أسامة عجاج
أسامة عجاج


يوميات الأخبار

«فطير مشلتت» على خليج المكسيك

أسامة عجاج

الخميس، 02 فبراير 2023 - 07:58 م

محاولة للاقتراب من نماذج مصرية ناجحة فى أمريكا، لم تنس البلد الأم، والتى كما قيل فى وصفها،(مصر بلد يعيش فينا) مهما تفرقت السبل، بحثا عن فرصة للنجاح، فى مجتمع جديد، -أمريكا أرض الأحلام.

اعتدت على القيام بزيارة سنوية إلى أمريكا، للمراجعة الطبية، والاطمئنان على أشقائى المقيمين هناك، غالبا فى سبتمبر أو أكتوبر من كل عام، ولكن ظرف طارئ، استدعى سفرى إلى نيويورك، هذه المرة الشهر الماضي، فى أجواء مناخية لم أعتد عليها، درجات حرارة تصل إلى تحت الصفر، أمطار غزيرة وثلوج تغطى الشوارع، وقد كان هذا أحد الدوافع وراء قرار شقيقى الأصغر عبدالمنعم، بقضاء عدة أيام فى فلوريدا، والتى تتمتع بجو معتدل فى تلك الفترة من العام، قياسًا بما عليها نيويورك، تعتبر فلوريدا فى تلك الفترة، قبلة للسياح من أوربا، خاصة من كبار السن الهاربين من صقيع القارة العجوز،  وأصر صديق شقيقى مراد محروس ميخائيل، المصرى المقيم فى فلوريدا منذ حوالى ٢٠ عامًا أن يدعونا على الفطار، فى منزله المطل على شاطئ خليج المكسيك، فتوقعت أن الوجبة لن تخرج عن المعتاد لدى الأمريكيين، المكونة من (البيض الأومليت) والبطاطس و(البنان كيك)، فكانت المفاجأة التى أصابتنى بالدهشة، ومعها حالة من السعادة، أن المائدة عامرة بكل ما هو مصري، وفى مقدمتها الـ(فطير المشلتت) -نعم عزيزى القارئ- بجودة أفضل مما عليه فى ريفنا هذه الأيام، ومعها القشدة والبيض العيون الغارق فى السمنة، وبالطبع الفول المدمس المستورد من مصر، وأعترف أننى أكلت بشهية غابت عنى لسنوات طويلة، وعرفت منه أن هناك مخابز محدودة فى كاليفورنيا، يديرها عرب فلسطينيون ولبنانيون، هم من يوفرونه، وعليه إقبال من العرب رغم قلة عددهم فى ولاية فلوريدا، فوفقًا للإحصائيات الأمريكية، نسبتهم من عدد السكان لا تتجاوز واحد بالمائة، ولعل ذلك ما يفسر ما حدث لنا عند تناول العشاء فى إجازة نهاية الأسبوع مساء الجمعة، عندما أبدى أحد رورد المطعم من الأمريكان أهل البلد، ملاحظة لفتت نظره، عندما أبدى دهشته من تجمع سبعة أصدقاء على العشاء دون زوجاتهم، يتحدثون فى سعادة على غير عادة الأمريكيين، وعندما عرف أننا مصريون ابتسم، وكأنه اكتشف السر، وفى مرة أخرى سألتنا سيدة عن اللغة التى نتحدث بها ويبدو أن اللغة العربية كانت وراء هذا الاستفسار. 

الغزالة رايقة 

لم يتوقف كرم الصديق مراد محروس ميخائيل عند هذا الحد، أخذنا فى رحلة باللنش الخاص به فى خليج المكسيك، الذى يجمع بين ضفتى بالطبع فلوريدا من الجانب الأمريكي، والمكسيك من الضفة الأخري، ولم تتوقف أيضًا مفاجآته، ففى ظل هذا الجو الذى يشيع سعادة، فإذا بجهاز للأغانى يشدو بأغنية (الغزالة رايقة)، لمغنٍ لا أعرفه ولم أسمعه من قبل، سوى بعد البحث عنه فى جوجل، فإذا به لطفل اسمه محمد أسامة، مشاهدته على اليوتيوب بالملايين، ومعه كريم عبدالعزيز ومنة شلبى من فيلم (من أجل زيكو) وأظن أن الأغنية قاسم مشترك لكل سائقى الميكروباص والتوكتوك فى مصر، خاصة أنه يتحدث عن (الناس الحلوة سايقة)، ابتسمت وقلت له (ياعم نحن من جيل قديم) عاشق لأم كلثوم ومحب لعبدالحليم، فإذا به بجهازه يذيع (انت عمري) لأم كلثوم بصوت مدحت صالح.   

مضيفنا مراد من أبناء شبرا، من أسرة مثقفة، والده كان رئيسًا للنيابة،عماته إحداهن مديرة مدرسة، وأخرى مخرجة، وثالثة فنانة مشهورة تدعى (حياة النفوس) وهناك كتاب عنها أصدرته زميلتنا الصحفية المتخصصة فى الفن التشكيلى «فاطمة علي» فى مجلة آخر ساعة عام ٢٠١٩، بعد وفاتها بسنوات قليلة. مراد مغامر بطبعه، يتطلع إلى السفر منذ طفولته، وهو ما تحقق له بعد دراسته فى كلية الحقوق، وكانت البداية فى نيويورك حيث عمل لسنوات، سبعة أيام فى الأسبوع بدون إجازة، حتى امتلك مطعمًا فى مانهاتن أغلى مناطق نيويورك، وتحسنت أحواله، ولكن خطأه الأكبر الذى يعترف به، أن سعى للاستثمار فى البورصة، دون أى خبرة، فخسر معظم أمواله، وكان درسًا قاسيًا وهو عدم الدخول فى استثمار لا يعرفه، وبعدها قرر فى عام ١٩٩٩ البداية من جديد ولكن هذه المرة فى ولاية فلوريدا، والتى تبعد عن نيويورك بالطائرة أكثر من ساعتين ونصف الساعة، عائدًا من جديد إلى دورة الشقاء والعمل دون إجازات، باستئجار محطة وقود، وسعى إلى إقامة سوبر ماركت يملك أرضه، وكان الحدث الأهم والنجاح الكبير دخوله فى مجال الاستثمار العقاري.

أرض الأحلام 

مراد ميخائيل واحد من حوالى مليون مصري، يعيشون فى أمريكا إقامة دائمة، وفقًا لآخر إحصائيات شبه رسمية، من حوالى ما بين ١٠ - ١٤ مليون مصرى فى الخارج، اختاروا أمريكا أرض الأحلام، فهى من الدول الغربية القائمة على المهاجرين، حيث يقيم بها حوالى ٤٥ مليون مهاجر، يتعايشون بدون مشاكل، كما أنها من حيث المساحة، قارة تقترب من مساحة كل دول أوربا، لا يسبقها سوى الصين وروسيا وكندا، ورغم أن سكانها أقل من ٥ بالمائة من سكان العالم، إلا أنها تمثل ربع الناتج الاقتصادى العالمي، كما أن فلوريدا أرض المستقبل، حيث يتزايد عدد سكانها، مع تغيير فى طبيعة السكان من كبار السن، إلى الساعين من الشباب إلى مستقبل أفضل، فى ظل إمكانيات اقتصادية واعدة، ونمو سريع فى مجالات عمل عديدة.

ولعل نموذج مراد ميخائيل يدفعنا إلى فتح ملف المصريين فى أمريكا، وأسلوب حياتهم، ورصد نجاحاتهم، وآليات ربطهم بالوطن الأم، خاصة الأجيال الجديدة. الأرقام تكشف عن أعدادهم التى تصل إلى حوالى مليون مصري، يمثلون ربع الجاليات العربية فى أمريكا، وهو عدد ليس بالقليل، يضاف إلى ذلك تزايد حالات الهجرة إلى أمريكا من العرب، بعد كل أزمات المنطقة، فهناك أعداد معتبرة مؤخرًا من اليمنيين والسوريين فيما بعد ٢٠١١، والكثير منهم جاء لجوء سياسى أو حالات لم شمل الأسر، أو عن طريق القرعة السنوية المتاحة لكل شعوب العالم، وفقًا لأعداد تحددها السلطات الأمريكي، والتاريخ يقول: إن هجرة المصريين إلى أمريكا تأخرت على عكس جاليات أخرى فلسطينية أو لبنانية، وبدأت تمثل ظاهرة بعد عام ١٩٦٧، وكان أغلبهم من الأقباط وقليلا من اليهود المصريين، وتتواجد الجالية فى أنحاء الولايات المتحدة، ولكن الأعداد الكبيرة منهم فى ولايات مثل نيويورك ونيوجرسى وكاليفورنيا، لتوافر فرص العمل.  

جالية بلا مشاكل 

ولا تمثل الجالية المصرية أى أعباء على السلطات الأمريكية، فهى مجتمع آمن بطبعه يحترم القوانين، ويلتزم بالقواعد، وهدفه محدد فى استثمار الفرص المتاحة أمامه، للعمل والإنجاز والتفوق، وتوفير مستوى معيشى مقبول، والاهتمام بالعمل ثم العمل، انخراطهم فى السياسية محدود، وحريصون على خلق مجتمع مصرى خالص، بكل عاداته وتقاليده، والملاحظة الجديدة والجديرة بالتوقف، محاولة التجمع فى أحياء بعينها، ومنها أوستريا فى نيويورك، فهناك انتشار ملحوظ لهم، ويديرون المطاعم والكافيهات، وحتى الصيدليات، مع وجود أسماء لامعة من الأطباء، يحظون بإقبال من العرب والمسلمين بصفة عامة والمصريين بصفة خاصة.      

وللأسف الشديد فإن العمل الجماعى للجالية المصرية يبدو محدودًا، وإن كانت هناك بعض الجمعيات،  منها رابطة العلماء المصريين، وهى من اسمها تبدو مغلقة ومحدودة، والجمعية الثقافية فى واشنطن، والجمعية المصرية الأمريكية فى كاليفورنيا، وآخر تلك الجمعيات التى تم تدشينها منذ أسابيع قليلة، منظمة (جسور عبر الحدود)، وهى منظمة مدنية لا تهدف إلى الربح، ومؤسستها وصاحبة الفكرة نادية هنرى بشارة، والشريك المؤسس د. جوزيف إبراهيم، وتسعى لخلق مجتمع ديناميكى مصرى عالمي، يتخطى الحدود الوظيفية والجغرافية.

وكل الشواهد تشير إلى وجود نماذج مصرية مشرفة من المصريين العاملين فى أمريكا، أو الحاصلين على الجنسية، فى مقدمتهم الدكتور محمود محيى الدين، الذى تم انتخابه فى يناير الماضي، رئيسًا لمجلس إدارة جمعية الشرق الأوسط الاقتصادية، والتى تأسست فى أمريكا منذ عام ١٩٧٨، وهو الرئيس الثالث عشر لمجلس الإدراة، وتضم فى عضويتها شباب المتخصصين فى الاقتصاد، فى الجامعات والمراكز البحثية فى فروع اقتصاديات الشرق الأوسط، وكذلك ليلى بنس التى هاجرت من مصر بعد حرب ١٩٦٧، لتصبح مستشارة مالية ناجحة، بعد دراسة الاقتصاد فى كاليفورنيا، وأسست مع زوجها دريدان بنس عام ١٩٨٠، شركة لتقديم الاستشارات المالية، ويصل عدد عملائها ١٥٠٠ عميل، وتعمل فى مليار ونصف المليار من الأصول المالية، تحت إدارة الشركة وهناك نجوم تلمع فى سماء الفن، مثل رامى مالك الفائز بالأوسكار، وزكريا زكى المشهور باسم( زيكو) وهو من مواليد الإسكندرية، فى الثلاثينات، لعب دور عميل فى (الف بى آي)، فى مسلسل تدور أحداثه حول التقصى عن جرائم الإرهاب، ويحظى بمشاهدة تصل إلى ١٣ مليونًا للحلقة، مما دفع القناة إلى عمل موسم ثانٍ من ٢٢ حلقة أخري، وهو يتحدث العربية بطلاقة، يتابعه الملايين من المصريين والعرب على صفحته على وسائل التواصل الاجتماعي، وهناك أيضا سوزى قاسم مخرجة وكاتبة وشاعرة، قصائدها منتشرة على عشرات المواقع الالكترونية، وهى كاتبة مقال فى العديد من الصحف والمجلات، ويبرز اسم الدكتور وليد حسنين خريج طب الإسكندرية، الذى استكمل دراسته فى جامعة جورج تاون فى واشنطن، وتوصل إلى اختراع جهاز يحتفظ بالأعضاء البشرية، مختلف عن أسلوب التجميد القديم.

الوطن الأم 

ولعل السؤال الأهم، يتعلق بآلية التعامل مع جالية بهذا الحجم، وبكل ذلك النجاح، فى دولة تمثل محور العالم، الأمر يتعلق بالسعى الرسمى من خلال وزارة الهجرة إلى رصد نجومها اللامعة، وترتيب برنامج حافل لزيارة البلد الأم وتقديمهم إلى المصريين، واستثمارها فى مجال التسويق السياحي، مع تشجيع العمل الجماعى من خلال منظمات مجتمع مدنى نشط، والحكومة الأمريكية تسعد بذلك، تكون مظلة للجالية فى مناطق تواجدهم، وتمثل دعمًا للمقيمين، وحل مشاكلهم وتقديم المساعدات لهم، فهل تفتح وزارة الهجرة هذا الملف؟ أتمنى.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة