صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


هدى الهرمي تكتب : أصوات مزّقها السِّياج

أخبار الأدب

السبت، 03 ديسمبر 2022 - 05:01 م

لماذا لا تجلس على طرف السرير، وترمى وسائد صدرك الفارغة أو تغرز أجنحتك، لترتدّ مرنة وتكٌفّ عن افتعال أحلامك الغريبة كظامئ ملقى فى بركة جافّة.. لكن لا حياة أخرى تدور فى عروقك حين تضع رأسك بين كفيّك ليندفع صوت بوق فاجع من حلقك، ويسقط فوق أسطوانة عتيقة فى بيت وحيد على الشاطئ!


ظل وجه أحمد جامدا والسيد هيثم يهتف به فى نوبة فلسفة قائلا بتوتر :
كان من الممكن أن تكتب أكثر من أى وقت، بدل التحديق فى صورتك كل ثانية، أو تنفخ الغبار المتراكم فوق مكتبتك الضخمة وتتصفح ما يمكنك قراءته، كى تطعم مزاجك المتلهف لاستقبال الأصوات المشبكة بالورق.


لقد سمعه بوضوح ولم يرفع رأسه عن الأرض وهو يتأمل خطواته، وانتظر أن ينهى خطابه.


رفع السيد هيثم يده ثم ربّت على كتف أحمد وقال بهدوء عجيب :
قد تفشل فى محاولاتك العديدة للخلاص من جزعك، مخافة أن يضيع صوتك، كأخرق أدار ظهره لحزمة الدفاتر والكتب بكتفين ضامرين، لأنك لا تقوى على الإمساك بها، فيراودك شعوك بالحنق كلما وقفت أمامها إلى حدّ تودٌ فيه تمزيقها.

وستفكّر حتما فى رميها للبحر، لتطعم الأسماء الفضيّة حين تتحلّق حولك، لكنك تنسى أنّ السمك يقتله الورق ويفتكّ بمعدته الصغيرة... تراه لو ابتلع مثلا رواية «كافكا على الشاطئ» لهاروكى موراكامي.

هل يتقيّأ للوهلة الأولى جميع الشخوص؟ أم تنبت فى البحر عوالم غرائبيّة تلقنها حكّ خياشمها؟ أو يحدث أن ينتابها سعال حادّ وتشربَ فصلا دراميّا يشوّه فطرتها... ربما يظهر شرخ كبير فوق جلدها السميك ويهتك زعانفها، فتتحوّل وتصبح برمائيّة، وتغادر الأعماق السحيقة دون رجعة.

طوال الطريق، استشعر أحمد قلقا يشقّ صدره بلا هوادة، وهو يغوص فى دوامة من الهواجس، كأنه لا يهتم لثرثرة رفيقه وصلا أخيراً إلى البار، وكانت هذه المرة الثالثة التى التقيا فيها لقضاء بعض الوقت معا.

وقبل أن يتوجه الرّجلان ناحية الباب الأزرق العريض، أردف السيد هيثم قائلا -لكن صوتك المجوّف يسرى مع الجداول الجبليّة بجنون، ثم يصعد إلى الغيوم المترحّلة، ليعوى من ذلك العلّو الشاهق.
هزّ أحمد رأسه فجأة، وهو ينظر إلى رفيقه باستغراب. وقف فى مواجهته وقال متحمّسا:


لا بدّ أن يعود إليَّ كشيء ذى قيمة، لكنك لا تدرى غالبا أننى كاتب يصطاد الأصوات العجيبة فوق تلّة صغيرة.


خطا السيد هيثم نحوه ببطء وكان مبتسما :
هكذا جرت العادة حين تبحث عن نقطة بدء ثانية. ولم تزل كذلك حتى الساعة !


هنا، وقبل أن ينغمسا فى متعة مرفوعة بين الكئوس، بينما العيون المنفرجة تتحرّك صوب زجاجتين كبيرتين من النبيذ، غادر أحمد فجأة المكان تاركا بعض الأوراق النقدية فوق الطاولة المرتفعة قبالة الساقي.

كان يحسّ بأنه لا يوجد شيء يضمّد صوته الراجف فى حانة ضيّقة تكبّل عنقه، وتسكت قرقعة ذهنه ولسانه المتحمّس لصياغة افكاره المجنونة، وسمع صوت رفيقه يهتف به : 
ما بك ...الى أين يا صاح؟

أركض للخارج هاربا من المكان، وبحث لهنينة عن الطريق، فأطلّ من فوق الحاجز الأحمر أمام بهو الحانة، ثم اعتدل فى وقفته.. كان مرّة يهزّ رأسه معتقدا أن السماء تجاريه فى إيجاد معنى لصوته المندلق كالمطر حين يتكبّد مشقّة الصراخ فى أوج وجعه من ثقل السكوت، لكنه يفتقد لبوصلة واطئة ليضع الأمور فى نصابها. 


رفع يده إلى رأسه وحرّك شعره الكثيف كأنه يغرف هتافاته المحظورة والغامضة، فتنزلق بطيئة وتلتصق بوجهه، ثم تدور إلى أن تصل لفمه المنبسط وتهجع فوق شفاهه الباردة، ويصبح الأمر كلّه حكاية سكوت تتحرّك بحذر فى حلقه المنغلق، ثم تباغت جسده، فتنتفض أطرافه طوعا لأصوات مزّقها السّياج وهو يرفع جبينه بالكاد محاولا أن يتكلّم. وخُيّل إليه أن العالم برُمّته واقف أمامه.. فيهزّ رأسه ويبتسم.


ماذا حدث لك ؟ 
صوت هيثم، كان مثل البوق وهو يصرخ ويبحث عن مبرر لصاحبه، ثم يتبعه وهو يقرع الأرض، محاولا إيجاد تفسير لما حدث فى لحظات، ومستغربا تجاهله له.


توقّف أحمد فجأة كأنه مُستعدّ ليلتفت خلفه ويمد يده ليربّت على كتف رفيقه وهو يحدٌق إلى وجهه ويشعر بتنفسه الثقيل. ثم أكمل سيره بكل برودة دم. 


هل أبدو ثرثارا ومزعجا؟
صاح السيد هيثم ثم اندفع وراءه مرة ثانية فى محاولة يائسة ليلتحق به. كانت عيونه تلتمع بالقلق والحيرة، وأحسّ فجأة بدُوار شديد بعد الجهد الذى بذله بسبب ما يعانيه من سمنة غير ملائمة للهرولة، جعلته يشعر بمغص فى الأمعاء وثقل فى الرأس.


لكن أحمد كان يراوغ رفيقه لإعفائه من ملاحقته ويخدش صمته المزعوم بالهروب إلى وجهة غير معلومة. على حين غرّة أمسك بتلابيب سترته شيء ما، ثم غرز فى عنقه إبرة حادّة شلّت حركته تماما، لكن صوته بدأ يتقافز فى الحنجرة ثم يتلعثم كأنه يهذى وهو يقول: تبّا لكم ...اتركونى وشأنى !

اقرأ ايضا | مؤمن سمير يكتب: قصائدُ من «ذاكرة بيضاء»

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة