موضوعية
موضوعية


حسن عبد الموجود يكتب: أشقاء الزورق الواحد.. منجم السيرة الذاتية

أخبار الأدب

السبت، 04 فبراير 2023 - 12:18 م

أخذ رائد تسمية كتابه «أشقاء الزورق الواحد» من وصف أطلقه ليون وربيكا غرينبرغ على المهاجرين والمنفيين والمغتربين فى كتابهما «التحليل النفسى للمهجر والمنفى» إذ وصفوهم بـ«إخوان الزوارق» لأنهم كانوا يقيمون علاقات فيما بينهم أثناء الهجرات الجماعية على متن السفن والبواخر.

أكثر من سبب جعلنى أحبُّ هذا الكتاب من صفحاته الأولى. أولاً أننى مغرم بقراءة السير الذاتية، وهذا الكتاب يشبه منجماً لها، حين تنتهى منه، تبدأ البحث فوراً عن السِّيَر التى أحالك إليها، وهى لعشاق وكُتّاب وأطباء وفلاسفة وأشخاص عانوا من الاكتئاب أو الوحدة.

وفكروا فى معنى الحياة وجدواها، أشخاص تأرجحت حيواتهم بين حافتى اليأس والأمل. وثانياً لأن رائد العيد جمع بين كل مقادير طبخة الكتابة الجيدة، فلم يلخِّص السير، وإنما فتح الطريق إليها، وجعلنا نذوق جزءاً يسيراً منها.

ونشم رائحة أزمنتها، ومعاناة أبطالها. يطل علينا رائد بامتداد الكتاب إطلالة حامل المصباح ليضيء الطريق لنا، يغرف من الحكايات بمقدار بسيط، حتى لا يصيبنا بالتخمة، وحتى لا يصبح كتابه بديلاً للأعمال التى يتقاطع معها.

وثالثاً لأنه امتلك لغة سهلة وقوية استطاعت استيعاب الأساليب المختلفة لكتّاب متعددى الثقافات والمهن، ومع كثرة التضمينات والإحالات إلا أننى لم أشعر أبداً بتلك الأشواك المدببة التى تنغرس فى أصابعك عادة فى كتاب تبدو التضمينات فيه بارزة عن جدار لغته.


وأحببت كذلك ذلك التنظيم الدقيق الذى اتَّبعه رائد، فبدا كتابه أشبه بمكتبة مُرتَّبة تستطيع أن تصل بسهولة إلى الكتب فيها بمجرد أن تخبر أمين المكتبة (فهرس الكتاب) أنك تريد عملاً عن سِير الأطباء، أو سير العشاق، أو سير الشعراء، أو سير علماء النفس، أوسير المتألمين، أوسير العميان، أو الأعمال التى كُتبت عن المنتحرين، أو الموت.. إلخ: «آثرت قراءة سير أصحاب التخصص الواحد أو المهنة الواحدة، أو التجربة الواحدة معاً فى هذا الكتاب.

تأكيداً على حتمية العيش المشترك وتحريضاً على بناء الجسور فى سبيل ذلك»، وأحببت أيضاً انتقاله السلس فى الفصل الواحد من كاتب إلى كاتب، ومن عمل إلى عمل، ومن حكاية إلى حكاية، وكما كان يشعر بالمتعة - فى بدايات عمله بمدينة الرياض- وهو يقرأ إحدى السير فى مقهى، فقد جعلنا نشعر بالمتعة ونحن نقرأ حكايات هذا الكتاب، الذى يمكن اعتباره كما يقول هو نفسه «تاريخ بحثى عن الرفقة فى أوقات الوحدة».


وأخذ رائد تسمية كتابه «أشقاء الزورق الواحد» من وصف أطلقه ليون وربيكا غرينبرغ على المهاجرين والمنفيين والمغتربين فى كتابهما «التحليل النفسى للمهجر والمنفى» إذ وصفوهم بـ«إخوان الزوارق» لأنهم كانوا يقيمون علاقات فيما بينهم أثناء الهجرات الجماعية على متن السفن والبواخر. تشعر حين تقرأ صفحات من الكتاب بأنك صرت جزءاً من ذلك المجتمع الذى ينقلنا إليه رائد، وصرت واحداً من «أشقاء الزورق الواحد». 


وقبل التحرك خطوات فى طريق طويل يصطحبنا فيه رائد يتوقف معنا لحظات لاستعراض منابع السيرة الذاتية وكيف تطورت تاريخياً، إذ «وُلدت فى رحم البيئات الدينية سواء فى الثقافة العربية أو الغربية، بدءاً باعترافات القسيس أوغسطين وسِير طلب العلم فى الحضارة الإسلامية، حتى جاءت اللحظة الحاسمة فى تطور كتب السير الذاتية من خلال شعبنتها وانتقالها من التعلق بالمعاناة والخلاص الدينى إلى قمة الانحطاط والتدنيس كما نشهد اليوم فى سير المغامرات الكاذبة والادعاءات الزائفة.

وكان مفتتح هذا التحول اعترافات روسو التى مهَّد فيها السبيل لتحول السيرة إلى نوع من العلاج التطهيرى المخلص من الخطايا أمام الملأ»، ويحذر رائد من أنه لا يقرأ السير الذتية للاستمتاع بالحيوات العريضة لأصحابها فقط، ولا للتلصصعلى هواجسهم وأسرارهم، بل بحثاً عن دروس الحياة التى قد تكون أكثر عدداً ودقة عند أصحاب الحيوات الصغيرة.


ويبدأ الكاتب من معنى الحياة، خاصة أن الحداثة على ما يبدو لا تزرع سوى بذور الحيرة فى الفضاء النفسى والروحي، وقد اختار رائد سير الأطباء لأنهم وحدهم دون الآخرين يقضون وقتاً طويلاً فى تحصيل الدراسة والعلم والانهماك فى مداواة المرضى، ثم ينتبهون فجأة وهم فى العقد الخامس أو السادس إلى أن حيواتهم مرت بدون إنجاز وبدون علاقات تقريباً، وهنا يفكرون فى المعنى الذى عاشوا لأجله. 


ويختار رائد فى البداية طبيباً صار بدوره مريضاً هو بول كولانثي. كان يُطمئن الناس ويمنحهم الأمل لكنه صار يتلمس هذا الأمل عند الآخرين. انقلب من صورة يراه فيها الجميع -باعتباره كسائر الأطباء- ملاكاً لا يمكنه الخطأ إلى شخص يعرف أن الأطباء قد يمنحونه بضع ساعات إضافية للحياة.

وبعد أن أصيب بسرطان الرئة من الدرجة الرابعة، ولا يمكنهم تغيير مصيره المؤلم. عنون الطبيب سيرته بـ«عندما تتحول الأنفاس إلى هواء» وقسمَّه إلى جزءين، الأول يخص طفولته وصباه ودراسته وزواجه، والجزء الثانى مرضه. طرح على نفسه السؤال: ما الحياة التى تستحق أن تُعاش فى مواجهة الموت؟.

وماذا ستفعل عندما لا يصبح مستقبلك سلماً ناحية أهدافك فى الحياة، بل مجرد امتداد لحاضر دائم بلا مستقبل؟ وحتى أثناء كتابة سيرته كان مهموماً بالإجابة على سؤال: ما الذى يجعل للحياة مغزى وجدوى إذا كانت جميع المخلوقات ستفنى فى النهاية؟


ومن الموت إلى رحلة التحليل النفسي، حين تمزقنا وحوش الاكتئاب ويلمسنا الجنون بأنيابه. يبدأ رائد بحسين البرغوثى وكتابه «الضوء الأزرق» لأنه استطاع أن يسائل جنونه من خلال سيرته ويستثمره فى أعماله: «تمضى السيرة على هيئة حكاية معلم مجنون ومريد كادت أن تنفصم شخصيته، كان الجنون بوصلة التواصل المهيمنة على نص يروى حكاية مريد عثر مصادفة على شيخ طريقته... المريد فى السيرة هو حسين البرغوثي، الباحث عن نفسه وهويته.

وفى ظل ما تاه منه بوصفه إنساناً أولاً وفلسطينياً ثانياً». ينقل رائد مقولة حسين البرغوثي: «غريب كم يبدو المكان كمصيدة، أحياناً.. وجدتنى أتنقل بين هذه المقاهى الثلاثة وأبحث عن نفسي، ليس فى الكتب. سئمت كل الكتب، بل فى المقاهي، وبين المشبوهين بالجنون، والشواذ، والصعاليك، حيث الخرائط أكثر دقة ووضوحاً وإثارة».


وثم يمضى الكتاب إلى منطقة أكثر هدوءاً هى سيرة المحبين. يحاول رائد الإجابة عن سؤال: لماذا يسعى الفرد منا إلى أن يتقاسم الحياة مع شريك؟ وما معنى الحب؟ وأين تكمن لذته، والفارق بين الكلام فى الحب والتنظير للحب؟ يمنحنا رائد كثيراً من القصص حول الحب.

ومنها سيرة الروائى العراقى حسن مطلك، كان يعيش حياة مفعة بالحب، ويدوِّن كل يوم تفاصيل علاقاته، لكنه مع الأسف لم ينشر ما دوَّنه فى كتاب، إذ رحل مبكراً بالإعدام، وصدر الكتاب فى غيابه بعنوان «كتاب الحب».

ينشر رائد جزءاً مما كتبه مطلك عن الحب والألم، كما يسرد قصة حبه الناضجة المتأخرة مع هدى، رغم أنه متزوج ولديه ابنة. ومن مطلك إلى الكاتبة البريطانية دولى ألدرتون وسيرتها «هذا كل ما أعرفه عن الحب».

ويقول رائد إن سيرتها هى سيرة التحولات، والقرارات السيئة، وسيرة فقدان الاحتواء، وضياع الهوية، والبحث عن الذات فى الطرق الخطأ. سيرة المغامرات للمغامرات، فقد كانت تسعى جاهدة لجمع أكبر قدر من القصص، ولم تكن تتورع عن الدخول فى أى تجربة مهما بدت طائشة فى سبيل الحصول على سردية صالحة للكتابة أو لإمضاء الوقت فى إغواء الهدف القادم.


وينتقل رائد إلى الشعراء ويقول إن سيرهم قائمة على الانتقاء وصعوبة الوفاء بكل لحظات الحياة المفصلية. كتب شفيق جبرى «أنا والشعر»، وعبد الوهاب البياتى «تجربتى الشعرية» وصلاح عبد الصبور «حياتى فى الشعر».

ولم يكتف نزار قبانى بسيرة ذاتية نثرية واحدة بل شغل الناس بسيرتين الأولى «سيرة شعرية» قبل سيرته «حياة فى الإدارة» وسطَّر أدونيس تاريخ مرحلة مهمة من تطور الشعر العربى الحديث فى سيرته الشعرية الثقافية «ها أنت أيها الوقت».


يمتلئ الكتاب بتدخلات رائد القصيرة الذكية وقصصه الموحية المعبرة. يحكي: «فى جناح دار التنوير بمعرض أبو ظبى للكتاب جاء شخص طالباً سيرة ماركيز، لكنه نطق بها عشت لأُروى، أخرجها البائع دون تعليق وكأن انشغاله بغيره من الزبائن منعه من تصحيح اسم الكتاب.

ولكنى تأملت فى التسمية الجديدة فوجدتها منطبقة تماماً على ماركيز الذى صار علماً وحكاية تُروى، وفى نفس الوقت بات العنوان شعار الإنسان الذى يبحث عن إسماع سرديته للعالم، وهو يردد مع إيزابيل الليندي: يبدو لى أننى وُلدت لأَروى وأُروى».
 

اقرأ أيضاً | لماذا يذهب هؤلاء إلى معرض الكتاب؟!

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة