هو كاتب ومفكر وناقد وأستاذ جامعي ووزير ثقافة سابق، وفي كل هذه المواقع كان مهمومًا بنشر الوعي ومحاربة جمود العقل، حتى أصبح واحدًا من أهم رموز التنوير في العالم العربي، هو د. جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق وصاحب العديد من المؤلفات التي تدعو للتنوير.

...............................؟

أنا من أسرة متواضعة، كان والدي تاجرا بسيطا من الإسكندرية، لكنه انتقل إلى المحلة الكبرى واستقر بها، وتزوج أرملة لديها خمسة أبناء، كان يحلم بإنجاب الولد، وأخذ نذرا على نفسه بتسميته «جابر» تيمنا بسيدي جابر في الإسكندرية وبعد 4 سنوات من زواجه رزق بابنة، وبعدها بخمس سنوات جئت أنا، كان لا يرفض لي طلبا وكان يذهب بي سنويا إلى سيدي جابر لتوزيع الصدقات وفاء للنذر، وكان أبي طيب القلب «عمرنا ما اختلفنا»، أما أمى فكانت شخصيتها قوية إلى درجة الشراسة والعناد.

...............................؟

كنت طفلا مدللا باعتباري آخر العنقود والولد الوحيد لأبي، وكنت هادئا أعشق القراءة وعشقي للقراءة بدأ مع مدرسة الأقباط الإعدادية، وكان سببها «عم كامل» بائع الكتب العجوز الذي كان يعرض كتبًا للإيجار أمام المدرسة، رفضت الإيجار وقررت شراء أول كتاب من مصروفي وكان طبعة فاخرة من كتاب «في بيتنا رجل» لإحسان عبد القدوس، كان مصروفي قرشين يوميًا، وكان الكتاب بخمسة قروش، فحرمت نفسي من كل شئ حتى ادخرت ثمنه.

...............................؟

كانت المحلة مدينة مبهجة وراقية، كان هناك شارع النهر، وعلى جانبه بورصات «مقاهى راقية على الطراز الأوروبى» يجلس بها الأجانب الذين يعملون كخبراء غزل في المدينة، وعلى الجانب الآخر من النهر كانت مكتبة البلدية الأنيقة، وكنت وانا صغير أمشى على النيل مع أصدقائى، ونحلم بالجلوس على هذه المقاهى حينما نكبر، «لكن للأسف لما كبرنا، اختفت المقاهى وخرج الأجانب من مصر، وحتى مكتبة البلدية شالها الجهلاء، وسلموها للمحليات»، الحاجة الوحيدة اللى لسة موجودة، عربات «محمد وطلعت» لبيع الكتب في شارع العباسي».

................................؟

قبل ما أسيب ذكرياتي مع المحلة، لازم اتكلم عن دور مكتبة البلدية في حياتى، أول مرة دخلت فيها المكتبة، كان عمرى 13سنة، سحبت أضخم مجلد وجلست فخورا، كان»الياذة هوميروس»، وكان شعرا صعب الفهم، فتظاهرت بأنى أقرأ، لكنى لم أفهم سوى المقدمة، فأعدت الكتاب، وسحبت كتابا آخر صغيرا، كان الأيام للدكتور طه حسين، التهمت الكتاب، ومن وقتها أصبحت مفتونا بطه حسين، المناضل العنيد، الذى تحدى إصابته بالعمى، وسافر فرنسا، ودرس اللاتينية واليونانية، وحصل على الدكتوراه من السوربون، وحارب الجمود الفكرى، وقلب الدنيا بكتبه وأفكاره المتحررة بالنسبة لعصره، حتى اتهم بالكفر والإلحاد، لكنه ناضل وتمسك بالحرية.

تمنيت أن أكون مثله، وقررت دراسة الآداب قسم اللغة العربية مثله، لكنى اصطدمت بأمى التى كانت تريدنى أدرس صنايع اختصارا للوقت والجهد، لكن أبي انحاز لي وأيدني.

...............................؟

بعد الثانوية العامة، نصحنى الجميع بدخول قسم اللغة الانجليزية، «أصله كان قسم راقى وفيه بنات حلوة»، لكنى صممت على دخول قسم طه حسين، وتخرجت بتقدير ممتاز، وكنت الأول على جميع خريجى اللغة العربية في الجامعات . المصرية، لكنى رغم ذلك لم أعين معيدا، لوجود معركة بين الأساتذة لتعيين طلاب من دفعات سابقة، حاولت الشكوى لرئيس الجامعة وقتها د.جابر جاد عبد الرحمن، لكن مدير مكتبه كان يطردنى، فاستسلمت للأمر حزينا يائسا.

...............................؟

وجدت صعوبة شديدة في البحث عن عمل آخر، فقد كان الجميع يندهشون لعدم تعيينى في الجامعة رغم تفوقى، وكانوا يتصوروننى شيوعيا أو إخوانيا، وتقدمت لاختبارات المدرسين، واجتزتها بتفوق، لكنى فوجئت بتعيينى بمدرسة إعدادية بقرية «طبهار» وهى قرية بعيدة جدا بأقاصى الفيوم، لا يوجد بها سكن جيد، ولا أى إمكانيات، فجلست بجوار بواب المدرسة أبكى حظى، وسمعت وقتها خطابا للرئيس عبد الناصر عن العدل، فسارعت بكتابة خطاب غاضب إليه أشكو فيه الظلم الذى تعرضت له منذ رفض تعيينى بالجامعة، وأطالبه بحقى تطبيقا للعدل الذى ينادى به، وأرسلت الخطاب بالبريد العادى لرئيس الجمهورية .

...............................؟

تحملت ظروف العمل والإقامة الصعبة، إلى أن فوجئت بتلاميذى يوما يطلبون منى خمسة جنيهات لشراء هدايا للمفتش العام الذى سيزور المدرسة، فرفضت، وعرف المفتش، وتعمد إهانتى وسط الطلاب، فتشاجرت معه، ولعنت الفساد، وتركت المدرسة بلا عودة ورجعت للقاهرة، ونفذت نصيحة أبى بالتفرغ للدراسات العليا، إلى أن فوجئت ذات يوم برسول يطلب منى التوجه للدكتورة سهير القلماوى للضرورة، وأسرعت للقائها لتفاجئنى بالتهنئة على تعيينى في الجامعة بقسم اللغة العربية، وطلبت مني التوجه لرئيس الجامعة، فأسرعت اليه، لأفاجأ بحفاوة بالغة من مدير مكتبه الذى كان يطردنى، وفوجئت بدكتور جابر يخرج لي بنفسه مرحبا، «أهلا بابني.. وسميىّ» باعتباري أحمل نفس اسمه، وعرفت منه أن الرئيس عبد الناصر أرسل شكواى إلى وزير التعليم العالى، وأمر بالتحقيق فيها وتعيينى فورا، فأخذت أبكى من الفرح، لأن أمنيتي الأولى تحققت وصبحت أستاذا جامعيا.

..............................؟

كانت أمنيتى الثانية هى رؤية د.طه حسين فأخذتنى إليه في بيته «رامتان»، أمى الروحية د.سهير القلماوى، وانبهرت حينما رأيته، وسألنى: ماذا تحفظ من الشعر؟، فاخترت له أبيات لأبى العلاء المعرى الذى يحبه، فقال للدكتورة سهير،»ابنك هذا سينبغ في النقد الأدبى»، وأعتقد أننى نبغت في النقد، بينما فشلت في تحقيق أشياء أخرى مثل الحصول على الدكتوراه من السوربون مثل طه حسين، لأن البعثات كانت قد أغلقت بعد 1967، فحصلت عليها من مصر بإشراف د.سهير القلماوي، وأصبحت أصغر أستاذ في جامعة القاهرة وعمرى 38 عامًا.

..............................؟

رغم أننى لم أصبح طه حسين، إلا أننى ورثت منه الأمنيات الخمس التى كان يتمسك بها، وهى الحرية والعدل والعقلانية والإنسانية والحلم بالمستقبل . أنا شرس جدا في خصوماتى من أجل الحق، لكنى أصفو سريعا، وقد أخذت الشراسة والإصرارعن أمى، وأخذت الطيبة عن أبي.

.............................؟

تزوجت زميلتى في الجامعة ثريا فارس الجندي، عرفتها أثناء نتيجة الفرقة الأولى، كنت طالبا متفوقا، وهى «طالعة بمادة»، فسخرت منها، فبكت، فلم أحتمل بكاءها وتقاربنا، ويبتسم قائلا «أصلى الدموع أقوى أسلحة المرأة في مواجهة الرجل».

............................؟

ابنتى الكبرى أطلقت عليها اسم سهير على اسم أستاذتى، وكانت أستاذة مسرح في جامعة حلون، لكنها توفيت أثناء ولادتها . ابنى الثانى أحمد مدير بشركة سياحة، ولدي حفيدتان «ليلى» 10 سنوات، وهي «هانم» رقيقة تكتب القصص بالانجليزية، أما «سها»، 3 سنوات، فهى متشردة بمعنى الكلمة، ويضحك قائلا: «أحفادي بس هم المسموح لهم باقتحام مكتبى والعبث بأوراقي، حتى مراتي نفسها – ربنا يشفيها - ملهاش الحق ده».

...........................؟

لا يوجد منصب أعلى من أستاذ الجامعة، حتى الوزارة، فأنا أشهر من أى وزير وشهرتى صنعها الكاتب والمفكر وأستاذ الجامعة الذي تخرجت على يديه 3 أجيال.

..........................؟

الحمد لله وضعت وأنا وزير منظومة ثقافية كاملة، وأرسلتها لمكتب الرئيس ولا ينقصها سوى التفعيل، وحلمي الآن هو نفس حلم طه حسين أن أرى شجرة الثقافة باسقة تغطي كل مكان في أرض مصر وتنقل ثمار الحضارة للجميع وتنشر عطرها على الدول العربية، وللأسف لازلنا مهزومين في مواجهة الجمود العقلي، لكننا كمثقفين لا نستسلم ولدينا أدواتنا، وهي العقل والكلمة والكتابة .