إحسان عبد القدوس مع زوجته «لولا» حبه الأول والأخير
إحسان عبد القدوس مع زوجته «لولا» حبه الأول والأخير


كنوز| «الأخبار» تضيئ الشمعة 103 لأمير الحب والحرية

عاطف النمر

الأربعاء، 28 ديسمبر 2022 - 06:33 م

جاء كاتبنا الرائع صاحب القلم الرومانسى الرشيق إحسان عبد القدوس إلى الدنيا فى الأول من يناير 1919، تعود أن يحتفل فى 31 ديسمبر بعيد ميلاده ليجمع بين عيد ميلاده وميلاد العام الجديد، ساعات قليلة ونضيء الشمعة 103 لمن علمنا الحب وأبهرنا بجراءة كتاباته السياسية التى جلبت له المشاكل والمتاعب التى وصلت به للحبس والاعتقال.

ولد إحسان فى بداية عام ساخن بالاحتجاجات الشعبية والرسمية بقيادة سعد زغلول باشا ورفاقه ضد الاحتلال، وبعد ميلاده بثلاثة شهور انفجرت ثورة 1919، شاء القدر أن يولد ومصر فى غليان، وشاء القدر أيضا أن ينشأ فى مناخ متناقض، والده المهندس محمد عبد القدوس عاشق للفن والأدب، ووالدته فاطمة اليوسف هى إحدى رائدات المسرح التى أسست «روزاليوسف»، أما جده فهو الشيخ أحمد رضوان خريج الأزهر الذى عمل بالمحاكم الشرعية، رجل الدين الذى كان يرى أن زوجة ابنه سيدة متحررة جعلت بيتها صالونا للندوات الثقافية والسياسية والفنية، ولهذا نشأ إحسان متنقلا بين ندوات دينية فى بيت جده، وندوات فنية سياسية أدبية فى منزل والدته، وقال: إن انتقاله بين هذين المكانين المتناقضين كان يصيبه بما يشبه الدوار الذهنى، حتى اعتاد عليه واستطاع أن يعد نفسه لتقبله كأمر واقع لا مفر منه فى حياته .

نترك المساحة الآن للمقال الذى تحدث فيه عن يوم ميلاده قائلا: «فى أول يناير، وفى منتصف الليل تماما وبينما كان التاريخ يقلب صفحات الزمن من عام إلى عام، والعالم يرقص ويتبادل الأنخاب والقبلات تحية لعام 1920، كان المصريون فى ثورتهم يحصدهم رصاص الإنجليز ليخمد فى حناجرهم صوت الحرية والاستقلال، دوت «واء.. واء» فى أذن الوجود تبشر بمولدى السعيد!! واستمرت حياتى من ليلة مولدی: رقص ودموع، ودم وقبلات ولكمات وضحكات وعرق، وظلمات تبددها الأنوار، ولا أذكر فى حياتى أننى ربحت ربحا سهلا أو حققت أمنية بمجرد أن طلبتها من الله، أو خطوت خطوة اعتمدت فيها على الحظ وحده، كتبت أول قصة فى حياتى عندما كنت فى العاشرة، كانت تمثيلية أردت من أطفال الحى أن يقوموا بتمثيلها ولكن أحد أقربائى كان يقوم بالإشراف على حياتى المدرسية لمح القصة فى يدىّ فضربنى ضربا ما زالت آثاره فوق جسدى، ومزق القصة، فحاولت الانتحار ثم فضلت أن أهرب من المنزل، وهربت وأعدت كتابة القصة على ضوء مصباح الشارع وقمنا بتمثيلها فى اليوم التالى، وكتبت أول خبر صحفى عندما كنت فى رابعة ابتدائى عن نجل زكى الإبراشى باشا وكان طالبا معى بالمدرسة، قدمت الخبر إلى مصطفى أمين الذى كان يتولى تحرير باب الطلبة فى «روزاليوسف» فهنأنى عليه ثم مزقه، وأعاد كتابته وعرضه على الأستاذ محمد التابعى فهنأه عليه ثم مزقه وكتبه من جديد!!

وعلم ناظر المدرسة أننى أنا الذى أوصلت الخبر إلى الجريدة، فنادانى وضربنى «قفا» ثم صادرنى من المدرسة لأنه لم يستطع أن يصادر المجلة، ورفت منها، وعندما كنت فى الرابعة عشرة من عمرى أردت أن أسافر إلى الإسكندرية فى الصيف فمنعنى والدى ومنع عنى النقود وكانت لى «حصالة» صغيرة كنت أحتفظ بها للأيام السوداء بتحويش العمر كله، واعتقدت أن أيام الصيف فى القاهرة هى الأيام السوداء فحطمت الحصالة وكان بها خمسة جنيهات أخذتها وهربت إلى الإسكندرية، وقضيت هناك ثلاثة وثلاثين يوما كنت خلالها أطهى طعامى بنفسى وأغسل ثيابى بيدىّ، وأكنس وأمسح الكابينة الصغيرة التى كنت أقيم فيها، وكتب عنى يومها الأستاذ فكرى أباظة فى «المصور» مشيدا باعتماد الشباب على نفسه، واعتبرت نفسى يومها عظيما من العظماء الذين تكتب عنهم الصحف، رغم أنه كان يسرنى أن أعتمد على والدى لا على نفسى فى التصييف !!

وكتبت أول قطعة أدبية نُشرت لى فى «روزاليوسف» اليومية عام ١٩٣٥ وكانت من الشعر المنثور بعنوان «أخيرا وجدها»، أرسلتها للجريدة بالبريد بلا إمضاء، ونُشرت فى الصفحة الأدبية، وذهبت بعدها إلى والدتى السيدة «روزاليوسف» لأكشف لها عن شخصية الكاتب العظيم صاحب هذه القطعة الأدبية الخالدة ولكنها ما كادت تعلم أن هذا الكاتب العظيم هو أنا حتى ثارت فى وجهى وحرمتنى من المصروف، فقد كان موضوع القصة يدور حول فتاة وخمر، وكانت والدتى تظن حتى هذه اللحظة أننى أجهل ما هى الفتاة وما هى الخمر!! وعندما نلت ليسانس الحقوق رفضت وظيفة سكرتير عرضها علىّ المرحوم أمين عثمان باشا ورفضت أن ألتحق بعدة شركات وقررت أن أشتغل بالصحافة مدة خمس سنوات فإن لم أنجح فقد بقى لى من عمرى ما يكفى لأن أتجه اتجاها آخر»، ويعترف إحسان بأنه فشل فى المحاماة بقوله: «كنت محامياً فاشلاً لا أجيد المناقشة والحوار وكنت أدارى فشلى فى المحكمة إما بالصراخ والمشاجرة مع القضاة، وإما بالمزاح وهو أمر أفقدنى تعاطف القضاة، بحيث ودعت أحلامى فى أن أكون محامياً لامعاً»!.

نقفز إلى اليوم الذى خرج فيه من الاعتقال وهو فى السادسة والعشرين من عمره بسبب المقال الذى فتح فيه النار على السفير البريطانى وطالبه بالرحيل عن مصر، يومها عينته والدته رئيسا لتحرير «روزاليوسف» ونشرت مقالا تقول فيه: «ولدى رئيس التحرير.. عندما اشتغلت بالصحافة وأسست هذه المجلة كان عمرك خمس سنوات، وقد لا تذكر أننى حملت العدد الأول ووضعته بين يديك الصغيرتين وقلت «هذا لك»، ومرت عشرون عاما قضيتها وأنا أراقب فى صبر وجلد نمو أصابعك حتى تستطيع أن تحمل القلم، ونمو تفكيرك حتى تستطيع أن تقدر هذه الهدية التى كونتها بدمى وأعصابى خلال سنين طويلة لتكون لك الآن، وقبل أن أضعك أمامى لأواجه بك الناس، دعنى أهمس فى أذنيك بوصية أم إلى ابنها ووصية جيل إلى جيل: مهما كبرت ونالك من شهرة، لا تدع الغرور يدخل نفسك.. فالغرور قاتل، وكلما ازددت علما وشهرة فتأكد أنك ما زلت فى حاجة إلى علم وشهرة، حافظ على صحتك، فبغير الصحة لن تكون شيئا، مهما تقدمت بك السن فلا تدع الشيخوخة تطغى على تفكيرك، بل كن دائما شاب الذهن والقلب وتعلق حتى آخر أيامك بحماسة الشباب، حارب الظلم أينما كان، وكن مع الضعيف على القوى، ولا تسأل عن الثمن، وحاسب ضميرك قبل أن تحاسب جيبك، ولعلك فهمت، وكن قنوعا، ففى القناعة راحة من الحسد والغيرة». 

على يد هذه السيدة القوية تربى إحسان وتشرب منها صفات القوة والتحدى والصمود، فكان يسير فى حقول الألغام من أجل ما يؤمن به متحديا انتقادات الذين انغلقت عقولهم كلما فتح نافذة للحرية والحب الذى نرى ظلاله فى رواية «صانع الحب» التى يقول فيها: «من السهل أن تصنع الحب أى أن تفتعله، ولكنه فى هذه الحالة لا يدوم إلا حيثما تدير عينيك إلى الناحية الأخرى، أما الحب بكل معانيه، الذى وُجد مع الحياة فأضاءها بنور الله، فقد عرفته ولكنى لم أكتب عنه لأنه أقوى من قلمى»، ويقول فى رواية «أنا حرة» التى أثارت ضجة كبيرة: «الحب هو العذر الوحيد الشريف للعبودية، والعبودية التى ليس لها عذر هى أن تتزوجى رجلاً لا تحبيه أو تعملى عملاً لا تؤمنين به»، وبالحب كتب لزوجته فى مقدمة «لا تطفئ الشمس» يقول: «إلى السيدة التى عبرت معى ظلام الحيرة، والحب فى قلبينا، حتى وصلنا معا إلى شاطئ الشمس، إلى الهدوء الذى صان لى ثورتى، والصبر الذى رطب لهفتى، والعقل الذى أضاء فنى، والصفح الذى غسل أخطائى، إلى حلم صباى، وذخيرة شبابى، وراحة شيخوختى، إلى زوجتى..

والحب فى قلبينا»، والحب هو الذى جعله يقول لنا: «إن العمر لا يُحتسب بالسنين، ولكنه يُحتسب بالإحساس، فقد تكون فى الستين وتحس أنك فى العشرين، وقد تكون فى العشرين وتحس أنك فى الستين». 
 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة