إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


يوميات الأخبار

حُلم ليلة شتاء

إيهاب الحضري

الخميس، 19 يناير 2023 - 05:55 م

 

حافظتُ على عينيّ مُغلقتين لأفكّر. ربما يكون لسانى قد انزلق تحت وطأة الحلم، وباح بأشياء إن تُبدَ لها تسؤْها.. وتدفع بى إلى قفص الاتهام.

قصْرٌ فى الحارة

الجمعة:

أمضى وسط حارة تآكلت بفعل شيخوخة أصابت حوائطها بأمراض عديدة. المشهد ليليّ شتويّ، يصمد ظلامه المُعتم أمام أضواء خافتة، تُصارع للنفاذ من مصابيح قليلة علاها الغبار. التفاصيل تُحيلنى إلى مكان أذكر أننى ارتبطتُ به فى زمان مُختلف. لجأ سُكان المكان للبيوت مُبكرا، ووحدها تتجوّل مِعْزة صغيرة بحُريّتها دون خوف. تنظر لى بدهشة، ربما باعتبارى غريبا لا تألف وجهه، أو لكونى ظهرتُ لها فجأة من وسط فراغ تستأثره لنفسها. أنشغل عن عينيها الراصدتين بالاتجاه إلى آخر الحارة المسدودة. فى نهايتها، أتجه ببصرى إلى اليسار. جدار عال يبدو أنه يُخبّئ خلفه قصرا شامخا. قصر فى «حارة سدّ»؟ لا أنشغل بالسؤال كثيرا، وأختار التركيز فى حلم بدأتُ أستمتع به رغم قليل من القلق، فكثيرا ما اكتشفتُ أن الصمت فى أحلامى هدوء يسبق «تسونامى» الكوابيس.. قد تتحوّل فاتنة حسناء إلى عفريت من الجن، أو باقة ورد إلى سلّة أشواك، ففى الأحلام تتداخل الصُور وتُصبح كلّ التحولات مُمكنة. بالتأكيد لم أفكّر بكل ذلك خلال نومي، بل هى محاولات للتنظير أعقبت الاستيقاظ. لنعُد إلى الحُلم أفضل.

وقفتُ أمام الجدار الشاهق، متعجبا من وجوده فى هذا المكان، صحيح أن هناك بيوتا مجاورة أعلى منه، لكنها تضم وحدات سكنية، بينما الجدار لا يضم أية نوافذ أو شرفات. دون أن ينشقّ الحائط، يخرج منه طيف رجل وقور ذى ذقن مُصفّفة بعناية، يرتدى طربوشا أحمر، وبذلة سوداء يحمل جانبها الأيسر عددا من النياشين. ينظر لى باستعلاء يليق بالفارق بين طبقتينا الاجتماعيتين، وأتطلع إليه بتحدٍ لا يكتسب منطقيته إلا إذا كنتُ أدرك أننى خارج نطاق الواقع، ولأننى لا أعلم أننى أحلم فقد استغربتُ أدائي! يقترب منى بثقة القادر على بث الرُعب فى القلوب. فى الخلفية يتشكّل تدريجيا طيفٌ آخر لرجل يرتدى جلبابا رخيص الثمن، ملامحه مألوفة لحد كبير، مقارنة بالسيّد الأنيق الذى يبدو شخصا شهيرا. يشغلنى القلق عن استثمار مفارقة الاختلاف الحاد بين الرجلين، فى الخروج بحفنة آراء فلسفية أبهر بها من حولي، أو أصيبهم بالملل.

الرجل ذو الطربوش اقترب حتى كاد يلتصق بى ورفع يديه نحوى.. الخوف يدقّ أبواب قلبى بعنف جعل جسدى يرتعش، والرجل بالجلباب يُتابعنى مُشفقا، بينما امتلكتْ المِعْزة إيجابية أفتقر إليها «فى الحلم فقط طبعا!»، تبدأ «المأمأة» بحدّة تُصيب ثقة الباشا الملاصق لى بالاهتزاز. يختفى طيفه فجأة، ويبتسم صاحب الطيْف الساكن بالجلباب. أتوجه بنظرى إلى المِعْزة لأشكرها على إنقاذ حلمى من هجمة الكابوس. أتخيل أنها تبتسم لي، لكن النهايات السعيدة لا تليق بأحلامي!

كلام النائمين!

تتبدّل ملامح المِعْزة شيئا فشيئا، لتكتسب شكل كلب مسعور. مؤكدٌ أنه لم يخبرنى أنه مصاب بالسعار، لكنى شعرت بذلك مع اهتزاز المصابيح على طريقة أفلام الرعب، لتمنح ظلالها المخيفة المشهد أجواء أكثر شراسة. أحمد الله أن الأحلام لم تعرف حتى الآن تقنية الموسيقى التصويرية، لأن الاستعانة بها كانت ستزيدنى رُعبا على رُعب. أبدأ الجرْى ونُباح المِعْزة التى صارتْ كلبا يقترب منى أكثر. أجرى خارجا من الحارة، «سأكتشف بعد استيقاظى أنها مجرّد درْب». ألجأ لشارع أوسع والنباح يكاد يفترسني. تتجمّد قدماى عند نقطة انتهاء طاقتي، يستعد الكلب لهجْمته الحاسمة، وأعدّ نفسى لمصير لم يعد تفاديه ممكنا. أرفع رأسى للسماء لإطلاق دعوة أخيرة، تمسح ذنوب السنين السابقة أو تعصمنى من «العضّ». تلمح عيناى لافتة عليها اسم الشارع، إنه «قصر الشوق»، فى الثوانى الأخيرة تتكشّف التفاصيل دائما، أعرف المكان والأشخاص، وتنبعث الذكريات من مرقدها، بينما الكلب الذى صار أكثر ضخامة، يفتح فكّيه لالتهام الفريسة.

تأتى النجدة على طريقة الأفلام ذات السيناريوهات الركيكة. يدٌ تربت على كتفيّ برقة، والرقّة هنا أمر نسبى مقارنة بما أواجهه. أسمع صوت زوجتى يُؤنّبني: «بطّل كلام وانت نايم». هممتُ أن أردّ بحدة، لكن هاجسا مفاجئا دفعنى للتراجع، حافظتُ على عينيّ مُغلقتين لأفكّر. ربما يكون لسانى قد انزلق تحت وطأة الحلم، وباح بأشياء إن تُبدَ لها تسؤْها.. وتدفع بى إلى قفص الاتهام. لو حدث ذلك فالعودة للكابوس ستصير أهون. أفتح إحدى عينىّ بتثاقل مُصطنع، لأجعل المواجهة المُحتملة تدريجية، أجدها تستكمل سُباتها فأعرف أن إزعاجى هو التُهمة الوحيدة، أبتسم وأعود إلى النوم.. فى انتظار حُلم آخر!

وفى الأحلام مُتسع للحنين

السبت:

ترتبط أحلامنا غالبا بتفاصيل واقعية مررْنا بها، نذْكر بعضها بينما تكمن أخرى فى دهاليز بعيدة نسيناها. لا أنوى تقديم تحليل علميّ للأحلام، لكنها فى رأيى تظل عالما ساحرا، حتى لو عشناها على هيئة كوابيس. إنها أشبه بمقاطع من أفلام مُتنوّعة النكهات. كم مرة أفقتَ وأنت تضحك لأنك مررتَ فى نومك بموقف فجّر طاقة الفُكاهة بداخلك؟ وكم منا أفاق ذات ليلة على قبضة فى قلبه بسبب منام مُفزع، وحاول تجاوزه بأساليب مُختلفة.

عموما، كان حُلم الليلة الماضية مزيجا لتجارب وأفكار، تفصل بينها سنوات من العُمر. عرفتُ سبب إحساسى بأن الحارة تسكنني، فالمكان هو «درْب الطبلاوى». يقبع فى نهايته قصر المسافرخانة. أو بتعبير أدقّ، أطلاله التى لا تزال تحتفظ بطعم حريق قضى عليها. ظلّت زياراتى له أسبوعية ثم تراجعتْ لحد الانقطاع، تماما مثلما يحدث مع بشر راحلين قريبين من قلوبنا. المكان الذى انتهى بشكل شبه كامل عام 1998، يرصد تحولات المدينة كلها. من حقّ زائره أن يتعجّب مثلما اندهشتُ فى الحُلم، من وجود قصر فى أحد الحواري، وتتصاعد الدهشة إلى أعلى مُعدلاتها، عندما يعلم أن الخديو إسماعيل «الرجل بالطربوش» وُلد فى هذا المكان، بعيدا عن القلعة التى كانت مقرا للحُكم. التحوّلات الاجتماعية تُقدم التفسير ببساطة، فهناك أماكن ظلّت فى فترة من الزمن مقرا للصفوة، إلى أن ظهرتْ بدائل اجتذبت الأمراء والأثرياء، ليبدأ العامة زحفهم على مناطق لم يحلموا يوما بالاقتراب منها.

فى القاهرة نماذج عديدة، معظمها فى محيط شارع المُعز، الذى كان قلب العاصمة عندما أنشأها الفاطميون، وظل تجمُعا أشبه بـ «الكومباوند»، لقصور الأمراء فى العصرين المملوكى والعثماني، إلى أن تحوّل فى العصر الحديث إلى أكبر موقع للآثار الإسلامية، تتخلّله حارات وأزقة شعبية، لا تتناسب مع طبيعة تخطيطه قبل أكثر من ألف عام. دوام الحال من المحال، مثل لا ينطبق على البشر وحدهم، بل يمتد إلى الأماكن التى التحمت بالناس وتطبّعت بطباعهم، ومنها شارع بورسعيد الذى كان خليجا مائيا تتراص عليه قصور ذوى النفوذ.

قرأتُ الفاتحة للرجل ذى الجلباب. عم بدير الذى حرس المسافرخانة لسنوات طويلة، وكاد يتحول مع ابنه محمود إلى «شماعة» تُعلّق عليها مسئولية الحادث المُفجع، وكان السبب فى إنقاذهما سلسلة تحقيقات وتقارير نشرتُها خلال أعوام عملى بجريدة «أخبار الأدب»، وحذرتُ فيها من خطورة استعمال أهالى درب المسمط لجدران الجهة الأخرى من القصر فى حرق قمامتهم! الجُزئية الأخيرة تحديدا تكشف سرّ المِعْزة التى تحوّلت إلى كلب مُتوحّش. إنه خطر الإهمال عندما يتنامى، ولحُسن الحظ أننا نجد أحيانا من يربت على أكتافنا لينقذنا من وحش استهتارنا!

كوابيس اليقظة

الأربعاء:

تمضى السيارة على الكورنيش باتجاه المعادي. انسياب مرورى لا يتناسب مع طبيعة المسار فى هذا الوقت من الليل. نصل إلى نقطة تنجح دائما فى جذب انتباهي. على اليسار بنيان ضخم، هو نقطة البداية لسور مجرى العيون، وجهة اليمين مجرى ضيق للنيل، يفصلنا عن حى المنْيل. إنها بوابة زمنية وفق مصطلحات أفلام الخيال العلمي. ينطلق فيها الحاضر بين ماضييْن، أحدهما عمره سنوات والآخر أكبر بعدة قرون. لا ينتبه إليها إلا من يختارهم القدر، وأزعم أننى أحدهم فى هذه اللحظة. على اليمين ذكريات إحدى قصص الحب القديمة، لن أتحدث عنها لدواع أمنية! ويسارا تتجلّى بعض حكايات تاريخ أعشقه، قد أروى بعضها فى وقت آخر.

المهم الآن أن ألحق دورى عند الطبيب، فالتأخير معناه انقضاء ساعتين على الأقلّ كوقت مُستقطع من عُمري، فى انتظار دور آخر، حتى صديقى الطبيب نفسه لا يعلم متى يحلّ. يبدو أننى حسدتُ المرور، أو أنه عاد لممارسة ألاعيبه معى كلما شعر أننى مُرتبط بموعد مهمّ. انسدتْ شرايين الشارع دون مبرّر، وواصلت السيارة سيرها على عجلات اكتسبتْ صفات السُلحفاة، غير أن الأمر لم يستغرق وقتا طويلا لحُسن الحظ. مجرّد «ميكروباص» مُتهافت، يصطاد الزبائن دون مراعاة لطابور يترنّح وراءه من الغيظ، الذى يتحول إلى طاقة صوتية من «الكلاكسات» المُتتابعة. السائق المُخالف لا يجرؤ على فعل ذلك بالتأكيد، فى المناطق التى يعلم أن كاميرات مراقبتها ستلتقط خطاياه. يخاف من كاميرا و «ما يختشيش» من تعطيل مصالحنا. محظوظة هى الشوارع والميادين التى تذوّقت ثمار الكاميرات. الجميع يلتزمون فيها بالقواعد مُضطرين، فإذا اجتازوها زادوا معدّل تجاوزاتهم كأنهم ينتقمون. يُفترض أن تنتشر عدوى السلوك الإيجابي، عندما نشعر بأهميته فى حياتنا، غير أن هناك من يتعاملون مع الكاميرات، باعتبارها نقطة عابرة بين النظام والفوضى. تخيّلت الوضع لو تخلّت هذه الكاميرات عن ثباتها وأصبحتْ طائرة، تتعقب المخالفين المُتخلفين دون أن يعرفوا أماكنها، وقتها فقط سيخشوْن «مخالفات الفجأة» ويلتزمون بالنظام، ونتفادى نحن إرهاق كوابيس اليقظة.

أفيق على أغنية تنساب من المذياع خلال صعودنا إلى الطريق الدائري. إنها أم كلثوم تُطلق تحدّيا شديد اللهجة: «للصبر حدود»!
 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة