أرشيفية
أرشيفية


قبل 71 عامًا..

وما نيل الشهادة إلا بالكرامة والشرف.. معركة الإسماعيلية وتضحيات رجال الشرطة

محمد عبادي

الثلاثاء، 24 يناير 2023 - 07:09 م

في 25 يناير، وقبل 71 عامًا، وبالتحديد عام 1952، شهدت محافظة الإسماعيلية معركة البطولة والكرامة والشجاعة الحقيقية التي جسد فيها رجال الشرطة ملحمة لم ولن ينساها التاريخ أبد الدهر. 
بعد أن استشهد في هذا اليوم 56‏ شهيدًا و‏80‏ جريحًا، في سبيل آداء واجبهم المقدس في الحفاظ على أمن وآمان المواطنين، فكانوا مثالا وقدوة لزملائهم على مر الزمان في التضخية والتفاني في العمل.

انطلقت شرارة هذه المعركة بعد اتصال هاتفي بين وزير الداخلية حينها فؤاد سراج الدين، وقائد قوات الشرطة في الإسماعيلية اللواء أحمد رائف، كان نصها: "آلو .. حولني على فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية .. مين يا فندم، أنا اللواء أحمد رائف قائد بلوكات النظام في الإسماعيلية، حاضر يا فندم .. معالي الوزير صباح الخير يا فندم .. صباح النور .. يا فندم قوات الاحتلال البريطاني وجهت لنا إنذار برحيل قوات البوليس عن مدينة الإسماعيلية، واحنا يا فندم رافضين وقررنا المقاومة، ومنتظرين تعليمات سعادتك.. حتقدروا يا أحمد .. يا فندم مش حنسيب الإسماعيلية حتى لو ضحينا بآخر نفس فينا .. ربنا معاكم .. استمروا في المقاومة". 

اقرأ أيضا | نائب محافظ الإسماعيلية يتابع حل مشاكل الصرف الصحي بمدينة المستقبل 



كانت منطقة القناة تحت سيطرة القوات البريطانية بمقتضى اتفاقية 1936، والتي كان بمقتضاها أن تنسحب القوات البريطانية إلى محافظات القناة فقط، دون أي شبر فى القطر المصري، فلجأ المصريون إلى تنفيذ هجمات فدائية ضد القوات البريطانية داخل منطقة القناة، وكبدتها خسائر بشرية ومادية ومعنوية فادحة؛ وذلك كان يتم بالتنسيق مع أجهزة الدولة في ذلك الوقت.


وكان الفدائيون ينسقون مع رجال الشرطة لشن هجمات فعالة وقاسمة ضد القوات البريطانية، وهو ما فطن له البريطانيون؛ حيث قاموا بترحيل المصريين الذين كانوا يسكنون الحي البلدي فى الإسماعيلية، بينما كانوا هم يسكنون الحي الأفرنجي؛ وذلك للحد من عملياتهم البطولية ضد قواتهم، ولكن ذلك لم يؤثر على الفدائيين وزادت هجماتهم شراسة، وذلك بالتنسيق مع قوات الشرطة المصرية.


وعندما فطنت القوات البريطانية بأن رجال الشرطة يساعدون الفدائيين، قررت خروج كافة أفراد الشرطة المصرية من مدن القناة، على أن يكون ذلك في فجر يوم 25 يناير 1952، وفوجىء رجال الشرطة بعد وصولهم إلى مقر عملهم في مبنى محافظة الإسماعيلية، بقوات الاحتلال البريطاني تطالب اليوزباشي مصطفى رفعت قائد بلوكات النظام المتواجدة بمبنى محافظة الإسماعيلية، بإخلاء مبنى المحافظة خلال 5 دقائق، وترك أسلحتهم بداخل المبنى، وحذروهم بمهاجمة المبنى في حالة عدم استجابتهم للتعليمات.


لقد توهم الاحتلال البريطاني أن رجال الشرطة سيخافون على حياتهم، ويتركون سلاحهم ويهربون، حفاظا على أرواحهم، ولكنهم فوجئوا ببطولة وملحمة سُطرت في تاريخ مصر المشرف بأحرف من نور؛ حيث رفض اليوزباشي مصطفى رفعت الإنسحاب وترك مبنى المحافظة، وقال لقائد قوات الاحتلال (إكس هام): "إذا أنت لم تأخذ قواتك من حول المبنى .. سأبدأ أنا الضرب، لأن تلك أرضي، وأنت الذي يجب أن ترحل منها ليس أنا .. وإذا أردتوا المبنى .. فلن تدخلوه إلا ونحن جثثًا".

 ثم تركه ودخل مبنى المحافظة، وتحدث إلى جنوده وزميله اليوزباشي عبد المسيح، وقال لهم ما دار بينه وبين (إكس هام)، فما كان منهم إلا وأيدوا قراره بعدم إخلاء المبنى، وقرروا مواجهة قوات الاحتلال، على الرغم من عدم التكافؤ الواضح في التسليح؛ حيث كانت قوات الاحتلال تحاصر المبنى بالدبابات وأسلحة متطورة شملت بنادق ورشاشات وقنابل، فيما لا يملك رجال الشرطة سوى بنادق قديمة نوعا ما.


وبدأت المجزرة الوحشية في الساعة السابعة صباحًا يوم الجمعة 25 يناير 1952، حيث انطلقت مدافع الميدان من عيار ‏25‏ رطلا، ومدافع الدبابات ‏(السنتوريون‏)‏ الضخمة من عيار‏ 100‏ ملليمتر، تدك بقنابلها مبنى المحافظة، وثكنة بلوكات النظام بلا شفقه أو رحمة، وبعد أن دكت الجدران وسالت الدماء أنهارا، أمر الجنرال إكس هام بوقف الضرب لمدة قصيرة لكى يعلن على رجال الشرطة المحاصرين فى الداخل إنذاره الأخير، وهو التسليم والخروج رافعى الأيدى وبدون أسلحتهم، وإلا فإن قواته ستستأنف الضرب بأقصى شدة‏.‏


وتملكت الدهشة القائد البريطانى المتعجرف، حينما جاءه الرد من ضابط شاب صغير الرتبة، لكنه متأجج الحماسة والوطنية، وهو النقيب مصطفى رفعت، فقد صرخ فى وجهه فى شجاعة وثبات‏: لن تتسلمونا إلا جثثا هامدة، ليستأنف البريطانيون المذبحة الشائنة فانطلقت المدافع وزمجرت الدبابات وأخذت القنابل تنهمر على المبانى، حتى حولتها إلى أنقاض، بينما تبعثرت فى أركانها الأشلاء وتخضبت أرضها بالدماء‏ الطاهرة. ‏


وبرغم ذلك الجحيم ظل أبطال الشرطة صامدين فى مواقعهم، يقاومون ببنادقهم العتيقة من طراز ‏(لى إنفيلد‏)‏ ضد أقوى المدافع وأحدث الأسلحة البريطانية، حتى نفدت ذخيرتهم، وسقط منهم فى المعركة ‏56‏ شهيدًا و‏80‏ جريحًا، ‏ بينما سقط من الضباط البريطانيين ‏13‏ قتيلًا و‏12‏ جريحًا، وأسر البريطانيون من بقى على قيد الحياة من الضباط والجنود، وعلى رأسهم قائدهم اللواء أحمد رائف، ولم يفرج عنهم إلا فى فبراير‏ 1952.


ولم يستطع الجنرال إكسهام أن يخفى إعجابه بشجاعة المصريين، فقال للمقدم شريف العبد ضابط الاتصال‏: "لقد قاتل رجال الشرطة المصريون بشرف واستسلموا بشرف، ولذا فإن من واجبنا احترامهم جميعا ضباطًا وجنودًا"، وقام جنود فصيلة بريطانية بأمر من الجنرال إكس هام بأداء التحية العسكرية لطابور رجال الشرطة المصريين عند خروجهم من دار المحافظة، ومرورهم أمامهم تكريما لهم وتقديرا لشجاعتهم‏، حتى تظل بطولات الشهداء من رجال الشرطة المصرية فى معركتهم ضد الاحتلال الإنجليزى ماثلة فى الأذهان، ليحفظها ويتغنى بها الكبار والشباب، وتعيها ذاكرة الطفل المصرى وتحتفى بها.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة