محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


محمد السيد عيد يكتب: مشاهد من الحملة الفرنسية

محمد السيد عيد

الإثنين، 30 يناير 2023 - 06:20 م

وفتح الحافظة، وبدأ القراءة:
«لا يوجد بين أجزاء الأرض جميعها بلد يمكن السيطرة منه على العالم كله، وعلى بحار الدنيا بأسرها غير مصر

هذا العام يوافق مرور مائتين وخمسة وعشرين عاماً على مجىء الحملة الفرنسية إلى مصر (1798) ، وهذه فرصة لنتعرف على الأطماع الأوروبية القديمة فى وطننا الغالى مصر. والحقيقة أن هذه الأطماع أقدم من الحملة الفرنسية بكثير. وفى هذه اليوميات نرصد معاً بداية هذه الأطماع، ونرى كيف تجسدت بعد ذلك فى الحملة الفرنسية. 

المشهد الأول
بدأت فكرة احتلال مصر عند فيلسوف ألمانى شهير، هو ليبنتز. يقول التاريخ إنه فى عام 1672  ذهب الفيلسوف الألمانى إلى فرنسا لمقابلة الملك لويس الرابع عشر، الملقب بالملك الشمس. لم يستطع أن يقابل الملك، لكنه نجح فى مقابلة وزيره كولبير. سأله كولبير:

- ماذا تريد من جلالة الملك لويس الرابع عشر؟
- أريد أن أقدم له هذا المشروع لغزو مصر.
قال هذا ورفع فى يده حافظة أوراق تليق بأن يقدمها لملك. لم يهتم الوزير بالحافظة قدر ما أدهشه الرد. 

- غزو مصر؟!! ولم مصر بالذات؟
- إسمح لى أن أقرأ ما كتبته رداً على هذا السؤال.

وفتح ليبنتز الحافظة، وبدأ القراءة:
- «لا يوجد بين أجزاء الأرض جميعها بلد يمكن السيطرة منه على العالم كله، وعلى بحار الدنيا بأسرها غير مصر.

- لأى داعٍ تخسر المسيحية تلك الأرض المقدسة التى تصل آسيا بإفريقية، والتى جعلت منها الطبيعة حاجزاً بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، ومدخلاً لبلاد الشرق كلها، ومستودعًا لكنوز أوروبا والهند؟»
ابتسم كولبير ساخرًا وهو يسأله: 

- ولماذا تتحدث عن المسيحية وأنت تتحدث عن الاحتلال والمصالح الاقتصادية والدنيوية؟
- لأنى أريدها حرباً صليبية جديدة.
- الحرب الصليبية ينبغى أن تستهدف القدس وليس مصر
- سنصل إلى القدس من خلال مصر.
رفض لويس الرابع عشر فكرة احتلال مصر. قال لوزيره:
- إننى لم أنس ما حدث للويس التاسع فى المنصورة. لقد خسر جيشه كاملاً، ووقع أسيراً هو نفسه فى أيدى المصريين، ولم يخرج من الأسر إلا بعد أن دفع فدية هائلة.

- لكنك يا مولاى غزوت هولندا وغيرها من دول أوروبا، فهل ترى أن مصر أصعب من الدول الأوروبية؟
- فعلاً. إنهم حين يواجهون تحدياً يخرج الفرعون الكامن داخلهم، ولا يهدأون حتى ينتصروا على عدوهم. لا يا كولبير. لن أغزو مصر.

المشهد الثانى
بقيت الفكرة حية، لأن الأفكار لا تموت. وحدث بعد ذلك بمائة وثمانية عشر عاماً أن كان القائد الشاب نابليون بونابارت يحضر جلسة فى الجمعية الوطنية، وفى هذه الجلسة تحدث أحد التجار ويدعى «ماجللون» أمام الحضور فقال:

- حضرا السادة الأعضاء: «باسم تجار فرنسا فى مصر أطلب أن تقوم الحكومة الفرنسية بعمل مسلح فى مصر، ولتعلموا أننا إذا تركنا مصر فلا سبيل أبداً للاتصال بين فرنسا وبلاد الهند الشرقية عن طريق السويس، وستحرمون من حاصلات البنغال.

إن غزو مصر ليس مسألة صعبة، فسواحل الإسكندرية وشواطئ دمياط معدومة الحصون، ولن تقدر على المقاومة. أما الأسطول المصرى الموجود فى البحر الأحمر فيتألف من أربعين قطعة رديئة، وعديمة النظام، وهى تسافر فى كل عام إلى جدة فى شهر مارس لتحمل الصمغ والبن والتوابل، فيمكن انتهاز هذه الفرصة ودخول بعض القطع الفرنسية فى ميناء السويس للاستيلاء عليها»

أكرر: إذا أردنا أن نتخلص من منافسة الإنجليز فى الهند فلا بد لنا من السيطرة على السويس والبحر الأحمر، وأن نستعيد طريق السويس إلى البحر الأبيض.
خرج نابليون من الاجتماع وفى عينيه بريق غريب. كان واضحاً أنه يفكر فى شىء ما. سأله صديقة الذى يسير معه، وهو الأب تاليران: فيم سرحت؟
- أحلم باحتلال مصر.

- ماذا؟!!
- لِمَ تندهش؟ إننى أحلم بأن أعيد مجد الإسكندر. لقد بدأ الإسكندر ذات يوم من مصر، ثم انطلق بعدها ليغزو الدنيا.
- الإسكندر؟ طموحك شديد يا صديقى.
- أعرف. لكن كل الأعمال العظيمة تبدأ بطموح رجل واسع الخيال.

ولم يلبث الحلم أن تحقق، إذ تقدم نابليون بمذكرة رسمية للحكومة الفرنسية يقول فيها:
«إذا كنا نريد القضاء على انجلترا حقاً فيتعين علينا الاستيلاء على مصر. إن الإمبراطورية العثمانية التى تحتضر يوماً بعد يوم تفرض علينا التفكير فى اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية تجارتنا فى الشرق».

وأصدرت الحكومة الفرنسية أمرها بأن يتولى نابليون قيادة الجيش فى أكتوبر 1797، وفى 5 مارس 1798 أصدرت الحكومة قرارها بالحملة على مصر.

المشهد الثالث
بدأ الأسطول الفرنسى رحلته إلى مصر فى 19 مايو 1798 . 
 لكن من الضرورى أن نذكر أن نابليون كما اصطحب الأسلحة والذخائر اصطحب معه  مطبعتين، ومكتبتين، وتجهيزات لمعامل علمية، وكان فى صحبته أيضاً مائة وسبعة وستون عالماً.
وصل الفرنسيون إلى الإسكندرية وكانت مدينة صغيرة، سكانها أقل من عشرة آلاف نسمة. ورغم هذا قاومت المدينة ببسالة، تحت قيادة  بطل من أبطالنا العظام، هو السيد محمد كريم، حاكم الإسكندرية. ووقع الشيخ محمد كريم أسيراً. وطلب نابليون أن يأتوا له بقائد المقاومة، فأحضروا له الشيخ محمد كريم. وكانت المفاجأة أنه استقبله بمنتهى الود والاحترام. تقدم منه وهو يقول بإعجاب:

- إسمح لى يا شيخ كريم أن أعبر لك عن إعجابي. أنا رجل عسكرى. أعرف معنى أن يحارب الرجل معركة خاسرة، ويقبل أن يموت فى سبيل بلاده. تحياتى وتقديرى لشخصكم الكريم.

لم يصدق الشيخ ما يحدث. لكن نابليون واصل إدهاشه:
- تقديراً منى لشجاعتك سأقدم لك هدية. 
وأخذ سيفاً من فوق المنضدة القريبة، وقدمه له: هذا السيف هدية لك منى، تقديراً  لشجاعتك.

- بعد قليل قال له: ماذا تتوقع منى أن أفعل بك يا شيخ كريم؟
كان الشيخ حائراً فعلاً. لذا قال له صادقاً: لا أدرى.

- سأجعلك حاكماً على الإسكندرية باسمى. هل تقبل؟
- أتعاون مع الرجل الذى احتل بلدى؟
- إذا لم تكن ترغب فى ذلك فلن أجبرك. سأعين أحد رجالى حاكماً للمدينة، لكنى أفضل أن يتولى أمرها رجل مصرى، من أهلها. فماذا قلت؟
قبل الشيخ كريم المهمة، لكنه كان يبيت النية على شىء آخر. ولم يلبث أن أعلن التمرد، فتم القبض عليه، وترحيله إلى القاهرة. وحُكم عليه بالإعدام. ودفع الرجل حياته فى سبيل وطنه.

المشهد الرابع
فى أكتوبر 1798 فرض نابليون ضريبة ظالمة على العقارات والوكالات والخانات والحمامات والمعاصر والسيارج والحوانيت. وقرر الشعب التحدى. ونزل الجنرال دى بوى وفرسانه إلى القاهرة ليروا ما الخبر؟ وفوجئ دى بوى بأهل القاهرة يتصدون له، ووقف رجل منهم يرفع هراوته: إلى أين يا قائد الفرنسيين؟
- اخفض سلاحك يا رجل واذهب، فأنا لا أريد قتالكم.
- لكننا نريد قتالكم، لأنكم تحتلون أرضنا، وتحملوننا ما لا نطيق من الضرائب. هيا دافعوا عن أنفسكم.
ودارت المعركة لتكون نواة ثورة شعبية فى القاهرة. وسطر التاريخ أن القاهرة التى ظنوا أنها استسلمت ثارت دون خوف. ثار الشعب ضد محتليه وانتصر عليهم. ولم يستطع نابليون أن يتمالك

أعصابه:
- لن أسمح أن ينتصر المصريون على الفرنسيين. لن أسمح. لتضرب القاهرة بالقنابل. اضربوا بلا رحمة.
وانهمرت القنابل على البلاد والعباد وهدأت الثورة لكنها لم تمت. 

المشهد الخامس
رحل نابليون سراً عن مصر فى أغسطس 1799. وتولى الحكم بعده الجنرال كليبر. وفى عهده ثارت القاهرة ثورتها الثانية، فعاملها بمنتهى الوحشية. ولم يتأخر القصاص. هاهو شاب سورى، من حلب، إسمه سليمان الحلبي، يدرس فى الأزهر يقرر أن يقتص للناس منه. وينجح فى الوصول إلى حديقة قصره. يقترب منه على أنه شحاذ يريد مساعدة. يتأفف كليبر. يزجره. لم يبتعد الشاب. اقترب أكثر. فجأة أخرج خنجراً من ثيابه. طعنه تحت سرته. صرخ كليبر صرخة مدوية. جاء المهندس العسكرى بروتان ليرى ما الخبر. حاول الإمساك بالشاب، طعنه الشاب هو الآخر. سقط بروتان على الأرض. عاد الشاب لكليبر ليجهز عليه.  فى المحاكمة لم ينكر التهمة. وحكموا عليه بحرق يده التى قتل بها حياً، وأن يعدم بعد ذلك بالخازوق. لحظة إعدامه كان رابط الجأش. قرأ الشهادتين وما تيسر من القرآن وذهب لملاقاة ربه.

المشهد الأخير
تولى عبد الله جاك مينو قيادة الفرنسيين فى مصر بعد كليبر، لأنه كان صاحب أقدم رتبة فى الجيش الفرنسى. كان مينو قبل هذا قد اعتنق الإسلام وتزوج من مصرية من رشيد. جرت مفاوضات مع انجلترا وتركيا للانسحاب. خرج الفرنسيون بموجبها من مصر فى 1801. وانطوت صفحة الاحتلال وبقيت مصر.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة