عبدالحليم قنديل
عبدالحليم قنديل


عبدالحليم قنديل يكتب: الرهان الأوكراني

بوابة أخبار اليوم

السبت، 28 يناير 2023 - 12:35 ص

 

هل تنقذ دبابات الغرب الأحدث أوكرانيا؟ والسؤال بالأحرى وبالوضوح القاطع ، هل تنقذ الدبابات حلف الغرب من هزيمة واردة فى الميدان الأوكرانى ؟ لا يبدو ذلك مؤكدا ولا مرجحا ، برغم الضجة الهائلة المثارة، وتوقع معجزات حربية ، تحققها مئات دبابات "ليوبارد" الألمانية و"إبرامز" الأمريكية و"تشالنجر" البريطانية وغيرها ، وتزويد أوكرانيا الوشيك بطائرات "إف ـ 16" ، وبصواريخ يصل مداها إلى موسكو نفسها ، وإدارة الحرب من "كييف" بخبراء وجنرالات حلف "الناتو" ، ومئات الأقمار الصناعية العسكرية والمدنية التى تراقب "دبة النملة" على جبهات القتال ، وجيوش المرتزقة الأمريكيين والبريطانيين والبولنديين وغيرهم ، وكلها تحلم بإيقاع الهزيمة بروسيا ، التى تواجه وحدها قدرات خمسين دولة فى الحرب المتأهبة لافتتاح عامها الثانى .

ولا أحد يهون من شأن وأثر الأسلحة الغربية الأكثر تطورا ، وقد هبطت إلى الميدان الأوكرانى من البداية ، وفى زحف جنونى لا يبالى بالتكاليف الباهظة ، فأمريكا وحدها تدفع لأوكرانيا 130 مليون دولار فى اليوم ، والتابعون لواشنطن يدفعون أرقاما مقاربة ، واستزاف مخازن السلاح الأمريكية والأوروبية وصل إلى مدى مخيف ، كان أول ما قدمت واشنطن صواريخ "ستينجر" وصواريخ "جافلين" ، الأولى مضادة للطائرات.

وقد أرسلت منها أمريكا ما يعادل 20 سنة من صادراتها ، و"جافلين" الملقبة بقاتلة الدبابات ، وقد أرسلت منها أمريكا ما يعادل جملة إنتاجها فى سبع سنوات كاملة ، أضف إليها صواريخ الدفاع الجوى وصولا إلى "باتريوت" وعشرات آلاف العربات المدرعة ومدافع "هاوتزر" وراجمات صواريخ "هيمارس"، وبقذائف خارقة ، تستهلك أوكرانيا منها سبعة آلاف قذيفة يوميا ، وعلى نحو اضطرت معه واشنطن لاغتراف مضاف من مخازنها الاستراتيجية فى كيان الاحتلال الإسرائيلى وفى كوريا الجنوبية ، وقل مثل ذلك عن شراء واشنطن لأسلحة سوفيتية قديمة لإرسالها إلى أوكرانيا.

وعلى خرائط جغرافيا ممتدة من بولندا ودول البلطيق إلى دول أمريكا اللاتينية ، إضافة لكل ما قدمته الدول الأوروبية من مخازنها ، وعلى نحو زاد جملة الديون الأمريكية الداخلية والخارجية فى عام الحرب الأول ، وقفز بها من 23 تريليون دولار إلى ما يزيد على 31 تريليون دولار ، وقد لا تتعجب لما جرى ، فأمريكا تعرف بالغرائز قبل غيرها ، أن الحرب الدائرة فى أوكرانيا هى حرب تغيير العالم بامتياز ، وأنها كاشفة لكثافة التغيرات التى جرت وتراكمت قبلها بعقود  فى موازين السلاح والاقتصاد والتكنولوجيا ، وعلى نحو يؤدن بنهاية الاستفراد الأمريكى ، والتحكم فى العالم كقطب وحيد ، خصوصا مع الصعود الصاروخى للصين ، التى تدعم موسكو بثبات وإطراد.

وتنتقل بعلاقاتها معها من شراكة غير محدودة إلى تحالف بغير حدود ، يستهزئ بالهيستريا الأمريكية التى تتصرف كما الثيران فى أوان الذبح ، وبشراسة النزع الأخير من "حلاوة الروح" الذاهبة ، وتفرض ومعها حلفاؤها تدابير وعقوبات اقتصادية ، بلغت حتى اليوم نحو 15 ألف صنف من عقوبات الحصار ، لم تنجح حتى تاريخه فى إضعاف الاقتصاد الروسى بصورة منهكة ، ولا فى عزل روسيا التى يتمدد نفوذها العالمى ، مترافقا مع الزحف الصينى ، فقد لا يكون اقتصاد روسيا من الحجم الكبير، وإجمالى ناتجها القومى السنوى يعادل بالكاد اقتصاد هولندا ، وموازنتها الحربية أقل من عشر موازنة البنتاجون، التي قفزت مع عام الحرب الأول إلى 850 مليار دولار سنويا ، على أمل أن تواجه الصين عسكريا بعد تصفية الحساب مع موسكو.

لكن واشنطن المتعجرفة ، لم تدرك بعد أن العالم تغير ، وأنه لم يعد بوسعها أن تأمر وتنهى فتطاع بغير تعقيب ، وأن اقتصاد روسيا متوسط الحجم ، يملك ميزات فريدة فى موارد الطاقة والمعادن النادرة بالذات ، وأن امتداد جغرافيا روسيا الكونية ، وجوارها المحسوس مع دول شمال العالم كله ، بما فيه أمريكا نفسها ، إضافة لاستنادها إلى الجدار الصينى الصلب ، وقوة أسلحتها النووية والصاروخية بالذات ، يعطيها مددا من الصبر والاحتمال يكاد لا ينفد ، مكنها من تجاوز خسائر اختراقات عسكرية فى "خاركيف" ومدن فى "دونيتسك" ، روج لها الغرب كانتصارات عسكرية باهرة للجيش الأوكرانى ، توحى بالقدرة على إلحاق الهزيمة الكاملة بالقوات الروسية فى أوكرانيا ، وهو ماجرى عكسه بالضبط ، باستعادة الروس لمبادرات الميدان ، مع إعادة تنظيم شاملة ، وإجراء تعبئة عسكرية جزئية ، تزج إلى الميدان بنحو 350 ألف عسكرى روسى ، ربما تضاف إليها تعبئة أخرى ، خصوصا مع الخطط الموضوعة لزيادة عدد جنود الجيش الروسى إلى المليون ونصف المليون ، وترقية مستوى قيادة القوات العاملة فى أوكراني.

وإلى حد تعيين قائد الأركان الجنرال "جيراسيموف" مسئولا مباشرا عن عملية الروس العسكرية الخاصة فى أوكرانيا ، ودفع مصانع السلاح الروسى للعمل بكامل طاقتها ، وإنهاء صور التهاون والتقصير على جبهات القتال ، والاستعداد الجدى لحرب طويلة المدى ، قد لا تتوقف عند هدف إكمال السيطرة على المقاطعات الأربع المنضمة لروسيا ، ولا عند الحافة الشرقية لنهر "دنيبرو".

إضافة لإشارات متلاحقة على التقدم بأسلحة روسية أحدث إلى الميدان ، بينها على ما بدا طائرات "سو ـ 57" ودبابات "تى ـ 14" والروبوت المقاتل "ماركر" وغيرها ، إضافة لأجيال أكثر فتكا من الصواريخ فرط الصوتية والطائرات المسيرة ، ربما تستخدم مع غيرها فى دفن ركام أحدث الأسلحة الغربية المتدفقة إلى الميدان الأوكرانى ، وبدء المذبحة المقبلة مع هجوم الربيع الروسى المتوقع ، وقد ظلت روسيا تعتمد غالبا على الأسلحة السوفيتية القديمة فى عام الحرب الأول ، وانتقالها إلى أجيال أسلحة أحدث ، قد يكون تمهيدا لمحرقة سلاح كبرى ، تواكب التهديد الروسى بإحراق الدبابات الأمريكية والألمانية والبريطانية ، وفى عام استخدام السلاح السوفيتى القديم وحده ، ربما بقصد إفراغ مخازنه وإخراجه من الخدمة ، دمرت روسيا العدد الأغلب من دبابات أوكرانيا.

وكان لدى الأخيرة 7500 دبابة قتال عند خط بداية الاشتباكات ، فما الذى يمكن أن تفعله مئات الدبابات الغربية الأحدث فى الميدان ؟، ربما تجعل المعارك أكثر دموية وتطيل من وقت القتال ، لكن يصعب على ما يبدو ، أن تحسم الحرب لصالح الغرب ، وهو ما يسلم به الجنرال "مارك ميلى" قائد الأركان المشتركة للجيوش الأمريكية ، الذى صرح علنا عقب اجتماع "رامشتاين" الأخير لحلف الخمسين دولة ، وقال بصراحة أنه "يصعب تصور دحر القوات الروسية من الأراضى التى تسيطر عليها فى أوكرانيا هذا العام" ، ربما لأن الرجل العسكرى المحترف ، يعرف الكثير عن طبائع الروس العسكرية ، ويعرف صبرهم الطويل على المكاره ، ويعرف أنهم يخدعونك حين ينهزمون.

فهم يهزمون ويهزمون ويهزمون ، ثم ينتصرون فى النهاية ، على نحو ما جرى فى حملة "نابليون" على روسيا عام 1812 ، وفى حملة "بارباروسا" الهتلرية على روسيا بملايين من الجنود ، دامت معاركهم المتوحشة لسنوات ، وقتل فيها 25 مليون روسى ، لكنها انتهت باحتلال الجيش الروسى "الأحمر" لقلب برلين ، وهو ما استذكره قبل أيام "جوزيب بوريل" منسق الشئون الخارجية للاتحاد الأوروبى ، وتمنى أن يكون بوسع الغرب هذه المرة قلب النتائج النهائية .

كان التصور مع بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة فى 24 فبراير 2022 ، أن أمريكا قد تستغلها كفرصة لاستنزاف روسيا ، وإسقاط حكم الرئيس الروسى "فلاديمير بوتين" ، وقد جرى استنزاف جزئى لللقوة الروسية فى حرب أوكرانيا ، لكن جرى استنزاف الغرب بالمقابل فى معارك السلاح والاقتصاد والطاقة، وجرى استنزاف للقوة الأمريكية ، وزادت تكاليف الحرب الأمريكية فى أوكرانيا على تكاليف حرب العشرين سنة فى أفغانستان ، ثم أن الحكم الذى تساعده أمريكا اليوم فى أوكرانيا ، بدا أكثر فسادا من الحكم الذى أنشأته ورعته وهزم معها فى أفغانستان ، على نحو ما كشفت عنه انهيارات حكومة "فلوديمير زيلينسكى" الأخيرة ، والإقالات والاستقالات المتزايدة لوزراء ومسئولين وقادة فى الجيش ، وكشف الميديا الأمريكية عن سرقات لنحو نصف إمدادات السلاح الغربى ، وبيعها فى السوق السوداء ، وتكوين المسئولين الأوكران لثروات ضخمة مقابل تدمير حياة الشعب ، وتحويل ما يقارب نصف سكانه إلى لاجئين ونازحين ومشردين ، فى حرب لا تجرى لحساب سلامة أوكرانيا وسيادتها كما يزعمون ، بل لنزف الدماء حتى آخر أوكرانى ، وليس مقدرا لها أن تنتهى من دون إزالة حكم "زيلينسكى" نفسه ، وتقسيم أوكرانيا عند نهر "دنيبرو" ، الذى تطمح روسيا لجعله خط حدودها الجديدة ، وإن كانت الحرب مرشحة للتوسع الجغرافى ، ربما إلى العاصمة "كييف" وميناء "أوديسا" على البحر الأسود .

وبالجملة ، تبدو الحوادث مندفعة إلى جولة الرهان الأخير فى أوكرانيا ، وما من خيار آخر عند روسيا سوى الانتقال من التقدم العسكرى إلى الحسم العسكرى ، فما من موائد مفاوضات منتظرة ولا واردة ، إلا أن يكون التفاوض بحد السلاح وعلى خطوط الدم .

[email protected]

اقرأ أيضا |عبدالحليم قنديل يكتب: حتى آخر أوكرانى

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة