صورة تعبيرية
صورة تعبيرية


قلب لا يكره

جودت عيد

الخميس، 19 يناير 2023 - 09:05 م

كان يتراقص وسط أصحابه فرحا، يتمايل معهم كالطفل السعيد، تعلو صيحات ضحكاته أغاني وأهازيج نساء قريته البسطاء، ولم لا.. فذلك يوم عرسه، الجميع سعداء من حوله، سنوات وهو ينتظر هذه اللحظة، كثيرا ما حلم مع عائلته الفقيرة بليلة زفافه. 

لكن دائما تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، وسط فرحته الطاغية، اقترب منه شقيقه، همس فى أذنه، بعدها تغيرت ملامح وجهه.. انصرف الشاب فجأة من حلبة الرقص إلى مكان هادئ، اعتاد الذهاب إليه مع كل أزمة يمر بها، لكن الصدمة كانت أشد، اختفت ابتسامته، واستوطنت الدموع مكانها، وعادت حياته إلى نقطة الصفر من جديد.

كان يفصله عنها عشرات الكيلو مترات، فهو من إحدى قرى كفر الشيخ وهى من مدينة الإسكندرية، جمعتهما الدراسة فى كلية واحدة. 
لم يكن ذلك الشاب سوى جسد يعيش بداخله طفل برىء، ولد وكأنه جاء من عالم الملائكة، لم يسئ يوما لاحد، أو يرفع صوته، دائما كان مسالما، راضيا بقلة حاله، أحلامه محدودة، يبحث عن الأمان فى كل قراراته وحركاته، يتملكه الخجل حتى أثناء الحديث. 

كان يخشى الاجتماعات، رغم أنه يملك سحرا فى الكلام، لكن الخجل يجعله عاجزا عن المواجهة أو التحدث، لذلك اختار أن يعيش داخل حياته البسيطة، تاركا ملذات الدنيا لمن يملك مفاتيحها. 
كان الجميع يتعاطف معه، ويحسدونه فى نفس الوقت، يتساءلون لم لا تفارقه الابتسامة رغم فقره؟، لماذا دائما راض بحاله رغم تغير الدنيا أمامه؟، ألقوا التهم على فقره لكن ذلك الشاب كان يرد عليهم، وماذا أريد من الدنيا غير الابتسامة والامل والرضا والقناعة.

مشهد واحد كان كفيلا بأن يسرق أعين أجمل فتيات الكلية، اقترب منها ذلك الشاب بتواضعه المعهود، أخبرها أنه انتهى من كتابة مذكرة خاصة بإحدى المواد، وأنه علم أنها المسئولة عن جروب الكلية، وطلب منها أن تخبر الجميع لمن يريد أن يحصل عليها ويصورها مجانا.

نظرت إليه الفتاة بتعجب، وتساءلت فى دهشة، لماذا ترهق نفسك من أجل الآخرين؟، ليرد عليها الشاب، جزء أرد به جميل الزملاء الذين وقفوا معى فى محنة مرضي، لم يتركوني، وتحملوا كل شىء من أجل أن أعود وأستكمل دراستي.

جذبها بساطته ولباقة حديثه، كان خجله الزائد وهو يتحدث معها يستهويها لإطالة أمد الكلام معه، حاولت أن تمرر له السؤال تلو الآخر، حتى تستطيع أن تبقى معه وقتا أكبر، لكنه استأذنها مع انطلاق صوت الأذان للصلاة. 

شعرت الفتاة أن ذلك الشاب مختلف عن غيره من طلاب الجامعة، رغم بساطته إلا أن القناعة تملأ وجهه، لا تستهويه تصرفات شباب هذا اليوم، لذلك قررت أن تنتهز الفرصة مرة أخرى لتتحدث معه.. ومرت الأيام، وتوالت اللقاءات بينهما لأسباب كانت هى من تجدها، حتى تطورت العلاقة بينهما وأصبحا صديقين.

كان الفتى يهرب بعينيه بعيدا عنها يحاول أن يكتم ما يشعر به قلبه تجاهها، لقد تحرك أخيرا، وبدأ يشتاق إليها كلما تأخرت عن الحضور أو تغيبت أياما، لكنه عاد وكتم حبه، اختار أن يكون من طرف واحد فقط، فجعله حقيقة يحتاج إلى معجزة. 

هو يدرك قلة حيلته جيدا، يعلم أن الفروق بينهما كبيرة، فهى من المدينة، وهو من إحدى قراها، والده ريفى بسيط، ووالدها وكيل وزارة، مهما عمل ليل نهار، لن يوفر لها المكانة التى تعيشها وسط أسرتها.

رغم كل ذلك كانت الفتاة تطارده ليل نهار، حتى أخبرته فجأة أنها تعلقت به، وأنه أصبح حبها الوحيد ورفيقها فى الدنيا، فى هذه اللحظة، أخفى الشاب خجله، اخرج حبه من قلبه وألقاها على لسانه فاخبرها وهو قابض على يديها بقوة انه يحبها من أول لقاء جمعهما معا. 

كان الاعتراف بالحب مهما للاثنين، أزال كثيرا من القيود بينهما، أصبح الحديث عن الخطوة الثانية يحتاج إلى شجاعة، على الطرفين أن يقنعا أسرتيهما بها. 
أدرك الشاب صعوبة ما يتمناه، مازال طالبا فى السنة النهائية، والفقر يطغى على تفاصيل حياته، أما الفتاة فكانت أمام تحد فى إقناع والدها باختيارها، عليها أن تقدم التنازلات لتفوز بذلك الشاب، أما هو فليس لديه شيء يقدمه، فقط مطلوب منه أن يخبرهم بحقيقة ظروفه ويتركهم يحددون مستقبله مع ابنتهم.

اقرأ أيضًا | محافظ الدقهلية يوجه بالتعامل الفوري مع تداعيات حادث تصادم « المطرية - بورسعيد»

لكن ذلك الفتى تراجع عن إخبارهم بفقره، قرر أن يتفق مع الفتاة على كل شىء، قبل القدوم إلى منزلها وإعلان الخطوبة، كان لا يريد أن يخسرها، أخبرها أنه لو كان يملك الدنيا لقدمها لها، لكن هذه ظروفه، وتلك حياته، طمأنته الفتاة أنها ستتصرف فى كل شىء، عليه فقط أن يقول حاضر ونعم لكل طلبات والدها. 

حضر الشاب بصحبة والدته إلى منزلها، طلب خطبتها، وتفاجأ بموافقة والد الفتاة، الذى يملى شروطه كاملة، لم يعترض الفتى، وافق عليها جميعها وسط ذهول والدته، التى كانت تعلم حقيقة ظروفهم المالية. 

بعد أشهر، تخرج الشاب والفتاة فى الجامعة، بدآ معا رحلة البحث عن عمل، نجح الفتى فى الحصول على وظيفة فى مدينة الإسكندرية، فى حين اكتفت الفتاة بالمكوث فى المنزل.. مرت الأيام والعلاقة بينهما فى افضل حال، حتى اقترب موعد الزفاف، كان الشاب يمنح الفتاة راتبه بالكامل، وكانت تدخر له المبلغ لسداد المهر الذى أملاه عليه والدها، هكذا كان اتفاقهما معا.

وفى نفس الوقت عجز الشاب عن تجهيز نفسه، اتفق مع الفتاة على كل شىء، ووعدها بالعيش عاما واحدا فى قريته وبعدها الانتقال لشقة فى المدينة، كان الاثنان يتفقان بمفردهما بعيدا عن أسرتيهما، فهما يدركان أن تلك حياتهما ولا دخل لأحد فيها. . لكن حدث ما كان يخشاه الفتي، تحدد موعد الزفاف، سلمت الفتاة المال الذى كانت تدخره للفتى من راتبه ليقدمه مهرا لوالدها، وبدأت التجهيزات ليوم الزفاف.

أرسل والد الفتاة عمتها الى منزل الفتى لتجهيز الشقة لنقل عفش ابنته، كانت الأمور تسير على ما يرام، حتى اكتشفت عمة الفتاة أن الفتى ليس لديه شقه، وأن البيت الذى استقبلهم فيه من قبل كان بيت جارهم. 

وأدركت من حديث الناس أنه فقير ولم يشتر جهاز العروسة، وأنه دخل فى حجرة شقيقه الأكبر، لتسارع وتخبر شقيقها بكل ما رأته.
كان الخبر حزينا للأب، أدرك أنه وقع فى خديعة كبرى، أين ما تم الاتفاق عليه؟!، عام واحد فقط فى القرية ومنزل خاص بابنته، وبعدها العودة الى المدينة.

أخذ الاب يتساءل فى حيرة من أمره، لماذا لم يخبرنى بما فعله اليوم، لقد أنفقت كل مالى فى تجهيز ابنتى، واليوم تتزوج فى حجرة ليست ملكها بل ملك شقيق زوجها.
قرر الاب وضع حد لهذه المأساة، تواصل مع الشاب لكن كان هاتفه مغلقا، طلب شقيقه، وأخبره أن الزفاف لن يكتمل وعليه أن يطلب من الفتى تطليق ابنته اليوم قبل الغد. 
أخبر الشاب شقيقه بما قاله والد الفتاه، نزل الخبر عليه كالصاعقه، تواصل مع زوجته لكن هاتفها كان مغلقا، اتصل بوالدها، أراد أن يخبره أن ذلك وضع مؤقت وأن كل شىء تم بالاتفاق مع ابنته، لكن والد الفتاة رفض كل تبريراته، وطلب منه تطليق ابنته وإلا سيذهب للمحكمة. 

حاول الشاب مع الجميع، لكن الطريق كان مغلقا، تمسك والد الفتاة بكلامه، وأخبره أن ابنته وافقت فقط على العيش عاما فى القرية لكن أين سكنها الخاص، والعفش الذى اشتريته لها ..لقد خدعتنا جميعا.  

عجز الفتى عن إقناع الجميع، تحول عرسه إلى حديث أهل قريته، والقرى المجاورة، ترك بلدته واستأجر شقة فى المدينة مع أحد اصدقائه، ورفض طلبات زوجته بتطليقها.
وبعد أشهر فوجئ بمحضر من المحكمة يخبره بموعد جلسة خلع أقامتها زوجته، حضر الفتى الجلسة، وحاول إقناع القاضى بوجهة نظره، لكن الحكم صدر بخلعه. 
فاجأ الشاب والد الفتاة، أخبره أنه ليس فى حاجة إلى مهر أو ذهب من ابنته، هو هديته إليها، ثم غادر المحكمة وسط ذهول الجميع.

أمنية لاستكمال الحياة

قابلتها فى أحد مراكز غسيل الكلى بمحافظة البحيرة، كان وضعها الصحى صعبا جدا، تتحرك بصعوبة، دار بينى وبينها حديث قصير،علمت منها أنها أم لأربعة أبناء «ولدين وبنتين» ، أرملة وتوفى زوجها بعد 10 سنوات زواج.. وتحملت بمفردها تربيتهم.

هى سيدة ريفية بسيطة، عمرها تجاوز الستين عاما، عندما علمت أننى صحفى.. توسلت الىّ أن أخاطب أهل الخير بتوفير كرسى عجل لها، تتحرك به عندما تحضر أسبوعيا لإجراء جلسات الغسيل الكلوى، أو خدمة أولادها وأحفادها فى المنزل.

هى لا تحتاج سوى هذا الكرسى، ساعدوها وامنحوها طلبها، والخير كله لكم.. رسالتى لأهل الخير وجمعية الأورمان.. لدى بياناتها لمن يريد التواصل.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة