سناء مصطفى
سناء مصطفى


يوميات الأخبار

شُرْفة لا يَمُرُّ بها أَحَدٌ

الأخبار

الأربعاء، 07 ديسمبر 2022 - 06:53 م

حلم طفل مصرى يقف انتباه أمام علم بلاده كل صباح ويهتف: تحيا جمهورية مصر العربية، أن يزور معالمها، ويراها أمام عينيه تجسيدا حيا لتاريخ وطنه العظيم

أقف فى بلكونتى كلما حنّتْ عليَّ الرَّحى التى أدور فيها بدقائق قليلة أختلى فيها بنفسى. أعتبر البلكونة مرادفا للحرية، تتفتح عيناها كل صباح على شمس وسماء وطيور، وفى المساء يغازلها القمر بابتساماته الحلوة. تنصت لأحاديث شتى، ما بين همس وصراخ، تتمنى لو تتدخل فتنهى جدالا، أو تمسح دمعةً، أو تمنح حذاءً جديداً لطفلة حافية، لكنها تكتفى بتوزيع ضحكاتها على العابرين فى أبسط تعبير عن الصدقة الجارية. 

بمناسبة الصدقة أتذكر مهندس البترول «صبرى» ابن أوسيم بمحافظة الجيزة، وهو يقف فى شرفته يلقى الأموال على الناس مرة إثر مرة، حتى أنه كان يلقى فى المرة الواحدة ما يتعدى الثلاثة آلاف من الجنيهات، يهجم عليها المارون أسفل شرفته، ويقف هو متفرجاً، وترصد كاميرات الموبايلات، وتنشر وسائل التواصل، ويتلقفه الإعلاميون ليقول: أنا حر.. هذه صدقة. هكذا ببساطة: فلوسه ويوزعها كيفما يشاء. من يلقى اللوم على شخص كريم يوزع صدقة على المحتاجين؟! 

يقول زيجمونت باومان فى كتابه «الحب السائل»: إن العلاقات وصف عميق يعكس خيارات اجتماعية مركبة ومعقدة ولها ثمن فى مجتمع متلاحم، فى حين أن إنسان الحداثة السائلة يقرر أنه لا يرغب فى دفع أثمان، ولا استثمار وقت ولا التضحية من أجل أن يحصل على مزايا التواصل الاجتماعى.

ربما نجد فى كلام باومان إجابة عما دفع هذا المهندس، للوقوف فى شرفته وإلقاء أمواله، وهو الذى وصل إلى مرحلة من التعليم لا بأس بها، وهو المتزوج والوالد لسبعة من الأبناء يستنكرون تصرفاته، بينما الناس يلتقطون له الصور، ويسجلون بالفيديو تهافت المارة، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً على اقتناص ما تصل إليه أيديهم من أوراق مالية، ليرى نفسه فى نظراتهم بطلاً ومخلّصاً، وهو الذى فشل أن يكون كذلك فى أعين زوجته وأبنائه.

إن الحداثة قد خلقت تجمعات من الأفراد يتجاورون فيها فى حياتهم اليومية بقدر كبير من الانفصال العاطفى والإنسانى. صرنا نحتمى بالصمت، وندفن أعيننا فى شاشات الهواتف لأن الكلام مؤرِّقٌ وبلا جدوى. ربما ما دفعه إلى ذلك أيضا الرغبة المحمومة فى أن يصبح trend على صفحات التواصل الاجتماعى، حتى وإن ضحى بجزء يسير من أمواله، وهو يظن أنها من باب الصدقة، فى مقابل أن يصبح ضيفاً على البرامج التافهة التى لم يعد أصحابها يعتمدون فيما يقدمونه للناس سوى على اللقطة الرائجة أو الفيديو الرائج، أو المنشورات الرائجة، وهو ما حدث بالفعل. 

إن الفيسبوك، وغيره من مواقع التواصل الاجتماعى، أزال حواجزَ ما كان ينبغى لها أن تُزَال، وصنع تلك السيولة فى علاقات ومشاعر كان ينبغى أن تظل صلبة ومتماسكة. أحمد الله أن كُتابا كبارا عشقنا أدبهم، وتربتْ مشاعرُنا وعقولنا على حروفهم، نجوا ونجونا معهم من آفات مواقع التواصل الاجتماعى التى كشفت حقيقة كثيرين، وفضحت هذا التناقض والانفصام بين كتاباتهم، وبين قناعاتهم ومواقفهم الشخصية. 

أستيقظ من خيالاتى، وأعود من جولات ذاكرتى فى الدروب، أنظر أسفل بلكونتى، وأتساءل: هل يقف اليوم حبيبٌ تحت شرفة حبيبته ليكتفى بنظرة أو ابتسامة؟ أتذكر زميلا فى المرحلة الثانوية كان يجلس قبالتى فى طريق العودة من المدرسة فى السيارة الكبوت، وهى فى الأساس سيارة ربع نقل قاموا بتغطيتها بصندوق خشبى لتنقل الناس بدلا من نقل المواشى. ينقر على السيارة مناديا السائق: على إيدك يا أسطى. ثم يهمس عند نزوله بأغنية عمر فتحى مبتسما: على إيدك اتعلمنا. كان هذا أقصى ما نعرفه عن الغزل والمعاكسة.

لكن فى زمن الحداثة كان لتلميذى الذى لم يبلغ التاسعة من عمره بعد وجهة نظرٍ أخرى: فحين أعجبته إحدى زميلاته فى الفصل، حكى عنها لقريب له يكبره بعامين، فاقترح عليه ما شاهده فى أحد الفيديوهات القصيرة أن يشترى من المكتبة القريبة من البيت علبة لونها أحمر فيها خاتم لطيف ثمنه 25 جنيها، ويقدمه لها بأى طريقة. لم يكذِّب تلميذى خبرًا، واشترى الخاتم، وحاول تقديمه لها فانكشف الأمر، وتلقَّى قلبُه الصغير أولَ صفعة من صفعات الحياة القاسية.
كلما دخلت بلكونتى أبتسم وألقى عليها السلام، والسلام على محمود درويش حيث يقول:

فى داخلى شُرْفَةٌ

لا يَمُرُّ بها أَحَدٌ للتَّحيَّة.

بُص لى

كانت الصغيرة تحدثنى بحماس عن أمر يشغلها، وكنت أسمعها بينما تتابع عيناى شيئا ما. توقفتْ عن الكلام فجأة، وأمسكت بيدى وقالت: لو سمحتِ بصى لى وأنا باكلمك. فاجأتنى، وأكدت لها أننى أسمعها جيدا، وبرهنتُ على ذلك بترديد ما كانت تقوله، لكنها أجابت: أنا حاسة إنك مش مركزة معايا، وبتبصى على حاجة تانية حتى لو سامعة الكلام اللى باقوله، ودا بيضايقنى علشان ماما بتعمل كده برضو.

الأشياء الصغيرة، أو تلك التى نظن بأنها صغيرةٌ هى ليست كذلك. حين يهرب إليك أحدُهم من قسوة الحياة ليأنس بك، فاعفه من إحساس مؤلم بأنك غير منتبه له، بأنك ضجرٌ متأففٌ حتى من طرح الأسئلة أو انتظار الإجابات. لا تصل به إلى درجة من الأذى ليقول لك: بص لى وأنا باكلمك. 

 انتبهتُ إلى أننى أيضا كان يؤذينى ما يؤذيها، وتكاد علاقتى بالدردشة عبر الواتساب أو المسينجر أو غيرها من وسائل الانفصال الاجتماعى تنقطع بسبب إحساسى بأن الشخص الذى أحادثه غير منتبه لى.

 يذهب بى هذا الإحساس لأبعد من ذلك حين أتخيله ضجرا متأففا من الكتابة أو من الأسئلة، أو حتى من الصمت الذى بلا سبب إلا حاجتنا للإئتناس بالقرب. صرنا مع الأسف نأنس بشاشة صماء بلا وجه يبتسم ولا عينين تنطقان بالمحبة لأن الحياة صعبة وقاسية جدا، قاسية للدرجة التى لا نحتمل أن ينصرف عنا الأحبة عبر الشاشات، وأكاد أصرخ فيه كما فعلتْ معى الصغيرة: بص لى وأنا باكلمك. 

أحلام لا تعرف المحال

حينما شاهد تلميذى الصغير صورتى على يوميات الأخبار لمعت عيناه وقال جملة أوجعتنى جدا: نفسى أبقى مشهور زيك يا ميس علشان أقدر أزور الأهرامات وأبو الهول! 

تذكرتُ ورشة الحكى التى جمعتنى بأطفالى وأنا أحكى لهم قصة «قنال لا تعرف المحال» للصديقة الغالية سماح أبو بكر عزت (ماما سماح).

راحوا يضعون قطع البازل المرفقة بالقصة، لتتكون فى النهاية صورة السفينة إيفرجيفن. عرضتُّ لهم فيديوهات على اليوتيوب عن قناة السويس، فلمعت أعينهم الصغيرة من الدهشة والفرح وتساءلوا: دى فى بلدنا!. قالت واحدة بنبرة أسى: أنا حزينة يا ميس؛ لحد إمتى هنفضل نتفرج على الحاجات الحلوة اللى فى بلدنا دى كأننا أغراب، وكأنها مش بلدنا؟! نفسى نطلع رحلات نشوف فيها الأهرامات وأبو الهول وقناة السويس والحاجات الحلوة دى كلها.

أوجعنى أن حلم طفل مصرى يقف انتباه أمام علم بلاده كل صباح ويهتف: تحيا جمهورية مصر العربية، أن يزور معالمها، ويراها أمام عينيه تجسيدا حيا لتاريخ وطنه العظيم. أنا أيضا أحلم معهم، وأتساءل بدورى كى يصبح للحديث عن الانتماء قيمة ومعنى: إلى متى يظل أطفالنا، وبخاصة هؤلاء الذين حكم عليهم الموقعُ الجغرافى أن يعيشوا فى أقصى الجنوب، محرومين من الاستمتاع بما تحظى به مصرنا العظيمة من جمال يسعدُ السياح برؤيته رؤيا العين، بينما لا يعرف أطفالنا عنه إلا ما يُسطر لهم فى الكتب أو يُعرض على الشاشات؟ 

غياب

موجعةٌ هذه الكلمة، رغم أننا لا نفعل شيئا سواها. يغيبُ أحبابنا فى كل لحظةٍ، ويلتصق بنا الفراقُ كوشم على جلودنا. ندركُ هذه الحقيقة منذ صرخة الميلاد، وحتى ابتسامة الموت، وما بينهما لا نتقن شيئا إلا ممارسة الغياب. ننتبه للحظة فائتة من العمر، لم يتسنَّ لنا حتى وداعها، يتفلتُ من بين أيدينا يومٌ، ويلمُّ انكساراته فى حقائبه عامٌ، بينما نشعلُ أعمارَنا فى كعكات عيد الميلاد، ونضحك كالبلهاء. أرواحنا كغربال يتسرب منها الشغف، والغناءُ، والرقص، والوجدُ، والدهشة، والشعر، والموسيقى. نفارق لحظاتنا الحميمة، وأشياءنا الحلوة، واستجابات أجسادنا لنداءات الحياة. نفارق إنسانيتنا، ونمشى فى الطرقاتِ حفاةً من المحبة، عراةً من الدفء، لا تؤرقنا حتى وخزة ضمير. فقط حين تُغلَقُ أبوابٌ، وتسكتُ أصواتٌ، وينقطعُ أثرُها خطوات، ويكفُّ عن دبيبه فى أوصالنا عتابُ المحبين، نشعر حينها أننا وحيدون، منفيون فى الغياب، منسيون من ذاكرة النهر، ومُطْبقٌ على صدورنا اتساعُ الصحراء. لسنا مستعدين لشيءٍ، لكنّ الفراق يأتى على أية حال.

We always wait for the best but comes the worst. We never prepare for any of them. That's it.

خداع

قلبى

هذا الوغدُ الماكِرُ

كلما أقنعتُه أن يكنسَ أخطاءَه 

ترَكَ أبوابَ غرفِه موارَبةً

لتعيدَها الريحُ مِن جديد

أديبة وشاعرة - قنا

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة