جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

الحصان الموقر

جمال فهمي

الثلاثاء، 10 يناير 2023 - 06:22 م

فى مطلع تسعينيات القرن الماضى عندما عرضت إدارة مسرح «الكوميدي فرانسيز» في باريس على مخرجنا الراحل الكبير يوسف شاهين أن يغادر مؤقتاً مملكته السينمائية ويختار نصاً مسرحياً يتولى هو إخراجه ليعرض ضمن برنامج عروض هذا المسرح الفرنسي العتيد ، فإن شاهين ـ حسب ما أظن ـ لم يفكر ولا تردد كثيراً قبل أن يقع اختياره على نص مسرحية «كاليجولا» بالذات التي  يعتبرها كثيرون واحدة من أبرز وأقوى إبداعات الكاتب والروائي والمسرحي الفرنسي ألبير كامو (1913 ـ 1960).

وبدوره فإن كامو نفسه كان انتقى ، وهو بعد في بداية بواكير إبداعه وشبابه ، سيرة الامبراطور «كاليجولا» الذي حكم روما أربع سنوات (من سنة 41 إلى 37 ق.م) متوسلاً بطغيان وجنون مطلق ، لكي تكون هذه السيرة ذريعته لاقتحام العوالم النفسية المعقدة للحكام الذين يأخذهم غرور السلطة المطلقة إلى درجة الخبل العقلي الكامل.

وعند العبد لله أن الأسباب التي وقفت وراء اختيار كل من يوسف شاهين وألبير كامو نفسه ، قصة هذا الامبراطور الرومانى الذى يبدو اسمه يكاد يكون دالاً بذاته على أنماط حكم وحشى سادر فى العبث واللامعقول ، هى أسباب متشابهة تماماً .. فالبنسبة لكامو فإنه كتب «كاليجولا» عام 1938 بينما كانت أوروبا في قلب العواصف النازية والفاشية التي أطلقتها جماعات وقادة ممسوسون بجنون دموي دفعت شعوبهم والبشرية كلها ثمناً باهظاً له ، من أمثال هتلر وموسوليني أساسا ومن خلفهما أتباع مخلصون من شاكلة فرانكو(اسبانيا) وسالازار (البرتغال).

أما «كاليجولا» وأساطير القسوة والشذوذ التي تنسب له ، ومنها أنه اعتبر نفسه إلهاً تمتد سلطته من البشر الذين يحكمهم ويتحكم فيهم إلى نواميس الكون والطبيعة ، فمرة يطلب أن يأتونه بالقمر من مرقده في السماء ، ومرة أخرى يصدر قراراً بتغيير مسار الشمس ويحزن ويبكي بحرقة عندما يجد أنها لم تستجب لقراره وظلت على عادتها الأبدية ، تشرق من الشرق ، رغم أنه أمرها أن تولد كل صباح من الغرب!! .

ومن آيات جنونه وساديته الدموية أنه كان يقول : « عندما لا أقتل أشعر بوحدة قاتلة» و «أرتاح وتستقر نفسي وأنا بين جثث الموتى» .. كما اعتبر نفسه مميزاً بين خلق الله بكونه الوحيد الذي يسرق علناً ومتباهياً ، ومن ثم أضحت العبارة المنسوبة له «أما أنا فأسرق بصراحة»، حكمة ومأثرة مستقرة تقال في كبار النهابين واللصوص .

ويقال إن من نوادر شذوذ كاليجولا وخبله ، أنه لما لاحظ خلو عهده من المجاعات والأوبئة وأن ذلك قد يكون سبباً لئلا تتذكره الأجيال المقبلة ، قرر أن يصنع بنفسه مجاعة تاريخية  لشعبه فأمر بإغلاق مخازن غلال الإمبراطورية وراح يستمتع بصرخات أهل روما من قرص الجوع في أحشائهم!! .

وراح «كاليجولا» يتمادى ويغوص أكثر وأكثر في جنون العظمة حتى ارتكب حماقة لم تكن الأسوأ بين حماقاته لكنها تفاعلت وتفاقمت نتائجها حتى أودت بحياته في النهاية ..

ففي ذات يوم فاجأ الامبراطور المجنون أعضاء مجلس الشيوخ  من أعيان روما بدخوله عليهم قاعة المجلس وهو ممتطى حصانه ، فلما أبدى أحد الأعيان شيئاً من الدهشة والامتعاض ، علق كاليجولا ساخراً : لماذا يبدو هذا العضو الموقر معترضاً على دخول حصاني إلى مجلسكم؟ّ ألا ترون أن ياسادة أن هذا الحصان يحملني فوق ظهره ، وهو شرف يكفيه ليكون موقراً ومبجلاً أكثر من السيد العضو الموقر المعترض؟!  .

لم ينتظر كاليجولا جواباً من أحد ، بل أجاب هو جوابه المدوى بأن أعلن في التو واللحظة ووسط تهليل واستحسان جيش المنافقين ، قراره بتعيين حصانه عضواً في مجلس الشيوخ الموقر!! .
 

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة