معًا / فى حركة تسند الوجه، الذى يسبح / مقتربًا مبتعدًا مثل اليد / سوى أنه فى سكون».

وفى قصيدة «صورة ذاتية فى مرآة محدبة» التى كتبها جون آشيرى عن لوحة الرسام الإيطالى فرانشيسكو ماتسولا «بارميجيانينو» تُحكى سيرة التقنية الفنية التى أنتجت اللوحة ودوافعها وبصماتها كممارسة أقرب لفانتازم شعري.

والتشكيلات الحسية وأداءات الباطن والحركة التشابكية للنظرة. يرسم «آشيري» اللوحة مجددًا بالاعتماد على عزل اللغة عن الرغبة المقموعة، المخاتلة من وراء القدر، حيث الأشياء «ليست هى نفسها».

و«السر فى الأمر أوضح ما يكون. الخيبة فيها تلذع بالألم. / تجعل الدموع الساخنة تفيض: لأن الروح ليست روحًا، وليس لها سر، ضئيلة، وتلائم تمامًا / تجويفها: غرفتها، ولحظة الانتباه خاصتنا. / ذلك هو اللحن وما من كلمات».

الرغبة المقموعة ساطعة فى الشكل الكروى للحياة، واليد التى تريد الخروج من الكرة تحاول القبض على ما خارجها المعتم. تصفية الحساب مع الأسباب المقدسة لنفى الذات الأصلية «المستحقة للوجود» واستبدالها بألم دون معنى. بروح «ليست روحًا» لأنها مصنوعة من بلاغة خائبة.

اليد تسخر من جُرم التجروء على «السحر غير العادل» حين تسعى لاختراق مسافاته الطاحنة «كما تبدو الصورة فى المرآة المحدبة»، للانفلات من ديناميكيات القتل، نحو الحماية الإعجازية المحرمة.

«ذيول الحركة التى تؤرجح الوجه / فى مرمى النظر تحت سماوات المساء، دون معمعة زائفة كزعم بالأصالة. / إنما هى الحياة مكنونة فى شكل كرة. يود المرء لو يخرج يده / من الكرة، لكن امتدادها، وما يحملها، لن يسمحا بذلك».

نظرة «بارمجيانينو» هى الألواح الزجاجية، والعوارض الخشبية، والفرو، والقماش فى قصيدة «آشبرى». النظرة المترنحة بشبقية الحسرة، بموضوع اللذة المفقود داخل ما يكوّن فضاءً «ديستوبيًا» للجسد. بالشفقة تجاه الماضى الذى تم تضييعه ـ عمدًا ـ فى مفارقات العنف والشروط الغامضة للعجز. 

«لا تطلب منى الذهاب إلى هناك مرة أخرى / الأبيض موجع جدًا / نسيانه أفضل / النهر النائم تحدّث إلى الأرض اليقظة / عندما سحبوا الأسلاك أول مرة / عبر الحقل / استقر الهواء ببطء / على البحيرات / المرآة الزرقاء ظهرت للضوء / حينئذ خشى أحد ألا تكون / برك الماء درعًا كافيًا / فتستنفد السماء / الضوء انبثق / الإيماءة السابحة / فى النهاية شفق.

ولن يحرس أوراق الشجر / موت لن يجرب الصراخ / شواطئ سود / ومن أجل ذلك أرسلت بطاقة بريدية سوداء لن تكل سماعك قط / من أجل ذلك الأرض تناشد البئر. / الأبيض يسرى فى أخاديدها / النهر ينزلق تحت أحلامنا / غير أن الأرض تنساب فى صمت أكبر».

العالم أقرب إلى مأساة لغوية عند جون آشيرى، لذا فهو يضع «الشعر» فى مواجهة الإرادة المتفاخرة للغة. ذلك أيضًا ما قد يجعلنا «نشعر» بأن قصائد آشيرى تحاول التخفف من ثقل متعدد بينما تمثل / تفضح التشوش الذى يحاول مداراة نفسه وراء أخلاقيات «انتهاكية». التشوش كحاجز غيبى يفصل بين الصمت «الخارق» وعقابه اللازم. بين التعاسة وسرها «البدائي» (الذى لا يقع داخل الكلمات).


«ودائمًا فى هاجس ابتلائها بظل اندفاعات الخبيثة التى هُيئت واستُنفدت بالفعل فى خواء من الظلمة، مملكة يعرف أن ليس بوسع الأرض تحمّل عناء اجتنابها إذا تحيّن للدقائق ولكتبة مقدسين بصيحاتهم الضاحكة.

والمجئ فى مساء التدبر وفى الليل الذى لا علاجًا، ولا طائر أكثر إلزامية، ولا موضوعًا يتقصد شيطان قلبه، بقادر على التكهن به حتى لو أضيئت بمثابرة الحقائق التى جاء بها واحدة بعد الأخرى، فى تلك الغرفة الصامتة والمتسارعة ظلمتها». 

إن النبرة «العدمية» التى تومض فى شعر جون آشبرى لا تنبع من «التلغيز» وإنما من تقمص اللغز نفسه. من التوحد بالشر المبهم «ماهية الوجود» فى صوره المقطّعة والمدوّخة والأشبه بدوامات حادة من فتات أسطورى لفرديات «إلهية» مجهضة، لم يُسمح إلا لنسخ منها، قاصرة، معطوبة ووحشية بالمرور إلى الفكاهة الأزلية الجامدة «الحياة والموت» حيث يرعاها المجاز الاستعبادى ويضمن توالدها وتبددها.

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة