صورة تعبيرية
صورة تعبيرية


حكايات| حمير أُم شوقي.. أغرب رحلات الكارو والعربجية في شوارع القاهرة

ياسين سعيد

الإثنين، 05 ديسمبر 2022 - 03:19 م

تحت شجرة «الكافور» العتيقة أمام ساحة المدبح القديم «مدبح مصر»، كانت ترقد «أم شوقي» وعربجيتها الذين تناثروا حول «الخندق» تظلله الشجرة المتهالكة، وكان وضع هؤلاء في رقادهم يشبهون «تنابلة السلطان» في الروايات القديمة، يشاركهم الرقاد مجموعة من الحمير المتهالكة التي تبحث بين الفينة والأخرى في حصباء الأرض أو تحرك رأسها ببطء شديد ليذهب ما عليها من ذُباب. 

 

عربات «كارو» جاءت شبه مفككة لتكمل باقي المشهد حتى يظن الرائي للوهلة الأولى أنه أمام أحـد مقالب الزبالة.. كُـل شـيء حـول «الخندق» الذي تظلله الـشـجرة كـان يـوحي بالـصمت والنعاس إلا عيني «أم شوقي» التي كانت تنام نوم الثعالب.. عين مغمضة وأخرى متيقظة بحثًا عن زبون تلقي به المقادير، حيث لم يكن هناك طلب لعربات «أم شوقي» إلا في الضرورات الـقـصـوى فـحـميـرهـا تـقـف فـي الـطـريـق أكثر مما تسير.

 

وإذا سارت الحمير فـسـيـر الـسـلاحـف والـعـربـات الـكـارو تنحـرف عجلاتها يمينًا ويسارًا دون أن تـقـدر على السير في خط مستقيم أمـا العربجية فـقـد كانوا مـن الكهـول الذيـن تـراوحـت أعمارهم بين الستين والثمانين. فكان منهم «عم فانوس» وعم «جرجس».

 

وقد اضطر «سعد البوشي» جزار الـعـفـوش ذات مرة أن ينقل بضاعته إلى «حي شبرا» وذلك قبل العصر، وظل الحمار يتوقف في الطريق المرة تلو الأخرى و«سعد» يصرخ ويلطم بسبب البطء الشديد للحمار الذي لم يفلح معه ضرب أو زغد حتى وصلت الـعـربـة بعد العشاء ورفض صاحب المحل استلام الـعـفـوش لما أصابها من تلف «ومرمطة» فما كان من «سعد» إلا أن أمسك بـ«نخلة» وأخذ يرفعه في الهواء ويسقطه على الأرض حتى تدخل أهل الخير لدى صاحب المحل فقبل استلام البضاعة على مضض.

 

اقرأ أيضًا| فن الخناقات الشعبية.. لغة بائعي «الكرشة» بين المدبح والمغربلين

 

هكذا كانت تنتهي في معظم الحالات رحلة نقـل الـلـحـوم لمسافات طويلة على عربات «أم شوقی»؛ مما جعلها تحدد مسافات قصوى لا تذهب أبعد منها وهي: أطراف حي «السيدة زينب» وما قبل دوران أبو الريش وعلى الجهة المعاكسة إلى أول الجيارة.

 

وكانت «أم شوقي» هي العربجية الوحيدة التي تقبل أن تنقل نساء المدبح من مساكنهن المترامية على أطراف الحي إلى سوق «الحتت والطبالي» الملاصق للسلخانة، وكان معظم هؤلاء النساء من معلمات الكرشة اللائي تميزن بعدم القدرة على السير بسبب ضخامة أعطافهن التي تهتز اهتزازًا واضحًا أثناء الثير، والتي لم تسلم من سخرية المارة طـوال الـطـريـق وصفًا وتعليقًا فآثرت هؤلاء المعلمات السلامة بإكراه «أم شـوقي» على تخصيص عـربـة لـنـقـل كـل واحدة منهن إلى العمل في الصباح والعودة بها في المساء. وكانت المعلمة «سيدة فشة» من أشهر زبائن «أم شوقي».

 

تنقلها عربة «عم شفيق» يوميًا إلى المدبح والعودة بها فكانت عربة «عم شفيق» يوميًا إلى المدبح والعودة بها، فكانت «قهوة الكعبيري» هي محطة القيام، حيث تنصب لها دكة لتصعد عليها إلى العربة التي يجرها حماره الصغير «أورنو» ذلك الحمار الذي كان يترنح أثناء السير وهـو يـجر العربة ذات العجلتين من ثقل ما يحمل حتى إذا ما انتهى من شارع الجيارة إلى سكة المدبح وجه عجلتي العربة حتى تسير على شريط الترام لـتـكـون حـركـة العجلتين أكثر سهولة وكانت قهوة «سید عويس» هي محطة الوصول فيأتي «سید کرکر» عامل المقهي بدكة يثبتها بشدة على الأرض بينما تتخذ «فشة» من كتفه مسندًا للنزول.

 

وفي إحدى المرات مالت العربة بالمعلمة «فشة» إلى الخلف حتى سقطت على الأرض وتعـلـق الحمار «أورنو» فـي الـهـواء فصاح الجميع. وكانت عربات «أم شـوقـي» ملجأ للنصابين من الصبية وأشباه المعلمين على حد سواء، فالصبية يغافلون العربجي الذي ينام في الطريق ويفرون ببضاعتهم عند منتصف المسافة دون أن يدرى العربجي وجهة الهروب فيظل يبحث عنهم دون طائل وأشباه المعلمين يـدفـعـون نـصـف الأجرة المتفق عليها بحجة التلف والنقصان الذي أصاب اللحم بسبب بطء الحمار.

 

 

 

ولم تسلم «أم شـوقي» كذلك من نصب واحتيال النساء أيضًا فذات مرة أرادت بعض بائعات الـكـرشة الذهاب للقيام بواجب العزاء في والدة إحـدى صـديـقـاتـهـن قـد مـاتـت بـحـي مـصـر الـعـتـيـقـة ولبسن الملابس السوداء وهن متشحات أيضاً بالطرح السوداء. فطلبن من «أم شـوقى» تحضير ثلاث عربات زاعمـات حـضـور حفلة عُرس المعلم «مصـطـفـى الـدوكـش» أحد معلمي المدبح وصاحبت «أم شوقي» الركب لما تشككت في الأمـر وعـنـد الـوصـول فـوجـئـت بـالـصراخ والـعـويـل واللطم.. ولما طالبت «أم شوقي» بالأجرة صرخت في وجهها إحـدى بائعات الـكـرشـة بقولها: «مش كفـايـة مـوت الـراجـل هـو مـوت وخراب ديار».


 
كانت كمائن الإنجليزية أو كمائن «بروك» هي أخشى ما يخشاه العربجية على الطريق؛ فلقد أنشئت «الشفخانة» (المشفي البيطري) في أحد الـعـصـور القديمة لرعاية الدواب وعلاجها ثم أهملت بمرور الوقت حتى أعادت إصلاحها سيدة إنجليزية تدعى «مـسـز بـروك».

 

وقد استطاعت «مـسـز بـروك» الإلحاح على الحكومة المصرية لإحياء قـانـون مـصـادرة الدواب التـي تـعـانـي مـن الجـروح أو الأمراض؛ لـذا كـان يـصـاحـب هذه الكمائن عربة شرطة لحمايتها من تحرش الـعـربجية الذين تُـصـادر دوابهم وسيارة نقل ضخمة تحتوى على صندوق كبير لنقل الدواب للعلاج إضافة إلى ذلك كان يصاحب الكمين أطباء بيـطـريـون وعمال المصادرة إلى «الشـفـخـانة».

 

اقرأ أيضًا| ممبار يولع القلب نار.. «درب المسمط» بين طعام الفقراء وأشواقهم

 

ويتم كل هذا تحت مسمع ومرأى «مسز بروك» الـتـي كـانـت تًـصـر عـلـى أن تـكـون مصاحبة لهذه الكمائن. ولكم تجنب العربجية المرور بدوابهم في طريق الكمائن التي تتخيرها «مسز بروك»، فكان ميدان أبو الريش القريب من المدبح هو أهم الأماكن التي تنصب بها هذه الكمائن، حيث تقاطع سكة بها المدبح والبغالة وشارعي الـسـد الـبـرانـي والجـوانـي، وكان هذا الميدان هو ملتقى العربات القادمة من الإمام الشافعي متجهة إلى «السيدة زينب» و«الحسين» مع العربات القادمة من شارع الخليج المصري وهـي فـي وجهتها إلى مصر العتيقة وإسطبل عنتر.

 

ولكم كان لطم الخدود وشـق الجلاليب هو رد الفعل عنـد الـعـريـجـي حين كانت تؤخذ منه الدابة التي تمثل مصدر الرزق الأساسي له ولأسرته، وفي إحدى المرات قام أحد العربجية الذين أخذت دابتهم بتمزيق كل ملابسه وخلعها حتى أصبح عاريًا وسط الناس وقام بجر عربته بنفسه بعد مصادرة حماره وهو على هذه الحالة يلف بها ميدان أبو الريش وهو يصيح «ظلم ظلم ظلم». ولـكـن ضابط الكمين أصر على عمل محضر اتهام (خدش حياء) فـي الـطـريـق الـعـام.

 

وبسبب هذه الكمائن كان على العربجية زيارة «عيادة الحناوي» التي لم تـكـن سـوى دكان صغير بأول سـكـة البغالة؛ لذا كان اللجوء إلى محل الحناوي لمعالجة الدواب هـو لجوء اضـطـراري ليس لعلاج الحمير أو الرأفة بها وإنما الخشية من كمائن الإنجليزية.  


وكانت المواد الطبية التي يستخدمها هي التي تندرج تحت اسم العطارة، مثل «الحناء» و«الأرد» و «الـكـرکـم» و«الششم» ولقد كان بعض العربجية يصرون على أن يكون ثمن العلاج شاملًا له ولـدابـتـه؛ فـيـقـوم الحناوي بغسل جروح العربجي التي كانت تنتشر في أقدامه؛ مما اضطر الحناوي إلى إدخال مادة «الميكروكروم» إلى صيدليته المتواضعة.

 

وكثيراً ما كانت تأتي حملات حكومية من الوحدات البيطرية للتفتيش على تراخيص المحلات؛ فكان أصحاب هذه المحلات والورش يتركونها هربًا إلى المقاهي أو الحارات لرصد «حملة التفتيش» من مكان بعيد حتى تذهب هذه الحملة إلى حال سبيلها، لكن ضابط الحملة كان في بعض الأحيان يأمر بإغلاق المحل مع ختمه بالشمع الأحمـر حـتـى وإن لـم يـكـن بـهـا عـمـالـهـا وأصحابها.

 

وكان فك هذا الشمع من طرف صاحب الدكان بدون إذن رسمي يعد جناية من الجنايات ولذلك فقد قام الحناوى بـعـمـل باب دكانه من النوع المتنقل الذي يثبت بحائط المحل من الخارج عبر كوالين من الحديد فإذا ما شعر «الحناوي» بلجنة التفتيش حمل الباب معه وهرب به إلى منزله القريب.  

 

في إحدى المرات تأخر المعلم «مصباح» ببضاعة مسمطه من رءوس بأنواعها من ضأن وبتلو وعـجـالـي وجـمـلـي ومثلها من الكروش والمصاريـن وأخـذ يُـغـري «أم شـوقـي» بسخاء القيمة التي سوف يدفعها إذا ما أوصلت بضاعته إلى «باب البحر» بحي باب الـشـعـريـة، فـخـرجـت خمـس عـربـات مـن عـربـات «أم شـوقـى» تصطف أمام «عنبر السميط» لنقل هذه الأكوام وسار الركب متثاقلًا كأنما يسير في جنازة و«مصباح» يصيح فيه بالإسراع بلا فائدة حتى داهمهم الليل، فإذا بهم أمام كمين الإنجليز بسيارته الضخمة. 

 

وتجمدت الدماء فـي عـروق الركب..«مصباح» وصبيانه و«أم شـوقـي» وعربجيتها وبدأ الـكـشـف على الحمير المتهالكة وأخـذ مـسـئـول الـكـمـيـن يـفـكـهـا مـن عـرباتها الحمار تلو الآخر، وبدأ عمـال الـشـفـخـانـة فـي إدخال الحمير داخـل الـعـربـة الـكـبيرة للشفخانة وقفز «فانوس» إلى داخل العربة ليركب مع الحمير ظنًا منه أنه أيضاً مقبوض عليه، فأخذت «أم شـوقـى» تصرخ ، فيه: «إنزل يا راجل، هـو أنـا هـا أدور على الحمير ولا هـا أدور عـلـيـكـو».

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة