حراس الحزن
حراس الحزن


حراس الحزن: الفضاء الحلمى والفضاء الآخر

أخبار الأدب

السبت، 03 ديسمبر 2022 - 02:25 م

يحيلنا السارد / البطل – فى بدايات خطابه السردى – إلى مجموعة من المراجع المكانية؛ مثل بلدة خور عاج؛ وهى مرجع مؤجل؛ لتحول مسار انتقاله إليها باتجاه العودة إلى منزله وعمله، وصحراء العتمور القاحلة؛ وهى تتصل – فى تضمينات الخطاب، ومضمراته – بالفضاء الآخر الفسيح الكامن فى الفضاء الحقيقى نفسه.

تتحاور السياقات، وتتداخل، وتتعارض أحيانا – إذا – فى نموذج التواصل بين السارد، والمروى عليه؛ إذ يحدث هذا التواصل، ويتطور فى سياق ثقافى معرفى يعزز من تضاعف الفضاءات الحلمية، والافتراضية، والممكنة، بينما يتضمن خطاب السارد مؤشرا سياقيا زمنيا يحيلنا إلى سبعينيات القرن العشرين.

ونلاحظ أن زمن التواصل بين السارد والمروى عليه يعزز من عمق الفضاء، وتعددية مستوياته؛ أما زمن السبعينيات فيتجلى فى بعض الشخصيات الهامشية، ومحاكمة البطل الرمزية، ومخاوفه، وصعوده الوظيفي، وهبوطه العبثي، وغيرها؛ تتشكل وحدة الخطاب إذا من التقاطع.

والتداخل بين السياقين الزمنيين الثقافيين، وأثرهما الجمالى على الشخصيات، والأصوات المتقطعة، والفضاءات الواقعية، والفضاءات الأخرى المملوءة بالآخر / الآخرين المحتملين، والانطباعات الداخلية، والرؤى الإدراكية المولدة عنهم فى وعى البطل / السارد.


ويمكننا – إذا – قراءة رواية حراس الحزن ل د. أمير تاج السر وفق المقاربة المكانية – متعددة التخصصات لدى روبرت تاللى جى آر، وبيرتراند ويستفال، وفرانكو موريتي؛ للكشف عن مدى تضاعف الفضاء، واتساعه، وعلاقة الفضاء بالزمن، ونسبية إدراكه، وثرائه الداخلي، وبناء شبكة الشخصيات الفنية وفق تأثيرى الكم.

والخطاب فى النص الروائي، كما يمكننا قراءة بعض الأماكن وفق الاستعارة الإدراكية عند لاكوف، وفوكونير، ومارك تيرنر؛ إذ ينسج الخطاب علاقة استعارية بين الفضاء الواقعى الذى ينطوى على فجوة فيزيقية / أجزاء متهدمة، أو حوش جانبي.

أو فضاء قديم داخل الحالة الذهنية مثل فضاء الشجرة فى حى المستشفي، والفضاء الحلمي، أو الفضاء الممكن الذى نعاينه فى مساحة رأسية – إدراكية فيما وراء الفضاء الواقعى نفسه.


ويحيلنا السارد / البطل – فى بدايات خطابه السردى – إلى مجموعة من المراجع المكانية؛ مثل بلدة خور عاج؛ وهى مرجع مؤجل؛ لتحول مسار انتقاله إليها باتجاه العودة إلى منزله وعمله، وصحراء العتمور القاحلة؛ وهى تتصل – فى تضمينات الخطاب، ومضمراته – بالفضاء الآخر الفسيح الكامن فى الفضاء الحقيقى نفسه.

وفق علاقات الربط المنتجة بواسطة التأشير العائدى / الأنافورا؛ ففجوات منزل التائه، والفراغ المجازى فى منزل السارد، وفضاء الشجرة الحلمى تتصل بتلك الفجوات – فى وحدة الخطاب – بوصفها فراغا غامضا يحتمل الامتلاء بالحكايات، والأصوات الحلمية المتقطعة، أو السحرية؛ ويستعيد البطل فضاء الشجرة.

وفى حى المستشفى بوصفه فضاء يقع بين الحقيقي، والذاكرة المتضمنة فى الحالة الذهنية للسارد، والتى تعزز من الاستقرار، والأصالة، ودائرية حضور الشجرة، وفضاء الشجرة الحلمي، والذى نعاين فيه الشجرة مقطوعة وساقطة على الأرض.

وكأن الفضاء الحقيقى ينطوى على هوامش حلم السقوط، ويوحى – فى تضميناته – بالانبعاث الممكن، والتجدد، ولعب العلامة، ومراوحتها بين الحضور، والغياب، والعودة فى فضاء أدبى آخر تتنازع فيه أخيلة المدرسة، والصحراء.

ونغمات المكان الآخر / المؤجل؛ ثم يحيلنا إلى المرجع المكانى الرئيسي؛ وهو المنزل وقد أقيمت فيه احتفالية وداع ملتبسة، وغامضة، وتشبه الحلم فى غرابة الوجوه، والأصوات، والحوارات، واتصالها بتناقضات الغناء والصمت، وشخصية الأنثى الرائحة، أو الأنثى كمجال فنى هوائى غير مرئى فى الحفل.

والسجان الذى يبدو مثل مفتتح للمحاكمة العبثية البهيجة فيما بعد؛ وأرى أن شخصية الأنثى الأقل من جهة الكم لها أثر كبير فى وحدة الخطاب، وعلاقات الشبكة المكانية للخطاب بوصفها بوابة للعالم الممكن القائم رأسيا فى بنية الفضاء الحقيقى المؤجلة.


وإذا أعدنا قراءة حدث حفل الغرباء – وفق الاستعارة الإدراكية – سنعاين التشابه بين فضاء المكان الحقيقى الذهني، وفضاء المكان الحلمي، أو الممكن الذهني؛ فكل منهما يحتمل وجود الصور المقطعة المتلاحقة، والحكايات المتداخلة غير المكتملة.

والأصوات التى تبدو مثل نغمات متوالية، ومتداخلة وتتصل بنغمات مماثلة ضمن فضاءات أخرى تتصل بمستويات اللاوعى العميقة، أو بالذاكرة، وأصواتها المحولة سيميائيا؛ كما يتشابه الفضائان الذهنيان فى تلاحق الصور.

وإن كان إيقاع الصورة أسرع فى بنية الحلم، كما يختلف الحلم عن الحقيقى فى تلاحق الأماكن نفسها فى سياقات متعددة، وإن كان حفل الغرباء يمنح السارد أثر الغرابة المجازية من جهة، واحتمالية تغيير السياق، والمراجع المكانية فى الفراغ الرأسى للمنزل من جهة أخرى؛ فالأصوات تبدو مثل نغمات حلمية.

ويكثر فى خطاب السارد البطل الأسئلة / أفعال الكلام التوجيهية التى تتطلب إجابة مؤجلة حول الغرض من الحفل، وذلك الظهور البكر لشخصيات تقع بين الوعي، والواقع، فضلا عن تشكل مشهد الحفل كبيان بصرى بصورة غير مكتملة.

وهو ما يوحى بوجود شخصيات أخرى تقع فيما وراء الأفق البصرى للسارد، ومن ثم قد ينفتح المكان على فضاء ممكن آخر فيما وراء الحوش، ويتضمن شخصيات تحمل أثر الغرابة، أو تتشكل كمجال طيفى هوائى مثل الأنثى المجردة كرائحة فى الحفل، ويحيلنا السارد فى نهايات خطابه إلى خاتم.

وحذاء كبير لشخص آخر غائب؛ وكأنه يقيم علاقة ارتباط أخرى – وفق التأشير العائدى – إلى حفل الغرباء الأول، واتساع المكان الحقيقى فى المكان الآخر المحتمل؛ ومن ثم يتشكل فضاء المزج من الاتصال الرأسي، والأفقى بين الحقيقى مثل منزل السارد.

ومنزل التائه، بفضاء الحلم، والفضاء الآخر / المجرد الذى ينطوى على نغمات الرعب، والبهجة، والاتساع، ومعاينة الحكايات الناقصة التى تشبه أصوات الصحراء، ونغمات الحلم، وحلم اليقظة، وأصوات الأدب؛ ويؤكد ذلك التوجه التحقيق الذى تعرض له البطل بسبب عطفه على طفل.

وكأنه يستدعى طيف جوزف ك فى رواية المحاكمة لكافكا، ويذكرنا بحديث دريدا عن علاقة الأطياف بالمراجع المكانية، والشخصية / الفنية؛ وإن جاءت المحاكمة العبثية هنا مختلطة بالبهجة والسخرية، وعبور مركزية حدود الفضاء الفيزيقي.


ويستشرف روبرت تاللى جى آر – فى كتابه حول الوعى بالمكان الصادر عن روتليدج بنيويورك 2013 – تجدد الحساسية الإدراكية الجديدة للمكان فى السفر الافتراضي، والكوني، وتحقيق تجارب فنية جديدة.

واكتشاف أبعاد أخرى للإدراك البصرى غير النهائى فى اكتشاف الحقيقى عبر التصوير؛ يرتكز خطاب تاللى النقدى المكانى – إذا – على الاتساع فى الإدراك البصري، وتمثيلاته الموازية لانتخابه لفعل السفر الافتراضى فى المكان؛ أى أن التجارب الإدراكية تتسع مع وفرة الأماكن المحتملة؛ وهو ما نلاحظه فى عبور فجوات المكان الواقعى فى حراس الحزن؛ فسارد د. أمير تاج السر ينتخب – وفق نظرية الصلة – العنصر الأكثر أهمية فى تواصله مع المروى عليه.

وهو مؤشر اتساع المكان فيما وراء الفجوات، والحكايات، ووفرة الشخصيات الحلمية التى تحمل أثر الغرابة فى المكان الممتد والذى يستنزف حدوده الخاصة، كما يحيلنا إلى عبور حدود منزل سلوى بطرس عن طريق أمنيات والدتها الغريبة التى تتحقق غالبا فى فضائات  أخرى تجمع بين حالتها الذهنية، وأثر الحقيقى فى آن؛ فالأم هنا هى فجوة عبور منزل سلوى باتجاه الفضاء الآخر.


ويجمع خطاب بيرتراند ويستفال النقدى / المكانى – فى كتابه العالم المعقول، الصادر بترجمة إيمى د. ويلز عن بال جريف ماكميلان بنيويورك 2013 - بين وجود مكان استعارى نسبى آخر دائما فى رسم الخرائط؛ ويمثل لذلك برؤية سيرفانتس النسبية لأسبانيا فى دون كيشوت، وعلاقة الفضاء بالزمن فى رواية أوبرا رسام الخرائط لبيا غونزايس.

والإحالة إلى رسوم فيرمير الدائرية، وثراء بنى إدراك المكان فى سياقى الحداثة وما بعد الحداثة بين المحدودية، والاتساع الفائق؛ وسنعاين هنا محاولة السارد / البطل إعادة رسم خريطة حى المستشفى، ومعاينة حبه الصامت الأول لسمية، واستقرار الشجرة المنهارة فى الحلم.

ومن ثم تتداخل وظائفه مع رسام الخرائط النسبى وفق منظور ويستفال المكانى الذى يؤكد نسبية عمل رسام الخريطة، والسارد، ووجود مكان استعارى آخر دائما فى هوامش الحقيقي؛ ومن ثم نعاين عامل الأصالة والاستقرار ومقاومة غياب الشجرة، وغياب العلاقة الصامتة القديمة بسمية.

وهو العامل الإدراكى النسبى الذى يشكل رسم السارد لخريطة المستشفي؛ وهو يحيلنا إلى أثر شخص غائب فى منزله؛ كى يعزز من عامل الاتساع، ويؤكد تضاعف المكان، وهامشه الاستعارى الذى يقترب من سياق التواصل الآنى بينما يحيل إلى فضاء سبعيني؛ ومن ثم تتداخل آثار الأزمنة.

وتتحاور فى وحدة الخطاب، ويشير السارد – إذا - فى رسمه لخريطة المنزل الأخرى إلى فعل كلامى وعدى بتجدد حضور الشخصيات الغريبة، ومجالاتها الهوائية المجردة، وكذلك يعد بانفتاح فضائه مثل انفتاح فضاء التائه، وعبد العال، ويعد بالغناء البهيج والصمت العبثى مرة أخرى فى الهامش الاستعارى المتجدد للفضاء.


ويقيم الناقد الإيطالى فرانكو موريتى تصورا لشبكة الشخصيات الفنية المتجاوزة لمركزية التسلسل الزمنى ضمن تصور نقدى مكانى جديد – فى كتابه حول قراءة المساحة المكانية للشخصيات الفنية، صدر عن فيرزو بلندن ونيويورك 2013؛ فشخصيات الماضى لا تغيب فى شبكة العلاقات المكانية.

ويعاد اكتشاف أهميتها وفق أثرى الكم، والخطاب؛ وهو يعزز مثلا من هوراشيو، وحفار القبور فى هملت لشكسبير رغم انخفاض حضورهما الكمى لاتصالهما بعالم أكثر تجريدا؛ وسنعاين شخصيات كانت أقرب لاتساع الفضاء وتضاعفه فى خطاب سارد د. أمير تاج السر فى حراس الحزن.

وهى الشخصيات التى كانت مثل بوابات تمثيلية لعبور الفضاء الفيزيقى باتجاه الفضاء الاستعارى الآخر؛ مثل عبد العال، والتائه، ووالدة سلوى بطرس؛ أما كل من شخصيتى الرجل الغائب صاحب الخاتم، والأنثى الهوائية فكانتا ضمن الفضاء الآخر نفسه فى اتصاله بالحقيقى المؤجل.

اقرأ ايضا | د. فتحية سيد الفرارجى تكتب: رحلة آنى إرنو نحو العالمية

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة