دار الإفتاء المصرية
دار الإفتاء المصرية


ما حكم التهادي بين المسلمين وغيرهم والمجاملة بينهم؟ «الإفتاء» تُجيب 

كرم من الله السيد

الجمعة، 30 ديسمبر 2022 - 10:51 ص

ورد سؤالا إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه ما حكم التهادي بين المسلمين وغيرهم؟. 

وأجابت الدار، بإن الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو التعايش والتكامل والتعارف والتعاون، والإسلام هو دين السلام والرحمة والبر والصلة، وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى الخلق كافة، والتهادي بين الناس هو من أعظم مظاهر الإحسان والبر، ومن أكثر ما يُورث التآلف والصفاء، فهو مستحب على وجه العموم؛ لا فرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم، بل هو في حق غير المسلم اكد استحبابًا وأشد مشروعية؛ من جهة أنه إحسان للإنسان، وأنه من السنة، وقد ثبت ذلك بالنصوص الشرعية من القرآن الكريم في التعامل بالبر والصلة، ورد التحية بالتحية، ومقابلة الهدية بالهدية، ومجازاة الإحسان بالإحسان، وفي السنة النبوية الشريفة من الأمر بمكافأة صاحب الهدية، وقبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهدايا من غير المسلمين، وأمره بذلك، وإثابتهم عليها، واشتهر ذلك من فعل الصحابة رضي الله عنهم؛ حتى كانوا يقدِّمون حق غير المسلم في الجوار ويبدأون به، ونص الفقهاء على عِظم حق غير المسلم، وأنه ظلمه أشد جرمًا، ونص جماعة منهم على مشروعية رد السلام عليهم، فيُستَحبُّ التهادي وتُشرَع المجاملات الحسنة في الأعياد والأفراح والمناسبات بين المسلمين وغيرهم؛ لما في ذلك من إرساء روابط التآخي والتآلف، وبث روح الوطنية والتكاتف. 

وأوضحت أن  الإسلام دينٌ كلُّه سلامٌ ورحمةٌ وبرٌّ وصلة؛ ولذلك أمر الله تعالى بالعدل والإحسان على الإطلاق، وجعل ذلك قيمة عُليا من قيم الإسلام؛ فقال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90]، وأمرنا أن نقول القول الحسن للناس كلهم؛ فقال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]، ولم ينهَنا عن بر غير المسلمين، ووصلهم، وإهدائهم، وقبول الهدية منهم، وغير ذلك من أشكال البر بهم؛ فقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الممتحنة: 8]، فالوصل، والإهداء، والعيادة، والتهنئة لغير المسلم، كلُّ ذلك يدخل في باب الإحسان.

وتابعت؛ ولمّا كان الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو التعايش، كان هذا شاملًا لكافة مظاهر الأخلاق الحسنة، ومختلف أنواع العلاقات الإنسانية؛ من التكافل والتعاون، والبر والتراحم، والتهادي والمجاملة؛ أخذًا وإعطاءً، على مستوى الفرد والجماعة.

والتهادي والمُهاداة، تبادل الهدايا، والهدية في ذاتها من أعظم مظاهر البر؛ فإنها من أكثر ما يورث التآلف والصفاء، ويقطع العداوة والبغضاء، ويقع الموقع الحسن في نفوس الناس؛ حتى ذُكِر في اشتقاق لفظ "الهدية" أنها إنما سُمِّيَت بذلك لما تورثه من الهداية إلى الخير والتآلف بين الناس.

قال الإمام الماوردي في "الحاوي الكبير" (7/ 534، ط. دار الكتب العلمية): [قيل: إن الهدية مشتقة من الهداية؛ لأنه اهتُدِيَ بها إلى الخير والتآلف] اهـ.

وقد حكى الله تعالى عن ملكة سبأ أنها أرسلت هدية إلى سيدنا سليمان عليه السلام؛ لعلمها بحسن موقعها، فقال تعالى: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ [النمل: 35].

قال قتادة، "رحمها الله؛ إن كانت لعاقلة في إسلامها وشركها؛ قد علمت أن الهدية تقع موقعًا من الناس" أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره".

وإذا كان هذا شأنَ الهدية في نفسها، فإن تبادلها بين الناس أبلغ في إظهار البر، وأدوم لأسباب الصلة، وأوثق لعرى التآلف، فإذا كان التهادي بين المسلمين أنفسِهم مستحبًّا مع اتفاق الدين واجتماع الكلمة، فإنه بينهم وبين غيرهم أشدُّ استحبابًا وأكد مشروعية؛ لِمَا فيه من إظهار سماحة الإسلام، وعظمة تعاليمه، ورقي أخلاقه ومبادئه، وحرصه على تأليف القلوب.

وقد حث النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم على التهادي بين جميع الناس، من غير تفرقة بين المسلم وغيره:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تَهَادَوْا؛ فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَغَرَ الصَّدْرِ» أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي في "المسند"، والترمذي في "السنن".

وعنه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تَهادَوْا تَحابُّوا» أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو يعلى في "المسند"، والطبراني في "الأوسط" والبيهقي في "السنن".

قال العلامة الأمير الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير" (1/ 381، ط. مكتبة دار السلام): [وذلك لأنه يحصل بها ما يريده الله تعالى من ألفة القلوب وميل بعضها إلى بعض] اهـ، وقال (5/ 101): [وذلك لأن الهدية خلق كريم وسنة حثت عليها الرسل واستحسنتها العقول تتألف بها القلوب وتذهب شحائن الصدور] اهـ.

كما تواردت النصوص من القرآن والسنة النبوية على استحباب التهادي بين المسلمين وغير المسلمين:
فأما من القرآن الكريم: فقد أمر الله بالبر بغير المسلمين ممن لم يعتدوا، والهدية من البر بهم؛ فقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الممتحنة: 8].

قال العلامة الكوراني في "الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري" (5/ 241، ط. دار إحياء التراث العربي): [وموضع الدلالة قوله تعالى: ﴿أَنْ تَبَرُّوهُمْ﴾؛ فإن البر يشمل الهدية وغيرها] اهـ.

وأما من السنة النبوية الشريفة:
فقد تواردت النصوص على قبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهدايا من غير المسلمين، وأمره بقبولها، ومجازاتهم عليها، وعلى إهدائه لهم صلى الله عليه وآله وسلم.

فأما قبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهديةَ من غير المسلمين:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أَنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ -من نصارى العرب- أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم جُبَّةَ سُنْدُسٍ" متفق عليه.

وعنه أيضًا رضي الله عنه: "أَنَّ مَلِكَ ذِي يَزَنَ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم حُلَّةً أَخَذَهَا بِثَلاثَةٍ وَثَلاثِينَ بَعِيرًا أَوْ ثَلاثٍ وَثَلاثِينَ نَاقَةً فَقَبِلَه" رواه أبو داود في "السنن".


وعن علي رضي الله عنه قال: "أَهْدَى كِسْرَى لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم فَقَبِلَ مِنْهُ، وَأَهْدَى لَهُ قَيْصَرُ فَقَبِلَ مِنْهُ، وَأَهْدَتْ لَهُ الْمُلُوكُ فَقَبِلَ مِنْهُمْ" رواه أحمد والترمذي وحسَّنه.

وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: «أهدى صاحب الإسكندرية المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُكْحُلةَ عيدان شامية، ومرآة، ومشطًا» أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط".
وعن حنظلة بن الربيع الكاتب، قال: "أهدى المقوقس ملك القبط إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هدية، وَبَغْلَةً شَهْبَاءَ، فقبلها صلى الله عليه وآله وسلم" أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وابن زنجويه في "الأموال"، والطبراني في "المعجم الكبير".

وأما أمْرُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقبول الهدية من غير المسلمين:
فعن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: "قَدِمَتْ قُتَيْلَةُ ابْنَةُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ أَسْعَدَ مِنْ بَنِى مَالِكِ بْنِ حَسَلٍ عَلَى ابْنَتِهَا أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ بِهَدَايَا؛ ضِبَابٍ وأَقِطٍ وَسَمْنٍ وهي مُشْرِكَةٌ فَأَبَتْ أَسْمَاءُ أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا وَتُدْخِلَهَا بَيْتَهَا، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا وَأَنْ تُدْخِلَهَا بَيْتَهَا" رواه الإمام أحمد في "مسنده".


وأما تهادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع غير المسلمين:
فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل الهدية، ويثيب عليها" أخرجه البخاري في "الصحيح".
وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، قال: "جاء رسولُ ابنِ العَلْمَاءِ، صاحبِ أَيْلَةَ، إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكتابٍ، وأهدى له بغلة بيضاء، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأهدى له بُردًا" رواه البخاري ومسلم واللفظ له في "الصحيح".

اقرأ أيضا | فضل الصلاة على النبي يوم الجمعة.. «الإفتاء» توضح

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة