عبدالعزيز العدس
عبدالعزيز العدس


يوميات الاخبار

حلم من زمن بعيد

عبدالعزيز العدس

الأحد، 19 مارس 2023 - 07:35 م

 بدا وكأنه حلم بعيد.. لكنه اتسق مع الواقع الذى أعيش فيه، فمنذ سنوات طويلة واكبت الغزو الأمريكى للعراق فى عام ٢٠٠٣.. كنت فى المرحلة الإعدادية وأذكر أنه فى تلك الفترة كنا نتجمع أمام المدرسة فى الصباح الباكر قبل الدخول للطابور المدرسى لنبدأ يومًا دراسيًا جديدًا.. تلك كانت إرهاصات الولوج إلى عالم الصحافة إذ كنت أحرص على مُطالعة عدد من الصحف وما كتبه كبار الكتاب الصحفيين فى مقالاتهم وأعمدتهم ونفسى تحدثنى كيف أصبحوا؟.. وهل يأتى اليوم الذى أكون منهم وبينهم.. وذات مرة تقمصت الدور مع زميلى فى الفصل وفى نفس التختة إذ قمت بدور المراسل الذى ينقل أخبار ما يجرى من أنباء حول مجريات الحرب الأمريكية على بغداد وعلى طريقة نادر سيف الدين الفنان الكوميدى محمد هنيدى فى فيلم «جاءنا البيان التالى» كانت طريقتى فى الأداء والعبارة الشهيرة «كان معكم من قلب الأحداث»... دارت الأيام وتدرجت فى الدراسة لتُختتم بدراسة الإعلام فى كلية الآداب جامعة بنها.

دموع تشارلز
فراق أحدهم ليس بهينٍ مهما بلغ الإنسان من العمر ولم يغب عن بال الملايين مشهد تشارلز الثالث ملك بريطانيا الجديد الذى بلغ من العمر أرذله لكنه لم يستطع مقاومة دموعه التى ذرفت أثناء وداع أمه الملكة إليزابيث الثانية وترك لها العنان لأنها غريزة جُبل عليها الإنسان.. أثارت تلك الدموع شجونى تجاه والدىَّ اللذين لعبا دورًا لا ينسى فى تشكيل محور حياتى بدءًا من مرحلة الطفولة حيث شَكَّل أبى -عليه رحمات الله- وأمى متعها الله بالصحة والعافية جانبًا كبيرًا فى حياتى، وكانا بمثابة الضياء الذى أنار طريقى نحو بلاط صاحبة الجلالة فى «الأخبار» العريقة.

الدروس الخصوصية والإجازة
عندما أسرح بخيالى أجد أننا كنا جيلًا محظوظًا حقًا تمتع بإجازته الصيفية على خير ما يُرام وأبدع فيها بتشكيل ألعابه من داخل وجدانه واستغل الطبيعة من حوله لإسعاد نفسه فيما أننا نرى الآن أبناءنا يلهثون وراء سراب تمثل فى ألعاب الكترونية تقتل الإبداع وتهلك أجهزتهم الذهنية والفكرية لتتسع دائرة الأمراض، منها التوحد والبلاهة والتأخر الذهنى وضعف النطق ومهارات اللغة العربية واقتحم غول الدروس الخصوصية حياة المصريين بل إنها توحشت عن ذى قبل وأصبحت تُمارس على مدار العام، ولم تترك الإجازة الصيفية فى حالها وبات من الضرورى أن يلتحق الصغار قبل الكبار من الطلاب والتلاميذ بها وترى جحافل من الطلبة طوال النهار ومنذ بزوغ الشمس فى المجىء والإياب يملأون طرقات الشوارع وكأن المدرسة لم تغلق أبوابها إيذانًا بالإجازة.. وحكى لى أحد المعلمين بالمعاش فى قريتى كيف أن تلك الدروس فى بدايتها كان تعد «عيبة» فى حق الطالب الذى يلجأ إليها بل إنهم كانوا يعمدون إلى إخفاء كتبهم فى «كم أو سيالة» الجلباب خشية أن يراه زملاؤه فيعيرونه بمستواه الدراسى، وقال إنه ليس طبيعًا وغير مبرر السباق المحموم الذى أصبحت عليه لدرجة إقدام الناشئة من عمر ٣ سنوات إليها بحجة التأسيس خاصة فى ظل التأكيد المستمر من الوزارة على تخفيف المناهج وطرق التدريس لتواكب التطور مع أساليب وتكنولوجيا العصر الحديث وأنها تعد مسئولية مشتركة بين ولى الأمر والمدرس ووزارة التربية والتعليم لمحاصرتها بعد تفشيها بصورة ليس لها مثيل.


هذا يجعلنا نتحسر على أيامنا الجميلة كما نراه نحن أبناء هذا الزمن الذى كنا نقضى أغلب أوقاتنا فى الكُتاب، وهو ما أثر على تحصيل معظمنا فى أعوام الدراسة كما لم نكن نعرف ما يسمى الآن بفترة الـ Kg الذى كنا نتخرج منه ونحن نجيد فنون القراءة والكتابة والقواعد الأولية للحساب ومهارات النطق والخطاب وحصيلة جيدة من حفظ بعض سور القرآن الكريم التى تبقى معنا طوال العمر.. يحدونا أمل فى عودتنا الى الجذور فى كل شىء بما فيها الكُتاب وأن تخف حدة الدروس التى أكلت أموال وأوقات الأهالى وأبنائهم وأن تكون الإجازة إجازة بمعنى الكلمة ينعم فيها أطفالنا بقضاء أوقاتهم فى اللهو واللعب ومن ثم العودة إلى الدراسة بعقل وفكر متقدم، وهمة ونشاط متجدد، وتعود الأمور إلى نصابها الصحيح كما كانت من قبل.

تطوير الريف
حسنًا فعلت الدولة بالتفكير منذ وقت مبكر إلى الاهتمام بالريف فمع اتجاه الدولة إلى تطوير الريف وتحسين مستوى معيشة الأهالى بدأ الفلاح المصرى يستعيد رونقه من جديد بعدما عانى فترة طويلة من التجاهل والتهميش ولعل أزمة الطاقة التى ضربت أوروبا تأثرًا بالحرب الأوكرانية الروسية فرصة مناسبة لتوجيه مزيد من الاهتمام بالأراضى الزراعية من أجل سد فجوة نقص كميات القمح والسماح بتوسعة رقعة الأرز لتلبية احتياج السوق.
وإذا كانت يد التطوير طالت فعلًا الريف بعدما تغنى البعض فى الزمن الماضى بأغانٍ تمجد فى عيشة الفلاح وأن ما أحلاها وذلك بسبب بساطة معيشته وحالة الرضا فى قلبه بما كانت تجود الأرض عليه ليس إلا فإنه حاليًا صار محور كتابة كل ذى قلم ومادة خصبة لاجترار الذكريات فى عديد من جروبات التواصل الاجتماعى.. فلم يدر بخلد أحد أو يتوقع أن يصبح هذا الفلاح بحياته البسيطة التى يكد ويتعب فيها منذ بزوغ أوان الفجر حتى غروب الشمس، ليدور الزمان ويتمنى بعض الناس أنهم عاشوا حياته.
بلا شك مزارعو تلك الأيام كانوا يحلمون بغد أفضل وينتظرونه بفارغ الصبر ولم يكن يخطر ببالهم أن أبناءهم وأحفادهم من أبناء هذا الغد سيشتاقون إلى ماضى أجدادهم الذى كانوا يحلمون بالهروب منه ويسمونه الزمن الجميل.
وهل هذا الزمان الذى نعيش فيه سيكون غدًا هو الزمن الجميل لأحفادنا.... وإذا كان كذلك فلماذا لا نراه جميلًا الآن كما لم ير أجدادنا الزمن الجميل جميلًا فى وقته.
هل لابد أن تغادرنا الأشياء الجميلة حتى نشعر بجمالها أم أن طموح الإنسان ونظرته المستقبلية وتخيلاته لواقع أفضل أحيانا تنسيه اللحظة الجميلة التى بين يديه فإذا ما وصل إلى ما تمنى... يكتشف أن عمره ضاع فى التمنى فيتمنى مرة أخرى ولكن هذه المرة ليست أمنية مستقبلية بل يتمنى العودة إلى لحظات ماضية جميلة فاتته ولن تعود.

القرية وأخلاقها
تدور أسئلة عديدة على ألسنة كثير من الناس ولا تجد إجابة لها عن ماذا أصاب القرية المصرية، ذلك مرجعه إلى الجرائم الشاذة والتى أصبحت متكررة على مستوى قرى الريف والصعيد وباتت تطرح سؤالًا مُؤلمًا.. هل اختفت «أخلاق القرية» والواقع أننى أرى أنها لم تختف كلية لكنها مسخت فلا هى ظلت قرية كما معروف فى الأذهان تتسم بالهدوء والطبيعة الخلابة، ولا طالت ما توصلت إليه المدن من مستوى باهر فى العمارة وتوافر كل الخدمات فصار حالها مثل الراقص على السلالم وهذا أعجب العجاب لحالها، ذلك ما دفع عددًا من أصحاب الجروبات على التواصل الاجتماعى لإنشاء صفحة تحت مسمى «كان قديمًا فى قريتنا» لاجترار ذكريات الماضى بعدما ساءهم ما وصل إليه حالها.

أصوات عبرت الحدود
ويأتى تعظيم دور مصر لتؤكد عليه تلاوة القرآن الكريم فقد سبق لها أن تنطلق منها دولة التلاوة مُمثلة فى مجموعة من كبار القُراء الذين ذاع صيتهم فى أرجاء المعمورة كلها فهم جيل صعب تكراره والعجيب أنهم تواجدوا فى زمن واحد نهلوا من كلام الله وراحوا يبثونه من حناجرهم، ولتقوم إذاعة القرآن الكريم على أصداء تلك الأصوات التى مازالت تشنف الآذان برغم مُضى الأيام ورحيل معظم أركان تلك الدولة إلى العالم الآخر.. ولهذا لم أدهش إذ طالعت مؤخرًا عددًا من جروبات الفيس بوك تحتفى برموز تلك الدولة تحت مسميات شتى منها «مزامير دولة التلاوة».. و«جمهورية القُراء» يقوم أصحابها بتناول التلاوات وسير أصحابها وأعلامها منهم الشيوخ محمد رفعت ومصطفى إسماعيل والحصرى وعبدالباسط والمنشاوى ومن خلالها تعلم كيف أثرت مصر فى العالم كله فهم نجوم من ذهب رفعوا لواء القرآن ليعرف الناس بمشارق الأرض ومغاربها قدر مصر وعلمائها ويحفظون لها ذلك الشرف الجليل.

خاطرة
وفجأة ينتهى كل شىء ويموت الأمل وتندثر الأحلام وتغيب الشمس وتختفى وراء السحاب لكنها فى هذه الحالة لا تعود كما عودتك فى سائر الأيام.. لأنها شمس يومك الذى حَلَّ أفوله بأمر ربك وذهب جسدك إلى موطنه الأصلى ليخلد فيه إلى ما شاء خالق الكون لتبعث ثانية فى يوم عظيم ليس كمثله أيام إنه يوم الفرقان والحساب.. حساب كل شىء فعلته وظننت أنه نسى بمُضى الأيام ولم تحتسب لآيات القرآن الكريم والتسليم لقضاء الله والثبات على دينه والسعى إلى ما يرتضاه من الحلال الطيب وإن قل وتعبئة القلوب بالإيمان ومعرفة ما أنزل الله وما شرع رسوله..
فالكل يفنى والأحلام تدفن والنفوس تحاسب.. ويبقى العمل الصالح فوق التراب سيرة حميدة وتحت الأرض نور أرواح الصالحين خالدة فى النعيم.

كنا جيلًا محظوظًا حقًا تمتع بإجازته الصيفية على خير ما يُرام وأبدع فيها بتشكيل ألعابه من داخل وجدانه واستغل الطبيعة من حوله لإسعاد نفسه

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة