زكريا عبد الجواد
زكريا عبد الجواد


يوميات الاخبار

من دفتر محطات العمر

زكريا عبدالجواد

الأحد، 15 يناير 2023 - 07:05 م

 

حنون.. بعكس جفاء الفيزياء، ويحب الوراثة بعلم الأحياء.. ويؤمن بأن حب الخير هو أجمل صفة يورثها الآباء للأبناء.

أعلمُ أنك لا تذكرين لقاءنا الأول.. لحظتها وجدتُ هيبةً وهدوءًا يجلسان على مقعدك الفاخر، وحُقن الوقتُ بكاريزما طافت حول محياكِ.
كان التعارف متأخرًا جدا، سبقه تآلفٌ روحي، لمسته بلمحةٍ من عينيكِ المتسعتين. لم تكن نظرتك غوايةً بالحب، ولكنها إشارة لتأكيد تلاقٍ حتمًا كُتب فى الأزل؛ والغالب فى عالم العشق أن المواعيد تأتى متأخرة.


يومها نسيتُ نفض رماد نصف السيجارة دفعة واحدة، وأنا أستمتع باحتراق الوقت فى حضرتك، كنتِ تلك الجميلة التى تتوق لها الروح، ووسط صخب الوقت؛ تمنيت لحظة بوح لأعترفَ لكِ بهذا الزلزال العظيم.
كان من اللافت وصفك بالمرأة القوية، فرغم جسارتك، وقدرتك على المواجهة، وخلق الأحداث أحيانًا، إلا أنك فى عينى مجرد طفلة بضفيرتين، يتأرجح بينهما حلم مزروع فى قلبك الغض، ولكن.. لا أحد يستطيع أن يضرب موعدًا مع المطر.
لم يُضِف لى محرك البحث «جوجل» جديدًا، حين سألته عن معنى اسمك؛ فقال إنه يعنى «الزهرة الجميلة» فكنتِ تلك الوردة التى تنفث عطر البراءة والجمال.


أعترف بأنى دفنتُ كل النساء قبلك بين السطور، فباتت لكل حكاية قبرًا على الورق، وأعتاهن عشقًا سكتت ترنيمتها، وكان آعلى ارتقائها.. مجرد سطرٍ فى قصة، أو فصلٍ فى رواية.
لا تلومى فعلتى يا سيدتي؛ فهكذا حال الذين يمتلكون ثروة من المشاعر، ولكنهم فقراء المال. مضى الوقت.. ولا أزال أتنفس حين أكتبك.. وأنتظرُ بشغفٍ أن تكتبيني.. ربما لتحترق قصتي، وحتى إن فعلتِ، فلن تجدى مايُبطل مفعولَ قنبلة حنينٍ؛ زُرعت فى قلبٍ كُتب عليه أن يظل مفخخًا بالشوق لك كل الوقت.
عودة محمد حسين
غاب محمد حسين وقتًا طويلًا، ولا نعلم أين هو. نزلنا للسوبر ماركت أسفل العمارة فقال صاحبه: لم يشترِ منى شيئًا! تواصلنا مع قريبٍ له فأخبرنا بأنه لم يره منذ أسبوع، وشاركنا القلق على غيابه.


كان محمد شابًا أسمر، بشعر أكرت، وشارب جميل، يتمايل جسده النحيل مع أكمام جلابيته الواسعة طربًا بشدو ياسين التهامي.
كان زميلًا لنا فى الثانوية الأزهرية، بالقسم العلمي، ولكنه يكره الرياضيات، ويبغض الإنسان الذى إذا طُرح منه المال لا يساوى شيئا!
حنون.. بعكس جفاء الفيزياء، ويحب الوراثة بعلم الأحياء.. ويؤمن بأن حب الخير هو أجمل صفة يورثها الآباء للأبناء.
لم يكن يتفاعل مع الكيمياء أبدا، موقنا بأنه إذا التقى قلبان على محبة «مفلترة» الأغراض فهى أعظم معادلة لجمال الإنسان، وأن المشاعر الصادقة تصل دون الحاجة لاختبار بورقة ترشيح.


حاول أن يهرب من الكليات العلمية ولكن مجموعه ورطه فى كلية الزراعة! فكان يجيدُ سقى كل ما يحكيه بالدهشة.
كان مولعًا – مثل غالبية الجنوبيين- بالشاى المغلي، الذى لا يقدر على احتساء مرارته سواهم، وإذا قرصنا الجوع فى ليال الشتاء لا يكترث، ويسارع ليطمئن فقط على مخزونه الشخصى من الشاي!
وعلى سور بلكونة طويلة، حوافها مرشوشة بالضحكات، وفضاؤها يكفى لفض زكائب من قفشات شباب صعايدة، وحدتهم اللهجة والعادات، وفرّقت بينهم الطموحات، كان يتأمل الفنجان وكأنه فتاة جميلة.
يغيب ربما لساعات مقلقة، ثم يعود باسمًا، وحين نسأله يقول: كنت أبحث عن نوع جديد من الشاي!
اعتدنا غيابه، وعودته بنفس الحجة، ومنذ ثلاثين عامًا أرسلناه ليشترى باكو شاي، ولكنه لم يعد حتى الآن!
وفى العثرات أرزاق
سمعت صوت فرقعة مجهولة أمام نقابة المحامين، فارتعب عدد من المارة المهندمين الذين ركضوا بجواري، ورفرفت رابطات أعناقهم فى الهواء، وضحوا بوقارهم؛ مقابل تمسكهم بلحظة حب للحياة.
أما الباعة الجائلون فكانوا يجلسون فى مواجهتنا، وقابلونا بضحكة عالية! فوقفنا ونظرنا إلى الوراء، فوجدنا طفلًا لا يتجاوز 10 سنوات منكبًا على وجهه فى الأرض، وبطول جسده النحيل أكياس منفجرة من حلوى غزل البنات! فضحكنا جميعًا، ولكن حين التفتنا للطفل تحول الضحك إلى حزن عظيم.


كان يجهش بالبكاء من جرحٍ فوق حاجبه، ولم تفلح المناديل -التى خرجت من جيوب دائرة المتعاطفين معه- فى تجفيف حزن يسكن عينيه، اللتين انشغلتا -رغم الألم - بعَد ما تلف من الأكياس.
وفى لحظة.. لم يسع كتفه الطرى الأكف التى تعاطفت معه، وانتفخت جيوب بنطاله المتسخ بورقٍ من فئات عُملة مختلفة، ربما تفوق ثمن مايبيعه فى شهور.
تعجبت امرأة مسنة كانت ترقب المشهد وقالت: سبحان الله الذى جعل العثرة من أسباب الرزق، ودعت لمن تبرع للطفل بالستر والصحة، وانصرف الجميع، بعد أن أمَّنوا على ما تقول.
رجل الكتاب الأبيض!
طلب منى شابٌ شراء كتاب تعليمي، فتصفحه.. وفجأة مزّق منه ثلاث ورقات، وأصرّ أن يشتريهم فقط بحجة أن هذا ما يحتاجه! فاشتد غضبى ووصل الأمر إلى الاشتباك معه بالأيدي، فتجمع بعض المارة، ولكنهم كانوا يضحكون! ووسط ثورتى أشار أحدهم إلى كاميرا على الرصيف المقابل وقال: تحب نذيع!؟
حكى لى هذا الموقف الغريب خالد كمال بائع الكتب ذلك الرجل الخمسيني، الذى سمعت منه عبارة «كتابك موجود» بنبرة ودودة، هزمت ضجيج الكلاكسات، أثناء تفحصى لبعض الأغلفة والعناوين أمام مجموعة كتب متراصة بأناقة، على أحد الأرصفة بوسط البلد.
سألته: هل لديك رواية «الغربية» للكاتبة المغربية مليكة أوفقير؟ فحكى لى قصة الرواية كاملة فى أقل من ثلاث دقائق! مُعرجًا على التفاصيل المهمة وكأنه مؤلفها!
بهرتنى ثقافته الواسعة، وعلمت أنه قرأ مئات الكتب من روافد معرفية متنوعة، أغلبها عن التنمية البشرية. تنهد؛ ثم ضحك؛ قبل أن يقص عليَّ نادرة أخرى، قال إن رجلًا خليجيًا اشترى منه كتابًا، وبعد شرائه بيوم عاد إليه ضاحكًا وقال له: لقد بعت لى كتابا صامتًا، لا ينطق بحرف واحد! ثم قلّب الصفحات كلها ليكتشف البائع أنها بيضاء!
قطعت حديثنا فتاة طلبت منه رواية «شفرة دافنشي»، فأكد أن الشباب لايزالون يبحثون عن الكتاب الورقي، وأن شفرة اهتمامات الشباب حاليا حكايات الرعب والخيال العلمي.


مؤكدا أن أحمد خالد توفيق ومؤلف آخر قال إنه لا يحبه يتصدران الأكثر مبيعًا، رغم أن المؤلف الآخر مشهور جدا، وله روايات كثيرة تحولت إلى أفلام، ولكنه لم يقرأ له جملة واحدة لافتة!
فسألته: كيف يحقق هذه الشهرة رغم تواضع مستواه الأدبي؟
فرد باسما: أرزاق.
أوجاع على الرصيف
كانت ترص أطقم الأكواب الزجاجية، وتفرش الأرض بكؤوسٍ من الرضا، ثم تتطلع إلى السماء بعشم لعلها تمطر الأماني. كانت جلستها على إحدى محطات الطريق الدائري.
لمح عينيها المتسعتين وهى تقبض على كوب يفيض أناقة، وتتلقى عبارات الفِصال بابتسامةٍ.
حوطتها دائرة من المارة، قطعها شاب أعطاها علبة أرز بلبن، فوضعتها بجوار ملاعق أنيقة، قالت إن دستتها بثمانين جنيها، وحين مطّت عجوز فمها من الرقم قالت بحماسة: دى تركى يا حاجة.
ومن وراء نقاب، حكت له أنها تزوجت رجلًا بعد قصة حبٍ ملتهبةٍ، وظلت معه أربع سنوات، كان ثمرتها ابنًا وحيدًا، وحزمة من الهموم، بعد مرضها بالسرطان اللعين.
قالت: تركنى زوجى بعد مرضى ليرتبط بأخرى، اشترطت عليه أن يطلقني، فتقبلت الأمر، وقررت كفالة نفسي، ولو بالتجارة على أرصفة العناء تجنبًا لمذلة العمل عند آخرين.


وبعد زواجه.. عرفنى على امرأته الجديدة، حتى صارت بيننا صداقة! وأنجب منها بنتًا وولدًا، كان عمر أكبرهما عامين حين ماتت تلك الزوجة الشابة بعمر 29 عامًا، فكفلت واعتبرتهما أولادي، وحين حاول العودة إليًّ رفضت بشدة، فتزوج بثالثة.
حكى لى صديق حكايتها ووعدها بالمساعدة فى نفقات العلاج الباهظة، وطلب منها بعض الأوراق، ولكنه ظل لمدة عام كامل يذهب لمكانها ولا يجدها، وكلما سأل عنها أجابه جيران جلستها: لا نعلم عنها شيئا!
مآسى ورقة الدمغة!
اقترب الرجل الستينى من فتحة النافذة الضيقة جدا لمكتب بريد خلف مستشفى الجلاء، وهو يلتقط الأنفاس بصعوبة وقال للموظف: أريد استبدال هذه الدمغات التى اشتريتها بالأمس فرفض الموظف، وعلا صوتهما بالعراك! حتى تدخل مدير المكتب وفض الشجار باستبدال نصف الدمغات وأعطى للمواطن ثمن الباقي.
ولكن ظل الرجل واقفًا يشكو للسماء. فاقترحت عليه الذهاب لمكتب بريد آخر، فأكد أنه بحث عن الدمغة فئة 30 قرشا فى أكثر من مكتب بريد ولم يجدها!


قال الرجل إنه يحتاجها لتقديمها ضمن المطلوب لملف ابنه بالثانوية الأزهرية، حتى أن مسئول شؤون الطلاب أصر على استلام الدمغات بفئاتها المعتمدة، رغم أن ولى الأمر اقترح عليه زيادة الفئات الأخرى كبديل لغير الموجودة ولكنه رفض وأكد أن لكل طابع استخدام!
وبالصدفة تواصلت مع صديق يقيم فى أوروبا وحين سألته عن الدمغة.. ضحك وقال إن الدمغة فكرة بالية، وكل شيء هنا يتم إما مجانًا وإن كان هناك رسوم فهى ضمن الطلب ولا نعلم شيئًا عن اختراع الطوابع!


ثم تحدثت مع صديق يقيم بدولة عربية فأكد نفس الأمر فهل من حل ينقذ المواطن المصرى من الدمغة وفئات أوجاعها فى مصر؟

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة