عمرعبد العلي
عمرعبد العلي


يوميات الاخبار

مصطفى أمين.. وأمى

عمر عبدالعلي

الأحد، 12 مارس 2023 - 07:31 م

 

فى عام 1981 فقدت أبى وعمرى لم يتجاوز الـ 6 سنوات لكن شعرت أننى ابن الـ 60 عاماً، أدخلونى إلى مكان غسله ووقفت أقبل رأسه قبل رحيله بعد أن ترك أمى وحيدة

فى عام 1995 أرسلت خطاباً للراحل الكاتب الصحفى الكبير الأستاذ مصطفى أمين تضمن مقتطفات من عطاء أمى فى الحياة وكيف تحملت المسئولية بعد وفاة والدى وفى رقبتها 10 أفواه وزادت عليهم بخيتة بنت عمى.. مرت الأيام كنت من أوائل دفعتى أذهب للجامعة مساء الجمعة من كل أسبوع وأعود لمنزلى مساء الخميس.. وفى يوم الإثنين أنهيت محاضراتى مبكراً على غير عادتى وعدت إلى قريتى، ألقيت السلام على أمى وإخوتى وذهبت إلى صومعتى لأستذكر دروسى.. ثم حضر أخى الأكبر محمود يطلب منى الحضور مسرعا متهما إياى أننى ارتكبت جريمة ما فى سوهاج ولهذا السبب حضرت مبكراً على غير عادتى للاختباء فى بلدتنا.. أنكرت ذلك بشدة.. قال لى هناك سيارات شرطة أمام منزلنا تسأل عنك إنهم يريدونك شخصياً.. ذهبت معه وقدماى تتعثر وقلبى يرتجف من الخوف.. شاهدت من بعيد سيارة شرطة «حكومة» وأخرى غطى السواد على زجاجها الخلفى.. تلقفتنى أمى بصفعة على وجهى وهى غاضبة: ماذا فعلت يا عمر لكى يقبضوا عليك؟ أجبتها وأقسمت أننى لم أفعل شيئاً.. لحظات وانخفض زجاج السيارة الخلفى وأشار إلىّ شخص ما كاشفاً لى شخصيته أنه موفد من دار أخبار اليوم بعد خطاب أرسلته إلى مكتب الكاتب الصحفى الأستاذ مصطفى أمين وأنهم حضروا لرؤية والدتى وتكريمها على سجل عطائها الذى لا ينضب وتربيتها لأولادها بعد وفاة زوجها وتحملها تربية طفلة أخرى ورعايتها.. وبعد 20 عاماً على تكريم أمى فى أخبار اليوم أجد القدر يضع لى مكتباً فى الأخبار صحفياً أدافع بقلمى عن حقوق الغلابة.
فمن هذه المرأة التى جبر خاطرها الكاتب الصحفى الكبير الراحل مصطفى أمين؟
أمينة الكودى
.. فى عام 1981 فقدت أبى وعمرى لم يتجاوز الـ 6 سنوات لكن شعرت أننى ابن الـ 60 عاماً، أدخلونى إلى مكان غسله ووقفت أقبل رأسه قبل رحيله بعد أن ترك أمى وحيدة تحمل فى أحشائها جنينا سميناه «محمد» بخلاف 9 من الأبناء: 4 من الصبيان أنا واحد منهم و5 من البنات.. هكذا عاشت أمينة الكودى «أمى» بعد وفاة سندها الأول والأخير فى الحياة، لا تدرى ماذا تفعل وكيف تدير منظومة أسرة مكونة من 10 أبناء وسط رياح حياتية قاسية وأحوال معيشية صعبة فى صعيد مصر الجوانى، كانت الأمور متوسطة الحال وتمكنت أمى «التى لا تعرف القراءة ولا الكتابة» أن تدير دفة السفينة إلى بر الأمان بقدر كبير من المشقة والتعب وتحصيل لقمة العيش الحلال لأطفالها الصغار.  كنت أنظر إليها فى طفولتى البريئة وأتساءل بداخلى: كيف لأمى أن تتحمل كل هذا الشقاء من أجلنا؟ كنت أنظر إلى ملابسها السوداء التى غطت جسدها وزادته حزناً وأتساءل: مَن تلك المرأة التى أصبحت فى غمضة عين مثل الجبال لا تنهار والأنهار التى لا تنضب والعطاء اللامحدود؟ كنت أنظر إليها من بعيد وأتعجب: كيف تستطيع أمى أن ترعى أطفالاً صغاراً وتربى شباباً وتزوج شقيقاتى وتنفق على إخوتى الكبار فى مدارسهم وجامعاتهم دون سند لها فى الدنيا سوى الصبر والعمل! .. وأعود أتذكر الماضى فى بداية ثمانينيات القرن المنصرم، عندما كنت أرافقها فى كل أعمالها التى ورثتها عن أبى وأتعجب عندما تستيقظ قبل قرآن الفجر تجهز أدوات عملها من مطعم صغير ومحل بقالة لا تتجاوز محتوياته القليل من الجنيهات لتطعمنا من حلال! .. تصلى الفجر وتقول سبحان الفتاح الرزاق.
.. وكما خطف الموت أبى أصابنى بصدمة عنيفة أحدثت زلزالاً شديداً بجميع أركان ضلوعى، بدأ ينتابنى شعور بالخوف من فقدان أمى.. وفى مرحلة مبكرة من طفولتى انطويت على نفسى فى ركن بعيد لمنزل آخر لنا نهاية شارعنا وعندما يسدل الليل ستائره.. أتحسس خطواتى إلى بيتنا الكبير حيث تنام أمى ساعات قليلة من جوف ليل مظلم تتخللها ركعات قيام الليل قبل أن يعلن الفجر تكبيراته ليوقظها للصلاة والعمل.. أسير على أنامل قدماى حتى لا تنتبه أمى فتصحو.. أقترب منها.. أدنو أكثر.. أنظر إلى وجهها الملائكى.. أنقل بصرى رويداً رويداً نحو جسدها الطاهر فيرتجف قلبى وأتساءل هل ما زالت تتنفس أم ماتت؟ .. أعود وأنظر بتمعن إلى حركة تنفسها وأقول: مازالت على قيد الحياة !! كررت ذلك الموقف الغريب طيلة أكثر من 42 عاماً حتى آخر لحظة قبل رحيلها.
الحلال والحرام
.. وعقدت العزم ألا أغضبها أو أشق عليها فى أمر ما، وقطعت وعداً على نفسى أن أفعل المستحيل من أجل إرضاء أمى، كانت أرضنا تبعد عن منزلنا القابع وسط قريتنا شطورة التابعة لمدينة طهطا بسوهاج بمسافة بعيدة، هناك تجمع لجزء من عائلتى، كانت لدينا أشجار النخيل التى حرصت أمى على توزيع ثمارها على الجيران والأحبة نظرا لما تتمتع به من جودة فائقة.. لكن قبل نضج ما يطرحه نخلنا من ثمار، كنت أحرص على تسلقها وقطف ما أجده قد نضج إلى حد ما حتى أقدمه إلى أمى لكسب رضاها.. أثناء العودة أسير منتبهاً لعلى أجد نخلة بها بلح رطب، أذهب إليها وأجمع ما تساقط منها أو أرجمها بحجر حتى يتساقط من قارب على النضج وأضعه فى كيس فرحاً بما جمعت لأمى،  عندما تقترب قدماى من منزلنا تنتابنى لحظات من الفرح والسعادة بما أحضرت لأمى من أجل رضاها عنى، لكن تتحول تلك السعادة والفرحة إلى صمت وتدبر عندما تسألنى أمى بعد أن تفرز حبات البلح الواحدة تلو الأخرى: من أين أتيت بهذا البلح يا عمر؟ «يتلعثم لسانى عن الرد خائفاً لكن شجاعتى نطقت بالحق: «فيه بلح من نخلنا وبلح جبته من نخل الجيران فى الطريق».. تبادر أمى على الفور بإلقاء جميع ما قدمته وجمعته بتعب من بلح فى الأرض بعيداً وتقول: يا عمر «هذا بلحنا وهو حلال وهذا ليس بلحنا وهو حرام ولقد خلطت الحلال على الحرام فكله حرام وأمك لا تدخل فى بطنها لقمة من حرام» فتعلمت الفرق بين الحلال والحرام.
بخيتة
.. توفيت زوجة عمى إبراهيم ومن بعدها بقليل لحقها عمى إلى دنيا الحق وتركا ولدا وبنتا وهى «بخيتة».. قررت أمى أن تأخذ بخيتة إلى منزلنا لتعتنى بها وهى طفلة لم تتجاوز العشر سنوات بجانب تربية أولادها السبع بعد زواج ثلاث بنات الكبريات ناجحة وفاطمة وصباح، حرصت أمى على تنشئة بخيتة تنشئة صحيحة، كانت تختار لها أجود الطعام المقدم لنا بل تحرص أن تعطيها الحجم الأكبر من قطعة اللحم، بل تختار لها قطعة لحم حمراء ليست بها دهون وتقدمها لها، أغضب وأتساءل: «يا أمى لماذا تفضلين بخيتة على بقية أولادك؟ تجيب أمى بقدر من الحكمة: يا ولدى.. بخيتة يتيمة الأب والأم وليس لها أحد غيرنا وهى تعيش فى بيتنا فإذا قصرت فى حقها فلمن تشكونا أما أنت وغيرك من إخواتك فما زالت لكم أمًا تحنون إليها وقت الحاجة.. من وقتها كبرت وشلت بخيتة فى عيونى حتى زواجها وقدمت جواب تعيينها هدية لها يوم زفافها تكريما لعطاء أمى معها.
حج 2018
.. وفى عام 2018 كانت هناك حكاية أخرى.. كنت أجلس فى مكتبى بالأخبار وعلى موعد لإجراء حوار مع أحد السفراء العرب.. قبل نزولى من المكتب طلبت منى زميلتى أسماء البكرى إنهاء مشكلة ما فى نقابة المحامين.. أرسلتها للنقيب سامح عاشور.. وذهبت أنا لحال سبيلى أمام محطة المترو استوقفنى زميل لى وطلب منى الذهاب معه للتقديم فى قرعة حج النقابة.. رفضت وقلت له لا.. تأجل موعد الحوار وخرجت من المحطة واكتشفت أن زميلى مازال واقفاً ذهبت معه قبل إغلاق باب التقديم بلحظات وعدت إلى مكتبى أصلى العصر وفى سجودى جاءنى صوت يردد فى أذنى قبل الميعاد يقول «لبيك اللهم لبيك» تعجبت من الأمر وما إن فرغت من صلاتى، رن هاتفى وكان المتصل زميلتى أسماء بادرت بسؤالها هل تم إنجاز موضوعك قالت لى «سيبك من موضوعى.. أنت يا عمر طلعت فى قرعة الحج» سجدت لله ودعوته شاكرا ووهبت تلك المنحة من الله إلى أمى التى كان مرادها أن تذهب للحج قبل مماتها.. فى إجراءات السفر كان لزاماً أن يسافر أحد مع أمى الضالعة فى العمر.. احتار قلبى لكن مشيئة الله كانت نافذة حصلت على 3 تأشيرات حج إحداها من الراحل الكاتب الصحفى الأستاذ ياسر رزق وأخرى من الكاتب الصحفى الأستاذ خالد ميرى رئيس التحرير والأخيرة من الكاتب الصحفى أسامة عجاج مدير تحرير الأخبار للشئون العربية لكى أختار واحدة منها لأرافق والدتى إلى الكعبة واخترت تأشيرة أخى الأكبر خالد ميرى رئيس التحرير.. وشرفت بمرافقة أمى فى زيارة بيت الله الحرام وتحققت أمنيتها فى الحياة.
أمى هملتنى
.. كانت أمى تواظب على قيام الليل وصلاة الفجر وصوم الإثنين والخميس.. على الرغم من تقدمها فى السن لكنها لم تغفل أو تقصر فى أداء صلاة أو صوم.. فجأة مرضت أمى وتم نقلها لمستشفى جامعة أسيوط، كنت عائداً للتو من رحلة عمل بالسودان.. على سريرها بالمستشفى شعرت بدنو أجلها وكان حولها أولادها التسع بعد وفاة شقيقتى الكبرى فاطمة وعدد كبير من أبناء العائلة.. وفجأة نادت أمى: عمر .. «متهملنيش» بمعنى لا تتركنى.. أسرعت إليها وقبلت يديها الطاهرتين وانحنيت إلى جبينها أتحسسه وسجدت أمام قدمها وحضنت أطراف أصابعها إلى قلبى الموجوع وقلت لها: مش ههملك يا أمى أنا جنبك.. عادت أمى إلى بيتها لحين العودة لاستكمال علاجها بالمستشفى وفى ليلة أسدل خلالها القدر نهاية الحكاية، ماتت أمى بين أيدينا ونحن فى سبات عميق أخذها الله وفاضت روحها إلى بارئها.. وفى قبرها كنت بجوارها أجهز لها مرقدها الأخير.. وضعت جثمانها الطاهر على التراب وقبلتها القبلة الأخيرة.. وقلت لها: يا أمى متهملنيش لكنها لم تجب!!.. وهملتنى!!
هكذا كانت أمى .. ادعوا لها بالرحمة .

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة