عبدالله البقالى
عبدالله البقالى


حديث الأسبوع

مستحيل هذا الذى تفعله الرياضة

الأخبار

السبت، 24 ديسمبر 2022 - 07:11 م

ما الذى يفسر خروج حشود هائلة من الجماهير فى مختلف أرجاء الوطن العربى والبلاد الإسلامية إلى الشوارع وإلى الفضاءات العامة فيما يشبه هستيريا، للتعبير عن الفرح بالنتائج الباهرة التى حققها المنتخب المغربى لكرة القدم فى نهائيات كأس العالم؟ وما الذى يبرر انتشال هذه الجماهير من ثنايا أزماتهم الاجتماعية والاقتصادية فى لحظات معينة ونسيان معاناتهم من حدة ما يترتب على هذه الأزمات ليعوضوها بزمن فرح وسعادة؟

الأكيد أن هذه التعبيرات وغيرها كثير لا يمكن حصر أسبابها ودواعيها فى الجانب الرياضى الصرف، بل لا بد من تفسيرات وقراءات أخرى تساعد على فهم واستيعاب هذا الذى حدث. والتعويل على إنجازها على المتخصصين فى علوم الاجتماع والنفس والسلوكيات.

الواضح أن ثمة قناعات وحقائق لم تعد متجلية فى الحياة العامة فى الخريطة العربية والإسلامية، لكنها لا تزال حية فى دواخل الناس وفى أعماقهم، وهى فقط فى حاجة إلى عوامل تخرجها من العمق وتبرزها بشكل واضح فى الواقع اليومى المعيش. هذا ما يؤشر على اقتناع الجماهير العربية بفكرة الوحدة وبالانتماء المشترك؛ لذلك شعر كل مواطن عربى فى لحظة من اللحظات أن المنتخب المغربى لكرة القدم يمثله فى تظاهرة رياضية دولية، وأنه ليس مِلكا قُطريا لفئة معينة ولا لشعب دون سواه من الشعوب العربية، وأن الانتصارات التى حققها كانت بالنسبة إليه تمثل انتصارات للمشترك بين الشعوب العربية. وحينما نتابع ونعاين التفاعلات النفسية القوية التى تعاملت معها الجماهير العربية مع كل ثانية من عمر كل مباراة خاضها المنتخب المغربى فى مسار النهائيات، إلى درجة استحال معها التمييز بين جنسيات المتفاعلين، نتأكد أن الجماهير العربية كانت متعطشة إلى تحقيق انتصارات على الآخر بغض النظر عن جنسية اللاعبين الذين كانوا بصدد تحقيق الانتصارات المتتالية. ولذلك ارتدى ملايين من المواطنين على امتداد الخريطة العربية قمصان المنتخب المغربي، ورفعوا الرايات والأعلام المغربية ترفرف فى كل مكان، ليس لأن القمصان ولا الأعلام مغربية فقط، بل كانت تمثلا حقيقيا لمشاعر الجماهير، وإنما كانت التعبير الذى أخرج الشعور بالوحدة، كنا نعتقد أنها دفنت فى أعماق الخيبات والأزمات العربية المكثفة والكثيرة التى ترتب عنها اقصاء نفسى ووجدانى من الواقع المرير السائد والمعيش. وهكذا فإن الانتصارات المبهرة كانت فى سياق ردود الفعل التى تابعناها بكثير من الاهتمام بمثابة رد اعتبار للإنسان العربى.

ثم وكأن لاعبى المنتخب الكروى المغربى لم يكتفوا فى إطار استعداداتهم لهذه النهائيات بالتمرس على الخطط والتكتيكات التى من شأنها ترجيح كفتهم فى المواجهات الرياضية، مع أعتى المنتخبات الكروية فى العالم، ولا على دراسة المنتخبات التى تنافسوا معها، بل الغريب حقا أن نلاحظ وكأن هؤلاء اللاعبين حضروا خططا مدروسة، لا علاقة لها بالمنافسة داخل رقعة الملعب. ولذلك يحق لنا أن نتساءل اليوم عما إذا كانت المشاهد الحميمية التى جمعت اللاعبين بأسرهم، خصوصا بأمهاتهم، تلقائية؟ وعما إذا كان سجودهم الجماعى بعد كل انتصار، وحتى فى لحظات الهزيمة تلقائيا؟

وعما إذا كان رفع العلم الفلسطينى فى محفل رياضى عالمى يتابعه مئات الملايين من الأشخاص فى مختلف أرجاء العالم تصرفا تلقائيا أو فرديا؟

لا ندعى امتلاك الحقيقة المطلقة فى هذا الصدد  ولكن الأرجح أن الأمر يتعلق برسائل بالغة القوة والتأثير والدلالة، حرص لاعبو وأطقم الفريق المغربى على أن تكون ملاعب نهائيات كأس العالم منصات لإطلاقها فى سماء مفتوحة، لا يمكن لأى أحدٍ تطويقها ومحاصرتها بهدف الحيلولة دون نفاذها إلى مشاعر شعوب العالم.

مشاهد الأمومة والتدين والتضامن اندحرت فى الحضارة الغربية المعاصرة، ولذلك لم يعد مخجلا الرمى بالأمهات فى الملاجئ ودور العجَزة، بما يفسر تفكك الشعور الإنسانى الطبيعي، وليس غريبا تحويل الطبيعة الإنسانية التى وجد عليها الكون أول مرة، من رجل وامرأة، وأن بناء الأسرة يتأسس ويرتكز على هذا التنوع البيولوجى الضروري، إلى سلوكات بشرية تنقل الإنسان من طبيعته الإنسانية إلى هوية حيوانية، تفتقد إلى أية معايير للتزاوج والإنجاب، بما يعنى تفسخا كاملا ومطلقا لمفهوم الأسرة الواحدة. وهكذا يمكن ان يكون للطفل الواحد أكثر من أب واحد. طبعا لا ننكر طبيعة الأمراض الجسدية والنفسية التى يبقى كل إنسان معرضا لها، لكن الأمراض تبقى أمراضا فى حاجة إلى علاج. ولكن من الخطورة بمكان بناء مجتمعات حديثة على أساس هذه الأمراض والعلل. لذلك رسالة لاعبى المنتخب المغربى قالت، بما يجب من وضوح: نحن لسنا أبناء ألوان، بل أبناء شرعيون بررة للطبيعة الإنسانية، وأننا أبناء حضارة وأديان. ونرفض رفضا مطلقا أن نتحول إلى لقطاء نبحث لنا عن هويات وعن أنساب.

لذلك بقدر ما نتفهم درجة الغل التى وصل إليها البعض، بسبب هذه الرسائل القوية، والتى وصلت الى حد تشبيه اللاعبين المغاربة بالقردة ووصفهم بالإرهابيين وإطلاق العنان لجميع عبارات السب والقذف والتعابير الحاطة من الكرامة، بما يكشف عن فضائح أخلاقية إعلامية مكتظة بالتمييز والتحريض على الكراهية والعنف، فإننا أيضا أنصتنا باهتمام وتركيز إلى من خالف هذا التوجس بل التوحش، من اعتبر أن (العلاقات الحميمية مع العائلة لم نعد نراها فى مجتمعاتنا الغربية، التى تسودها الأنانية والمثلية الجنسية، واندثار مفهوم الأسرة) ولنا أن نسجل أن رسائل المنتخب المغربى حققت غاياتها بأن طرحت من جديد وبحدة فى الأوساط الغربية، أزمة القيم التى تتوغل وتتغول فيها الحضارة الغربية المعاصرة.

نقيب الصحفيين المغاربة
 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة