إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


يوميات الأخبار

مُدمن ثرثرة!

إيهاب الحضري

الخميس، 16 مارس 2023 - 08:04 م

الغريب أن الدكتورة سماح تتكلم ثم تنتقل إلى الغناء بسلاسة مُدهشة، صوتُها بالغ العذوبة حتى إننى أتمنى ألا تتوقف عن الشدْو، فإذا انتقلت للشرح تمنيتُ ألا تُغنّي!

الراعى الصالح

السبت:

هل أصبحت الكُتب وسيطا أساسيا فى علاقتى بالبشر؟ أحيانا أشعر أننى لم أعُد كائنا اجتماعيا، بعد أن فقدتُ إحدى أهم سمات صباى. فى كل لقاء تحكى والدتى قصصا عديدة ترجع لطفولتي، لتُبرهن أننى كنتُ بارعا فى تكوين صداقات بأيّ مكان يستضيفني، حتى لو كان مصيفا لا يدوم لأكثر من أسبوع. تدعمها زوجتى بابتسامة تخلو من البراءة، وتؤكّد أن براعتى أصبحت انتقائية، تُركز على الجنس الناعم فقط، ولا تُدرك الاثنتان أنهما تتحدثان عن تاريخ ترتبط أحداثه ببراءة الطفولة أو شقاوة الشباب!

ما دخْل الكُتب بكل هذه الثرثرة؟ الإجابة بسيطة، فإطلالة من كتاب شارد وسط أكوام الكُتب قد تجمعنى بصديق قديم بعد طول فراق، هنا ألتقط الفرصة لمكالمة هاتفية، أو أكتفى باستدعاء ذكريات عايشتُ أحداثها فى زمن سحيق، مع ترحيل المُكالمة لوقت لاحق.. لا يجيء. لكن هذه المرة اقتنص كتاب حديث نظراتى. إنه الأعمال الكاملة للأديب الراحل عبد الفتاح الجمل.

قد لا يعرف الاسم قرّاء كثيرون، رغم أنه الراعى الصالح الذى ساهم فى بزوغ نجم جيل كامل من الأدباء هو جيل الستينيات. تردّد اسمه كثيرا على ألسنتهم فى الحوارات الشفهية والمكتوبة، ورسمتْ حكاياتهم عنه صورة مثالية لشخصية تدعم المُبدعين الشباب دون مصالح أو تربيطات. كلّ هذا ليس مبررا للكتابة عن أعماله الكاملة، فمكتبتى حافلة بنظائر لها تخصّ أدباء آخرين، غير أن السبب فى الكتابة هو المجهود الهائل الذى بذلته الزميلة عائشة المراغى.
عائشة.. والجمل!

بحْث عائشة عن روايات الجمل جاء فى سياق مشروع صحفى مُمتدّ ومتكامل أعدّته لـ«أخبار الأدب»، واكتشفتْ فيه قصائد مجهولة له، ورسائل تبادلها مع معاصريه وتلاميذه، مما أضاء جوانب خفية فى شخصيته تحفّظتْ هى على نشر بعضها. خلال رحلتها قامت عائشة بتجميع الروايات التى صدرت مؤخرا فى مجلد عن هيئة قصور الثقافة، لكنها لم تلتزم بالنصوص المنشورة، بل أجرت فيها بعض التعديلات!

أعرف أن العبارة السابقة ستصدم المُغرمين بالأدب، فليس من حق أى إنسان أن يتلاعب فى نص لا يخصّه، وقد عاصرنا بالفعل معارك تفجّرت فى السنين الأخيرة، بعد أن تلاعب ناشرون بعبارات فى أعمال روائيين كبار لأسباب عقائدية وأخلاقية! لكن قبل أن تسيئوا الظن بعائشة أوضّح أن ما فعلتْه مشروع، فقد اكتشفتْ خلال رحلة جمعها للروايات أن الجمل أجرى تعديلات بخط يده على بعضها فى النسخ المنشورة. بعد تفكير قرّرتْ أن تقوم بنشر أعماله بعد إضافة تعديلاته، وذكرتْ ذلك فى مقدمة الكتاب لتتيح للقارئ فرصة معايشة واقعة فريدة، قام فيها الروائى بإعادة صياغة أجزاء من نصوصه بعد صدورها ووصولها للمُتلقي.

جُهد شاق من صحفية شابة، لم تقابل الجمل يوما، لكنّها تحمّست له فى البداية كمشروع صحفى شيّق، ثم تحوّل حماسها إلى إخلاص للرجل. وأعتقد أن ما أنجزته سيُؤسس لارتباط وثيق فى الساحة الثقافية بين اسمى عائشة والجمل.. وقد يثير الكثير من الجدل على مدار السنوات القادمة.

كورونا.. والشمعة الثالثة

الاثنين:

أدخل البيت مُحمّلا بأكياس فاكهة، دون أحكام عُرفية تُلزمنى بخلع حذائى على الباب، ثم الاتجاه فورا للحجْر المنزلى المؤقت فى الحمام! ذات زمان كان تغيير الملابس والتعقيم بالكحول شرطين أساسيين للانضمام إلى أفراد الأسرة المُحتجزين بالمنازل.

كل هذا أصبح ماضيا، وها أنا ذا أدخل منزلى الليلة حُرّا من القيود، بعد أن عادتْ الأمور لطبيعتها منذ شهور طويلة. اليوم فقط قرأت تقريرا صحفيا عن الذكرى الثالثة لإعلان كورونا جائحة عالمية، فهاجمنى الماضى بذكرياته الكئيبة التى نسيناها رغم أن الفيروس اللعين لا يزال يقاوم الرحيل.. بل أنه يطفىء شمعة جديدة فى عيد ميلاده الثالث!

ثلاث سنوات مرّتْ على الفزع الأكبر.

تجربة فريدة مرتْ بها أجيال عديدة، جمع الذُعر بينها رغم اختلاف الأعمار. فرّ المرء من أمّه وأبيه، بعد أن رفض البعض استلام جثامين أقرب الناس إليهم خوفا من شبح الموت.

القصص كثيرة لا تزال فى متناول ذاكراتنا الفردية والجمعية، قد نستحضرها الآن بابتسامة ارتياح، بعد أن كانت معايشتنا لها مصدرا لدموع الفراق. أصبحت الزيارات وقتها مهمة مُستحيلة، والطقوس الاعتيادية ممنوعة بأمر القانون.

أغلقت المساجد أبوابها فى رمضان، والعزومات مرفوعة من الخدمة، حتى أن هناك بُلدانا شنّت مداهمات على البيوت لمجرّد تلقى بلاغات بوجود تجمع عائلى بها، وأخرى جعلت الخروج من المنزل مشروطا بتصريح مُسبق! أجواء ستتحول إلى أساطير عند تداولها بعد أعوام، وقد يتعامل معها البعض بعد خمسين سنة على أنها مبالغات بشرية، ابتكرتْها كائنات مهووسة بتصنيع الدهشة.

خلال الجائحة خرجتْ دراسات تؤكّد أن العالم يتغيّر، وأن البشرية بعدها ستشهد تغيّرات جذرية، ضخ الخبراء ملايين الكلمات عن مستقبل بملامح جديدة، وعلاقات إنسانية ستكتسب سمات مُغايرة، بعد أن سيطرت النذالة على البعض، وأخرج الفيروس أسوأ ما فينا. لكن الواقع يؤكد أننا عدنا لما كُنّا عليه، وتجاهلْنا «كورونا» وكأنه كابوس وانقضى، رغم أنه يعاود هجماته دون تأثير، لا لأنه لم يعد مُميتا، بل لأنه فقد قدرته على إثارة الفزع.

بعد يومين قرأتُ تصريحا لمسئول فى منظمة الصحة العالمية، يُرجّح فيه أن كورونا سيذهب لغير رجعة فى نهاية العام، تجاهلتُه لأن الجائحة ضربتْ اقتصاديات العالم لسنوات قادمة، ورحيلها لم يعد ذا معنى، بعد أن أصابتْ تأثيراتها جيوبنا بالجفاف!

الدكتورة سماح.. والغناء المُباح

الثلاثاء:

حاجز نفسى يفصلنى عن تطبيق تيك توك. لا سبب منطقيا يُبرر ذلك لأننى لم أجربه. ربما تكون شخصيتى الضعيفة قد تأثّرتْ بهجمات الكثيرين عليه، ما بين انتقادات وتحذيرات فردية، وحظْر على استخدامه بالوظائف الحساسة فى أمريكا وأوروبا، وقد يكون السبب أنه أصبح الحصان الأسود فى سباقات ركوب التريند، والنتيجة غالبا فيديوهات قصيرة تعتمد على تحويل الحياة الشخصية إلى سلعة، من أجل حفنة دولارات. باختصار تشكّل بداخلى ميكانيزم دفاعى يرفض الاستجابة لهيمنة التطبيق الساحر، الذى أوقعنى اليوم فى فخاخه دون أن أنتبه.

ذات رحلة إلى أندونيسيا صاحبتُ فرقة إنشاد دينى من أسوان، تضم شبابا تتسلّل أصواتهم للوجدان فتسمو به إلى مقامات الوجد. من بين عشرات المشاركين حظيت فرقة «السباعية» بتصفيق حاد ومُتكرّر، رغم أن الجمهور المتواجد بالمسرح لا يفهم العربية، وامتد سحرها حتى خارج فعاليات مهرجان الموسيقى الصوفية الذى نشارك فيه. فى جولة صباحية ببرج شهير فى جاكرتا، أطلق بطل الفرقة الشيخ حسين البيومى صوته بالتواشيح، فاحتشد الناس حوله وأطلقوا آهات الإعجاب، مما منحه طاقة إضافية جعلتْ صوته يُجلجل ويتصل بالسماء، تنوّعت الموشحات التى يؤديها، واكتشفتُ بعدها أنه كان يراقب انفعالاتي، وبعد أن انتهى من تطريبه قال مُبتسما: أنت مولع بالصَبا. لا أعرف من المقامات الموسيقية إلا أسماءها، لهذا بدت الدهشة فى عينىّ. أراد تبسيط الأمر فسألنى عن أحبّ الأغنيات لقلبي، اجبتُ ليبتسم الرجل من جديد مُعجبا بفطنته، وأكد أن كل الأغنيات التى ذكرتُها تنتمى لمقام الصَبا.

أعرف أن ثرثرتى المُزمنة أصبحت إدمانا يُهدّدكم بداء النسيان، لكنى سأعود للسياق الذى خرجتُ منه. سبقتْ زيارتى لأندونيسيا بسنوات ابتكار تطبيق تيك توك وأشقائه من التطبيقات المُختلفة. ليس للفرقة إذن أية علاقة مباشرة بسقوطى فى فخ تيك توك. لحظة.. العبارة السابقة تفتقر إلى الدقة، فمنذ كشْف الشيخ حسين أصبحتُ أكثر ارتباطا بالمقام المذكور، لهذا توقفتْ عيناى اليوم أمام عنوان قفز أمامهما على فيس بوك: «إزاى تِسلطن الصَبا بطريقة سهلة؟». بشكل لا إرادى ضغطتُ على الرابط، لأكتشف أننى أمام تحليل مُذهل لأغنية هو صحيح الهوى غلاب؟ تُقدمه الدكتورة سماح إسماعيل. إنها المرة الأولى التى أشاهدها فى حياتي، كما أن التجربة ذاتها جديدة، فهى تُقدّم تفسيرا صوتيا للأغنية الشهيرة، وتُبرّر أسباب قوة الأداء فى مواضع وضعفه فى أخرى، كما تطرح أحيانا بدائل للأداء وتُبرهن أن ما اختارته كوكب الشرق هو الأكثر ملاءمة للحالة الوجدانية. الغريب أن الدكتورة سماح تتكلم ثم تنتقل إلى الغناء بسلاسة مُدهشة، صوتها بالغ العذوبة حتى أننى أتمنى ألا تتوقف عن الشدْو، فإذا انتقلت للشرح تمنيتُ ألا تُغنّى!

أقضى الليلة فى متابعة فيديوهاتها، التى اكتشفت أنها تُقدمها أساسا على تيك توك. فتفاجؤنى بأن للمقام الواحد درجات قوة مُتعدّدة، تذكر ذلك عندما تتطرق لمقطع من أغنية «لسه فاكر»، رغم أن الأغنية من مقام العجم إلا أن الكوبليه الذى اختارتْه من مقام الصبا. «كانت الأيام فى قلبى دموع بتجرى وانت تحلالك دموعى وهى عمرى». تشرح وتُحلّل بعد أن تُوضح أن اختيارها لهذا المقطع تحديدا جاء تحت إلحاح المُتابعين. للشجن مريدوه الذين فتحوا على تيك توك بوابة للحزن اللذيذ، بدلا من «الهلْس» المتنامي. أنشغل عن الشرح بصوت الدكتورة وهو يُفجّر جروح الكلمات: «يا ما هانت وكانت كل مرّة تمحى كلمة من أمالى فيك وصبري.. كلمة كلمة لما راح الهوى ويا الجراح.. واللى قاسيته فليلي.. اتنسى ويا الصباح».

للأسف حل الصباح مُبكرا، وتمنيتُ ألا تتوقف الدكتورة سماح عن الغناء المباح.. لكن النوم سلطان!
 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة