د. مصطفى رجب
د. مصطفى رجب


د. مصطفى رجب يكتب: لماذا أُحب أفلاطون؟

الأخبار

الإثنين، 23 يناير 2023 - 06:17 م

ومازال كل ما يربطنى بالمخترعات جهاز راديو صغير فى حجم علبة الدخان له مفتاحان: أون on، وأوف off

أعترف بأننى أحب أفلاطون، الذى عاش حتى بلغ واحدا وثمانين عاما، ثم مات فى حفل زفاف كان يشهده، حبا عظيما، خصوصا بعد قراءتى معظم أعماله المتاحة منذ عقود. شيئان فقط أكرههما فى سيرته كل الكراهية: الأول كونه كان بطلا رياضيا يفوز بالجوائز، والثانى هو حبه للهندسة. (وهو ما أشارك فيه تلميذه «ديومنسيوس» الذى لم يكن يحب الهندسة أيضا).
أحب فى أفلاطون أنه كان جنديا شجاعا، وشاعرا مبدعا، وخبيرا فى سباق الخيل، والأهم من هذا كله: حبه للكوميديا الساخرة!
عصر أفلاطون (النصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد) كان يشبه عصرنا الحالى فى أشياء: ملل الناس من الحروب، خيبة آمالهم فى الثورات، شكّهم فى كثير مما حُوول توريطهم فيه من معتقدات ظهر خطلها.

حين بلغ أفلاطون العشرين طارت شهرته بوصفه شاعرا، وصادف ذلك التقاءه مع شيخه سقراط الذى ظل ملازما له حتى وفاته، وكان يشهد كل تلك اللقاءات التى كان سقراط يعقدها فى أحد الملاعب الرياضية أو المعابد. ويدوّن معظم ما يسمعه من شيخه سقراط.
من أهم أفكار أفلاطون - وهى باكورة ما سمى فيما بعد بعلم النفس- رؤيته أن حياتنا تنقسم ثلاثة أقسام:
- قسم حسى يشمل الشهوات والعواطف.
- وقسم متحفز يشمل الإرادة (أو الروح).
- وقسم مفكر هو العقل.

ولأن العقل هو ما يميز الإنسان عن الكلاب والقرود و(بعض رؤساء التحرير) فمن الطبيعى أن يكون هو القسم الأسمى . ويليه الروح التى تنفذ ما يمليه العقل، وعلى الشهوات والعواطف أن تطيع ما تمليه الروح.

ومما تفرد به أفلاطون أنه أول من تحدث عن سيكولوجية الضحك، وأول من وضع حدودا للاقتصاد حين رأى أن أقصى ما يجب أن تملكه أسرة يجب ألا يتجاوز ما تملكه أربع أسر أخرى. كما تفرد برؤيته للجَمال، فقد كان يرى أن « فكرة» الجمال يجب أن نحبها أكثر من الشخص الجميل نفسه!!. وهذا ما شاع فيما بعد تحت اسم «الحب الأفلاطوني».
وأفلاطون هو أول من ابتكر فكرة دور الحضانة ورياض الأطفال وطبقها.

إننى لا أشك فى أنه قد يكون - بنزعته الصوفية المعروفة - ممن أشار الله تعالى إليهم فى قوله سبحانه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) «غافر/78» فقد ظهرت فى كتاباته إشارات إلى الخالق الأعظم.
اللهم ارحم أفلاطون بقدر ما تعلمت منه البشرية، و»فلطِن» بعضَ مثقفينا!

تاريخي الناصع مع «التكنولوجياء»:
بينى وبين هذه الكلمة (التكنولوجيا) من الكراهية والعداء والتربص والشك والحذر والتخوف، أشد بكثير مما كان بين قبيلتى عبس وذبيان فى الجاهلية، فأنا بطبيعتي، ولأسباب اجتماعية وفلسفية، أعادى التطور، وأتجنبه، وأبغضه، وأحب الهدوء والراحة.

وحين كنا طلابا فى السنة الثالثة بكلية التربية العريقة بأسيوط فوجئت بمادة مقررة علينا اسمها «الوسائل التعليمية»، وسألت زملائى الذين يحضرون «كل» المحاضرات، ما عسى أن تكون هذه المادة؟ ومن الذى يحاضر فيها؟ وما معنى أن لها دروسا عملية؟ كانوا يسمونها اسما غريبا: .... «السكاشن !!».

حتى ذلك الحين ... وعمرى يقترب من السنة الحادية والعشرين، كان كل ما يربطنى بالمخترعات جهاز راديو صغير فى حجم علبة الدخان له مفتاحان: أون on، وأوف off.
وحتى وقتنا الحاضر، كل ما يربطنى بالدنيا وبالتقنيات هما تانك الكلمتان: الأون والأوف.

وشيئا فشيئا ، تقدمنا فى الدراسة ، وأنا بطبيعتى لا أحضر إلا دروس النحو والصرف والبلاغة والأدب والنقد والتاريخ والفلسفة وقليلا جدا من تاريخ التربية وتاريخ التعليم، أما المناهج وتلك الوسائل التعليمية وعلم النفس التربوى (وكان له معامل أيضا بها تجارب والعياذ بالله !!) فكل ذلك لم أكن أحضره ولا أشترى مذكراته، وأكتفى بمذاكرته ليلة امتحانه مع جار كريم لى بالمدينة الجامعية.

ثم... وقعت واقعة !!.
قيل لى إن هذا العام فيه درجات عملية وامتحانات عملية وحضور ضرورى لتلك الامتحانات، وإلا فلا نجاح ولا انتقال من السنة الثالثة إلى الرابعة!.
وتوكلت على الحى القيوم، وقرأتُ ما أحفظ من القرآن، ووعدتُ جميع أضرحة أسيوط بشموع ودموع... وذهبت للامتحان العملى فى مادة «الوسائل التعليمية».
وقد كان لتلك «الوسائل التعليمية» معمل !!

أى نعم: معمل !! كما أن للكيمياء معملا وللفيزياء معملا، فــ»الوسائل التعليمية» لها معمل أيضا...!!.
لكن: ما عسى أن يكون فيه؟ سمعت من بعض زملائى عن شيء فيه غريب يسمونه (الأبيديا سكوب!!)، فاستعذت بالله العظيم من الشيطان الرجيم وعمايله، وسألتهم: وأين هو هذا البلاء؟ قالوا: أمام ذلك المعيد الذى على اليمين.

فسألتهم عن «الراديو»، فقالوا هو أمام تلك المعيدة التى على اليسار،.... وكانت المعيدة حلوة ساحرة ومن يومها وأنا أعشق اليسار!!.
ووقفت فى الصف على الباب فى طابور الزملاء، وكان أستاذ تلك المادة وكيل الكلية سنتئذ، وهو المرحوم الدكتور نظمى حنا ميخائيل، وكان يحبنى ضمن مجموعة قليلة يحبها من الطلاب المشاغبين الذين يكتبون كثيرا بمجلات الحوائط التى كان يحرص جدا على قراءتها.

كان الدكتور نظمى حنا ميخائيل يجلس أمام المعمل واضعا ساقا على ساق، ممسكا سيجارته متابعا لما يدور بالداخل، وفى اللحظة التى جاء الدور فيها عليَّ للدخول، كان زميلى الذى يُمتَحن أمام ذلك المعيد الشرس العنيف ذى (الأبيديا سكوب !!) قد خرج.. فأشار لى أستاذنا نظمى بالدخول لأمثل أمام (الأبيديا سكوب !!) فاجتاحنى رعبٌ رهيب حتى لقد عجزت عن الكلام، وأشرت لأستاذنا بالأصبع السبابة يمينا ويسارا علامة على رفضى الدخول، فاندهش جدا، فأشرتُ له بإصبعى ناحية تلك المعيدة الحسناء، فأخذنى بيده إلى جانبه، وأدخل الذى يقف خلفى إلى ذلك المعيد ذى (الأبيديا سكوب !!).

فلما فرغ الذى أمام تلك المعيدة ناداها باسمها، فقال لها: «خدى الولد ده مصمم ييجى يمتحن عندك!!) فارتبكتْ قليلا، وقسمتْ نظراتها بينى وبين أستاذها البعيد عند الباب، وسألتني: أنت جاى هنا ليه؟ قلت لها: ما أعرفش فى كل اللى فى معملكم ده غير «الراديو»، فالتقطت أنفاسها، وسألتنى بصوت عال: ممكن أسألك يا مصطفى عن الراديو؟ قلت بصوت عال: أجل. سلى ما شئت. فقالت (وهى متفائلة ومقبلة على الحياة بدون مبرر!!): ممكن تقول لى يا مصطفى ازاى الموجات الحرارية بتتحول لموجات كهرومغناطيسية؟ !!!
قلت فى سري: يخرب بيت يومك اللى مش فايت !!، هى حصَّلت كده؟

«قلت ذلك فى نفسى طبعا»
قلت لها بهمس رومانسى خافت: يا أستاذة أنا ما أعرفش فى الراديو غير أون وأوف. ما تفضحينيش... سايق على أهلك النبي.
قاومت الأستاذة الفضلى الضحك بصعوبة شديدة، ثم أجابت بصوت عال جدا يسمعه د. نظمى بوضوح: آه. يعنى أنت تقصد أن الموجات اللى واللى واللي... واشتغلت!!
وأنا أتمتم: نعم... أجل... بلى... حبذا... حيثما... حينئذ... لا شك...
أنا وأنت وأنتما وأنتم وأنتن..
وهو وهى وهما وهم وهن ...!! وهؤلاء!!

ونجحت!!
وأخدت جيد جدا فى هذه المادة!!
وأنا حتى هذه اللحظة - من غير أيمان - ما زلت لا أعرف ما عسى أن يكون هذا الــ (الأبيدياسكوب!!)
ومازال كل ما يربطنى بالمخترعات جهاز راديو صغير فى حجم علبة الدخان له مفتاحان: أون on، وأوف off / وفى كل شقة أملكها فى أى بلد راديو من هذا النوع.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة