د. عاصم الدسوقى خلال حواره مع «الأخبار»
د. عاصم الدسوقى خلال حواره مع «الأخبار»


«الأخبار» تحاور رموز الفكر حول «تجديد الخطاب الثقافي» «١»

عاصم الدسوقي: التفتيش في الماضي «فلس».. ونحتاج للمثقف المهموم بمشاكل مجتمعه

حازم بدر

الخميس، 02 فبراير 2023 - 07:46 م

 

أزمة الخطاب الدينى فى «القياس».. وتجديده يحدث بـ«رجل الدين المثقف»
إنتاج «صبغة الطرابيش» بدلًا من استيرادها.. تجربة من الماضى قابلة للتكرار 
أغانى «سيد درويش» نموذج للخطاب الثقافى المتفاعل مع مشكلات المجتمع
«الاستيراد على حساب الإنتاج».. أهم مشكلة مصرية غائبة عن الخطاب الثقافى
الثقافة المصرية منفتحة على الآخر تاريخيًا وتستطيع استيعابه 

لا يحب الدكتور عاصم الدسوقى، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة حلوان، وصف «شيخ المؤرخين»، رغم أنه الأكثر تداولا والأسهل فى التداول إعلاميا وشعبيا، ويرى الرجل الذى احتفل قبل شهور بيوم ميلاده الـ83 عاما، أن الوصف الأدق لطبيعة عمله، أنه باحث فى التاريخ، وهى مهمة أعمق وأشمل، لأنه يمارس من خلالها الحكم على ما ذهب إليه المؤرخ..

قبل قرابة ثلاثة أعوام، حرص الدكتور الدسوقى خلال حوار سابق معه على توضيح هذا الفارق الكبير بين المؤرخ والباحث التاريخى، وكانت آراؤه وأفكاره خلال الحوار يحكمها المنهج العلمى فى البحث التاريخى، الذى يتميز بأن تكون كل كلمة يتحرك بها لسانه مدعومة بالوثائق، وهو ما شجعنى على أن يكون هو الاختيار الأول لتدشين سلسلة حوارات «تجديد الخطاب الثقافى»، لننهل من بحثه التاريخى حول تجارب الماضى، ما نستعين به على التعامل مع تحديات الحاضر..

التقيته فى نفس المكان، حيث غرفة مكتبه المكدسة بالكتب، التى يفوح منها عبق الماضى، ولم يخب الرجل ظنى، فكما عهدته كان ذهنه المتقد الذى لم تنل منه سنوات العمر، قادرا على الغوص فى أعماق التاريخ، ليستخرج منه لآلِئه النادرة التى أضاء بها الكثير من جوانب قضية تجديد الخطاب الثقافى، موضحا الفرق بين الخطاب الثقافى والدينى، وقال إن رياح التجديد لن تصل الأخير، إلا إذا مرت بالأول، كما تحدث عن مواصفات الخطاب الثقافى الذى يتسم بالتجديد..

وإلى نص الحوار.

عندما تكون هناك مطالبات بتجديد الخطاب الثقافى، فهذا يعنى أن به مشكلات، فما هى أبرزها من وجهة نظرك؟

يشير إلى خبر كان يتحدث عن غلاء أسعار بعض السلع فى صحيفة كان يقرأ منها، قبل بداية الحوار، قائلا: المشكلة أن المثقف لا يعبرعن مثل هذه المشكلات التى يعانى منها المجتمع، فوظيفة المثقف الحقيقية المرتبطة بمعنى كلمة الثقافة هى التفاعل مع المجتمع والتعبير عن مشاكله، ومن ثم المطالبة بحلها. 

وما العلاقة بين ذلك ومعنى كلمة الثقافة؟

يلتقط أحد المعاجم اللغوية من رفوف مكتبته، قبل أن يقول: عندما تبحث فى هذا المعجم عن معنى كلمة ثقافة، ستجد أنها ليست فكرا فقط، كما يظن البعض، لكنها سلوك أيضا، فالكلمة جاءت من الفعل «ثقف»، فيقال مثلا:»ثقف العود» أى هذبه وجعله صالحا للعزف، وبذلك فهى تأخذ معنى تعامل الإنسان مع البيئة والمجتمع، فالمثقف الحقيقى إذن، هو الذى يتفاعل مع المجتمع، ويستخدم وسائل الثقافة المختلفة سواء كانت رواية أو مقالا أو خطبة أو فيلما سينمائيا، للتعبير عن مشاكله، ومن ثم مطالبة السلطة بحلها.

حاول البعض الربط بين الخطاب الثقافى والدينى، فقالوا إن تجديد الخطاب الدينى يمكن أن يحدث عندما يكون رجل الدين لديه ثقافة حياتية.. فكيف يمكن أن يكون ذلك مساعدا فى التجديد؟

يشير بإصبعيه السبابة والوسطى، قائلا بلهجة متحمسة: دعنا فى البداية نفرق بين الخطاب الثقافى والدينى، فالخطاب الثقافى يهتم صاحبه بالنظر للظروف الموضوعية، فليس معنى أن سعد زغلول، تصرف فى موقف ما بسلوك معين، أن أقوم بتنفيذ نفس السلوك فى عام 2023، لأن لكل عصر مقتضايته، أما الخطاب الدينى، فهو خطاب يهتم بالثوابت دون النظر للظروف الموضوعية.

منهج أرسطو

لهذا السبب يميل البعض للقول إنه لن يحدث تجديد للخطاب الدينى إلا إذا كان رجل الدين مثقفا؟

يومئ بالموافقة قبل أن يقول: ميزة أن يكون رجل الدين مثقفا، هو أنه سيستخدم منهج أرسطو فى التفكير بشكل صحيح، فهذا المنهج يبدأ بالبحث عن العلة أى السبب و»إذا عرف السبب بطل العجب» كما تقول الأمثال الشعبية، وإذا فشل الإنسان فى معرفة السبب، يلجأ لتحكيم العقل، وأخيرا يأتى «القياس»، ولكن ما يحدث هو أن رجل الدين لا يستعمل غير «القياس»، فيغفل البحث عن العلة وتحكيم العقل.

ومشكلة هذا النهج، أنه يشل التفكير، حيث سيسعى رجل الدين دوما عندما تعرض عليه مسألة ما، إلى تشغيل منهج القياس بالبحث عن شبيه لها فى القرآن والسنة، دون أن يجهد عقله بالبحث عن العلة وتحكيم العقل.

وما هى مصادر المعرفة التى تعين رجل الدين على التفكير بهذه الطريقة؟

تخرج الكلمات من فمه سريعة قائلا: المثقف رجل واسع المعرفة، لا يقتصر إطلاعه على اتجاه واحد فقط، لكنه يقرأ فى الأدب والتاريخ والسياسة والفن وغيرها، ورجل الدين المجدد، هو الذى لا يقتصر إطلاعه على ما جاء فى الكتاب والسنة، ولكنه يكون واسع الثقافة، حتى يستطيع فهم مشاكل المجتمع فهما صحيحا، ويخرج بخطاب دينى حديث يتفاعل معها.

وبالمناسبة، آيات القرآن الكريم، تدعو لهذا المنهج، فقد خلصت إحدى الدراسات إلى أن 70 فى المائة من آياته، كانت فى الأخلاق، و30 فى المائة فقط فى العبادات، وهذا يعنى أنها كانت متفاعلة مع المجتمع.

المثقف العضوى

بما أن الحديث عن مشكلات المجتمع وقضاياه هى التى تفرق بين المثقف الحقيقى وغير الحقيقى.. ما هى المشكلة الأبرز التى كنت تتوقع اهتماما من المثقفين بها؟

يشير بسباته قائلا: دعنا فى البداية نسمى الأمور بمسمياتها، فلا أفضل استخدام مصطلح «مثقف حقيقى» و «مثقف غير حقيقى»، ولكن يوجد «مثفف عضوى» و»مثقف غير عضوى»، والأول هو الذى يهتم بمشكلات المجتمع ويتفاعل معها ويضع لها حلولا ويطرحها على الرأى العام، ومن بينها السلطة الحاكمة، أما الثانى، فهو الذى ينأى بنفسه عن الضجيج، وينشغل بقضايا بعيدة عن مشاكل المجتمع.

وللأسف، فإن فئة المثقفين العضويين أصبحت نادرة للغاية، لذلك غاب عن الخطاب الثفافى كثير من مشاكل المجتمع وهمومه، مثل مشكلة الاعتماد على الاستيراد على حساب الإنتاج المحلى، فهذه  القضية هى أساس أزمتنا الاقتصادية، والسبب الرئيسى فى أزمة النقد الأجنبى وارتفاع الأسعار، ورغم ذلك لم يتم التعامل معها ثقافيا، سواء بمسرحية أو فيلم سينمائى أو رواية أو حتى مقالات.

وما هى الرسالة التى تنتظر أن تركز عليها تلك الوسائل الثفافية فى هذه القضية؟

بلهجة متحمسة يقول: فكرة الاستسهال، فأصحاب رأس المال وجدوا أن أسهل طريقة للربح، استيراد سلعة مثلا بعشرة جنيهات وبيعها بـ»15 جنيها»، والسؤال الذى يمكن معالجته ثقافيا: إذا كانوا يملكون المال للاستيراد، لماذا لا ينفقونه فى إنشاء مصنع للإنتاج المحلى للسلعة.

للأسف فإن خطابنا الثقافى صار»غير عضوى»، فأصبحنا مشغولين باستدعاء قضايا من الماضى، مثل الجدل حول آراء الشيخ الشعراوى، وإقامة نقاش حولها...

بلهجة ساخرة يقول: هذا نوع من «الفلس» والهروب، فالمثقف الذى نحتاجه هذه الأيام هو «المثقف العضوى»، الذى يهتم بالمشكلات القائمة حاليا، ويطرح من خلال قراءاته حلولا لها، بغض النظر عما إذا كانت هذه الحلول، ستجد قبولا لدى السلطة القائمة أم لا.

ربما يخشى البعض حدوث صدام أو مشاكل بسبب التفاعل مع المشكلات الحقيقية؟

يأخذ رشفة من الماء، قبل أن يواصل الحديث وقد تخلى عن نبرته الساخرة: الأمر يتوقف على لغة الحوار، حيث يستطيع المثقف باستخدام لغة هادئة لا تتضمن ألفاظا جارحة توصيل رسالته وتصوراته لحل المشاكل.

لو أردنا أن نستلهم من قراءاتك حلولا لأهم مشكلة من وجهة نظرك، وهى الإسراف فى الاستيراد، ماذا تقول؟

تظهر مشاعر الحماس على وجهه وهو يقول: سأعيدك إلى تجرية محمد على باشا، مؤسس مصر الحديثة، مع سلعة «صبغة الطرابيش»، فالرجل بعقليته التجارية، لأنه فى الأصل تاجر دخان من ألبانيا، جاء إلى مصر فى ظروف إخراج الحملة الفرنسية، وكان مدركا لأهمية أن تكون منتجا، وليس مستوردا، فوجد أن مصر تستورد بكميات كبيرة «صبغة الطرابيش» الحمراء، فسأل عن مصدر هذه الصبغة، فعرف أنها تأتى من نبات اسمه «فوه»، فجلب بذور هذا النبات، وتمت زراعته فى المنطقة التى تعرف الآن بنفس اسم النبات، وهى «فوه» فى كفر الشيخ، كما اهتم ايضا بزراعة «الكركم»  للحصول على الصبغة الصفراء، و»النيله» للحصول على الصبغة الزرقاء..

وما أحوجنا أن نعود لهذه الثقافة «ثقافة الإنتاج»، وهذا ليس معناه، العودة إلى القطاع العام، حتى لا يقول البعض إن الزمن تجاوز ذلك، ولكن تكون لدينا مصانع لرجال أعمال ينتجون محليا السلع التى نحتاجها، لاسيما الاستراتيجية منها.

استيعاب الآخر

بما أنك طرحت تجربة من عصر محمد على، وهو رجل فى الأساس غير مصرى، فهل هذا يعنى أننا قادرون على استيعاب الآخر، مع الاحتفاظ بالهوية المصرية؟

يومئ بالموافقة، قبل أن يقول: بما أننا نتحدث عن تجديد الخطاب الثقافى، فمن الأمور المهمة هو القدرة على الانفتاح على الثقافات المختلفة مع الاحتفاظ بالهوية المصرية، واستيعاب المصريين لمحمد على، وهو غير مصرى، نموذج واضح على ذلك، وهذا يعود فى البداية إلى الموقع الجغرافى، فمصر تقع فى منطقة جغرافية وسيطة، ولديها مناخ معتدل طول العام، وجعلها ذلك مقصدا للغرباء المجاورين وغير المجاورين، ولم يكن المصريون يأخذون موقفا من القادم، بل إن هذا القادم عندما يريد أن يستقر فى مصر، يتخلى بالتدريج عن ثقافته ويندمج فى ثقافة المصريين ولا يصبح غريبا، بدليل أن هناك عائلات أصلها قد يكون كرديا أو مغربيا أو سوريا، ولا تشعر أنهم غير مصريين، وهذا دليل على أن الشخصية المصرية بطبيعتها معتدلة وغير متطرفة.

عودة للرابط بين الخطابين الدينى والثقافى، وسؤالى: أليس من المفيد أن يكون رجل الدين ملما بهذه الدروس التاريخية فى استيعاب الآخر، حتى يستطيع إنتاج خطاب مختلف؟

بنبرة صوت حزينة يقول: للأسف ثقافة رجل الدين لدينا لا تتجاوز الكتاب المقدس، وهذا لا يجعله قادرا على الفهم الحقيقى لما فى الكتاب المقدس، فمثلا عندما يقول القرآن الكريم «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ»، وعندما يقول «فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، فهذه دعوة لقبول الآخر، ولكن لا تفهم مثل هذه الآيات الفهم الحقيقى، لأن رجل الدين لا يحمل خلفية ثقافية تعينه على ذلك.

تقصد أن تقول إن الثقافة ستساعد رجل الدين على الفهم الصحيح لآيات القرآن؟

بالضبط، فمشروع مثل حياة كريمة، حتى يتحدث فيه رجل الدين، ويبين للناس أهميته، يحتاج إلى ثقافة تعينه على استخراج آيات من القرآن تؤكد أهمية هذا المشروع، وبذلك يكون رجل الدين، هو ذلك «المثقف العضوى» الذى يتفاعل مع قضايا مجتمعه.

فن سيد درويش

أحد الكتاب استند إلى أن فنان الشعب سيد درويش كان يحمل لقب شيخ، وتساءل ما المانع أن يتذوق رجل الدين الموسيقى، بل واعتبر حدوث ذلك من علامات التجديد.. هل توافقه الرأى؟

 سيد درويش حصل على لقب شيخ بعد تخرجه فى المدرسة الدينية التابعة لأحد مساجد الإسكندرية الشهيرة، كما أنه درس لمدة عامين فى الأزهر الشريف، وبعيدا عن خلفيته الدينية، فقد كانت أغانية نموذجا لـ «المثقف العضوى» الذى يتفاعل مع مشكلات المجتمع، فمثلا انتقد التوجه نحو الاستيراد من الخارج، عندما قال «ليه عفشى مستورد وأنا نجار دوالبكم»، وكانت سينما تلك الفترة أيضا كسينما «نجيب الريحانى» قائمة أيضا على انتقاد الأوضاع الاجتماعية، وليس عيبا محاولة استلهام مثل هذه التجارب من الماضى، ونحن نحاول تقديم حلول للحاضر.

اقرأ أيضا | عاصم الدسوقى شيخ المؤرخين المصريين: «25 يناير» ليست ثورة

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة