د. ناصر الرَّباط
د. ناصر الرَّباط


ناصر الربَّاط يكتب: القاهرة أكبر مركز للإنتاج الثقافى فى العالم العربى و يرى أنها لم تتزعزع رغم محاولات بعض الدول

أخبار الأدب

الأحد، 26 مارس 2023 - 04:53 م

عشاق القاهرة

 منذ إنشائها، كان للقاهرة وقع السحر على كل زوارها، سحرتهم المدينة، وافتتنوا بها، فوثقوا حكايتها، وأرّخوا لها بشكل   ربما  لم تعرفه أى مدينة إسلامية أخرى. شهدت القاهرة منذ مولدها الأول الكثير من التحولات، مرّت بالعديد من الأحداث الكبرى، تجاوزت صدمات كثيرة إلا أنها قاومت فى نهاية الأمر لتصبح ما هى عليه اليوم.

خلال هذه السلسلة نحاور مجموعة من أهم مؤرخى القاهرة، نقرؤها كمدينة من خلالهم، نقترب أكثر من مشروعهم، وفلسفتهم، فى محاولة لفهم كيف أغوتهم تلك المدينة العظيمة. 

ولد فى عام 1956. العام نفسه الذى أممت فيه قناة السويس، لذلك قرر والده أن يطلق عليه اسم ناصر، وكان جمال عبد الناصر بالنسبة لعائلته ولعائلات أخرى كثيرة فى الوطن العربى هو الأمل خلال تلك الفترة. نشأته داخل بيت مثقف فى سوريا لأسرة تعمل فى المحاماة، ساهمت إلى حد كبير فى تكوينه، خلال فترة حرجة عاشتها المنطقة العربية ككل.

وكان لعالمة الآثار المصرية ليلى إبراهيم الفضل الأكبر فى مسيرة ناصر الرباط إذ قدمت له دومًا النصح، عاملته تمامًا كابن لها، واعتبرها هو أيضًا ملاكه الحارس، وعرف القاهرة وحفظها من عيونها. أبهرته العمارة المملوكية، وتعمق فى دراستها وقدم تحليلاته ونظرياته حولها، إلى أن أصبح فى نهاية الأمر أحد أهم مؤرخى المدينة، يحفظها تمامًا عن ظهر قلب.

ويشغل المؤرخ السورى والمعمارى ناصر الرباط حاليًا منصب أستاذ كرسى الآغا خان للعمارة الإسلامية فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «MIT» بالولايات المتحدة الأمريكية؛ نتحدث معه هنا عن فلسفته، ووجهات نظره ورؤيته لقضايا العمارة والتراث فى العالم العربي؛ خصوصا بالمدينة التى أحبها دومًا.. القاهرة.  

فى البداية أريد أن أعرف لماذا اخترت تخصص العمارة؟

اخترتها لأننى أردت تحدى الوضع القائم، كان ينتظر من المتفوقين الالتحاق بكلية الطب، لكنى أردت إثبات عكس ذلك، وقررت الالتحاق بكلية العمارة، وقد كنت أيضًا أحب التاريخ، أتذكر أننى فى إحدى المرات اقتنيت من باريس، كتاب حسن فتحى والذى ترجم فيما بعد باسم «عمارة الفقراء».

وفى الصف الرابع خلال دراستى للهندسة قرأته فى ليلة واحدة، وهنا أصبح حسن فتحى هو مثلى الأعلى، وأردت تطبيق أفكاره، وقررت أن يكون مشروع تخرجى عبارة عن قرية تستخدم الطاقة الشمسية، وبحثت عن المنازل التقليدية فى سوريا.

ثم بعد ذلك ذهبت لجامعة كاليفورنيا فى لوس أنجلوس «UCLA» فى أمريكا، إذ كانت تضم أهم برنامج معمارى متخصص فى الطاقة الشمسية، وتعمقت فى القراءة عن الطاقة الشمسية خصوصًا داخل العمارة التاريخية، وحينها تعرفت على أستاذة بالجامعة، ونصحتنى بضرورة اختيار مكان آخر مع دمشق كموقع للبحث ليتم المقارنة بينهما، نصحتنى بالقاهرة لأنها مدينة تم دراستها جيدًا من جانب العلماء.

وذهبت للمكتبة واطلعت على الكتب التى تناولت القاهرة، خاصة تلك التى كتبها الفرنسيون عن بيوت القاهرة، ومنها مؤلفات جاك ريفو عن بيوت القاهرة المملوكية والعثمانية، لكن عندما تم قبولى فى برنامج الأغاخان لدراسة الدكتوراه سنة 1984، كان هدفى هو دراسة المنازل العثمانية، وفكرة تعاملهم المناخى داخلها.

وحين أصبحت تلميذًا فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «MIT»، حصلت على منحة للسفر إلى القاهرة لدراسة البيوت العثمانية، وكان مشرفى على الرسالة أهم مؤرخ فن إسلامى فى العالم آنذاك وهو أوليج جرابار، والذى كتب لى رسالة توصية لعالمة الآثار المصرية ليلى إبراهيم.

لنتوقف هنا قليلًا.. ذكرت فى مقال سابق لك هنا فى «أخبار الأدب» أن ليلى إبراهيم كانت هى ملاكك الحارس.. كيف بدأت هذه العلاقة؟

وعندما كتب لى أوليج جرابار رسالة التوصية لم أكن أعرف ليلى، لكن حين جئت إلى القاهرة فتشت عنها وذهبت للجامعة الأمريكية لمقابلتها وأعطيتها رسالة جرابار، وأخبرتنى أنها تتجول مع طلابها أسبوعيًا لزيارة الأماكن الأثرية داخل القاهرة، واصطحبتنى بالفعل لتعريفى على القاهرة.

وقد أذهلتنى وقتها العمارة المملوكية وأعجبت بها، وأصبحت ليلى إبراهيم هى «ملاكى الحارس»، فقد تبنتنى شخصيًا. أتذكر أننى وقتها كنت ولد «صايع» وأتردد على القاهرة بشكل دائم، وأسهر فى شوارعها كثيرًا، لكنها أخذتنى من يدى وتبنتنى.

وكانت تتصل بى صباحًا لتوقظنى، ثم تنتظرنى هى وسائقها أسفل منزلى بمنطقة الزمالك، كان الأمر يتكرر يوميًا؛ لذلك أنا أعرف القاهرة الإسلامية من خلال عيون ليلى إبراهيم، ولا يوجد أحد الآن يعرف القاهرة من عيون ليلى سوى الدكتور حسام الدين إسماعيل، والأستاذة دوريس أبو سيف، فقد كانا يصحبانها دائمًا؛ لذلك أنا مدين لها بالكثير، لأنى أحببت القاهرة ورأيتها من خلالها.

قلت من قبل أن دراسة العمارة داخل دمشق لم تكن مرضية بالنسبة إليك.. لماذا لم تدرس فى البداية عمارة سوريا واتجهت لدراسة عمارة القاهرة تحديدًا؟

السبب الرئيسى هو إعجابى بالعمارة المملوكية، لكن السبب المنطقى هو رغبتى فى الابتعاد عن المواضيع العاطفية، أردت أن تكون دراستى علمية، ودائمًا أنصح طلابى بالابتعاد عن دراسة المدن التى عاشوا فيها، لأنهم فيما بعد، وبسبب الحنين لوطنهم سيكتبون عن مدينتهم فى وقت ما، لكن المهم بالنسبة إليهم خلال مرحلة التأسيس أن يتعرفوا على حضارات أخرى.

ولكن بطبيعة الحال أغلب الطلبة المصريين لا يسمعون لهذه النصيحة، وجميع أبحاثهم فى النهاية تكون عن مصر، حتى ولو خرج الموضوع عن السياق المصرى فإنهم يرجعونه للسياق المصرى مرة أخرى، لذلك أرى أن هناك ارتباطا قويا بين الطلاب المصريين ومصريتهم، وهذا الارتباط «يعميهم» فى بعض الأحيان، لأن عليهم أن يدركوا أنهم لا يعيشون فى العالم وحدهم؛ لذلك أنصح طلابى بالتحرر ودراسة ثقافات مختلفة عن تلك التى عاشوا بداخلها.

لننتقل لجزء آخر.. بصفتك مؤرخا معماريا.. ما سبب تميز العمارة الإسلامية.. وهل توافق أصلًا على فكرة نعت العمارة بالإسلامية، كيف ترى هذا المصطلح؟

ويجب أن نعرف أن الإسلام على عكس الديانات الأخرى، إذ قدم نفسه باعتباره «دينا ودنيا»، لذلك اعتقاد البعض أن العمارة الإسلامية عمارة دينية فقط أمر خاطئ، ويظلمها كثيرًا، إذ لم يقتصر دورها على المساجد والمنشآت الدينية فقط، لكن وبسبب أن الإسلام أصبح فيما بعد نظامًا سياسيًا، فسنجد أن نظام الخلافة، والوصاية، والحاكمية، نبعت من التعاليم الإسلامية؛ لذلك الإسلام فرض نفسه على مناطق سيطرته الحضرية، كمكون حضارى، وعمرانى، واجتماعى.

ولم يقتصر دوره فقط على الجانب الدينى، وهذا على عكس اليهودية أو المسيحية، إذ أن الديانتاين تفصلان لحد كبير بين الدين والدولة، على حين أن العمارة التى تنتجها الدول الإسلامية والتى تستقى شرعيتها من الإسلام، هى بطبيعة الحال عمارة إسلامية. فالإسلام متداخل فى تفاصيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وقد أنشأ جهازا معرفيا هائلا، وفى نهاية الأمر أرى أننا نقوم بنعت العمارة بمصطلح «الإسلامية» لأننا نحاول تمييزها أمام العمارة الغربية، فكل شخص حاول البحث عن مصطلح آخر فشل.

ولو أردنا مثلًا استخدام لفظ العمارة المصرية، فهذا معناه أننا حصرنا أنفسنا داخل مصر فقط، ولو أردنا اصطلاح لفظ العمارة المملوكية، فسنجد أن هناك مناحى مشتركة هائلة بينها وبين العمارة فى تركيا، وسوريا، وإيران، والمغرب، والعراق، والأندلس، وفى نهاية الأمر فهذا التقاطع حدث لأن الإسلام هو من فرضه، وبسببه تم تسمية هذا النوع من العمارة باسم العمارة الإسلامية، وشخصيًا أصر على استخدام هذا اللفظ، لأنه يميز عمارة المنطقة، عن غيرها، فنحن كأمة إسلامية وعربية نملك نواحى تاريخية تجمعنا، أكثر من النواحى التاريخية التى تفرقنا -كالتمييز مثلًا بين السنة والشيعة-، لكنى أعتقد أن عوامل الجمع أقوى بكثير داخل تكويننا الثقافى، إذ تجمعنا بشكل أساسى اللغة العربية وعمادها القرآن، والإسلام بدوره متغلغل بداخلنا، كما أنه استطاع خلق تاريخ مشترك بين المناطق العربية؛ لذلك فرفض هذا المصطلح أرى أنه قصر نظر.

بخصوص ذكرك للعمارة المملوكية.. كيف تقيمها كمؤرخ وما سبب تفردها؟

الإجابة عن هذا السؤال بطبيعة الأمر صعبة، وتحتاج لتحليل طويل، فقد نضج التفكير المعمارى خلال فترة حكم المماليك، بل وصل لدرجة عالية من التعقيد، إذ أصبح هناك تراكم خبرات لمدة قرون بالنسبة للعمارة الإسلامية، نلاحظ أن المماليك جاءوا للحكم خلال القرن ال13 ميلاديًا، وهذا معناه أن المسلمين الذين كانوا يجربون فى العمارة لمدة سبعة قرون؛ قد أورثوا المماليك إرثًا معماريًا ضخمًا، وقد حسن المماليك هذا الإرث بشكل كبير وأضافوا إليه.

والأمر الثانى الذى ساهم فى تفرد عمارة المماليك - من وجهة نظري- هو أن تركيبة دولة المماليك كانت تركيبة خاصة، وهذا مشروع كتاب أعمل عليه فى الوقت الراهن، فهم لم يحتكروا لأنفسهم السلطة فقط، لكنهم احتكروا الثروة داخل مصر، فمداخيل الدولة كانت توزع على الأمراء والسلاطين والجند المماليك، وإيرادات وادى النيل الغنى كانت تذهب إليهم فى نهاية الأمر، بل تجاوز ثراء هذه الطبقة حد الوصف، فأغنى أغنياء مصر حاليًا، لا يمكن مقارنة ثروته بما كان يملكه مثلًا الأمير قوصون، أحد أكثر أمراء السلطان الناصر محمد ثراءً؛ لذلك فاحتكارهم للثراء، كان لابد له فى المقابل التقرب للشعب.

وقد أرادوا الاقتراب من خلال العمارة، وبما أن السلطة المملوكية حُصرت داخل القاهرة بشكل كبير، فقد كان التنافس بين أثرياء أمراء وسلاطين المماليك، دائمًا موقعه القاهرة؛ وبالتالى تم بناء ما يزيد عن ال2000 صرح معمارى داخل المدينة خلال هذه الحقبة، وحاليًا المتبقى منها ما يقرب من ال300 مبنى، فالقاهرة كمدينة كانت عامرة بالجوامع والمساجد والخانقاوات والزوايا، والمدارس، والوكالات، والقصور.

ولكن الشيء السلبى بالنسبة إليّ، هو أن المماليك وضعوا نظام حكم مبنيا على أن الثراء يُعطى فقط لصاحب السلطة، أى أن الأمراء خصصت لهم مناطق ومدن وأقاليم كاملة كإقطاع؛ وبالتالى كانت تجمع الأموال من داخل حيزّ سيطرتهم وتذهب للأمراء مباشرةً، لكن الأمير لم يكن يملك أن يورث ثروته تلك لأولاده؛ أى عندما يموت الأمير أو يتقاعد عن عمله فى بلاط السلطان، فهذا الوقف أو الإقطاع يعود للدولة مباشرةً.

وكانت طريقة التحايل على الأمر تتم من خلال إنشاء الوقف الخيرى، كأن يبنى شخص مسجدًا، ومن ثم يتم وضع بند بأن المشرف على الوقف سيحصل مثلًا على مبلغ قدره 500 دينار شهرى، وهنا يكتب فى البند أن المشرف على الوقف هو الواقف نفسه، وعندما يموت يتم اختيار أولاده ليكونوا هم المشرفين على الوقف.

ولذلك تم التحايل على نظام الوقف، رغبةً فى تأمين مستقبل عائلات أمراء المماليك بعد وفاتهم. وهذا هو من وجهة نظرى واحد من أهم أسباب قيام أمراء المماليك ببناء أوقاف خيرية كثيرة فى القاهرة كوسيلة لتأمين بعض الدخل لأبنائهم الذين لم يكن لهم الحق بوراثة إقطاع آبائهم.

وهكذا أصبحت القاهرة تنعت بأنها مدينة الألف مأذنة لأن المماليك فعلًا بنوا فيها عددًا كبيرًا من المبانى الدينية والتعليمية والاستثمارية ووضعوا فى أوقاف مبانيهم بنوداً تؤمن انتقال بعض مدخول الوقف لأبنائهم.

وهناك سبب آخر وهو أن الدولة المملوكية وخاصة خلال فترة الناصر محمد كانت، قد ثبتت أركانها كإمبراطورية إذ تم القضاء على المغول والصليبيين فى تلك الفترة؛ وبالتالى لم تعد الأموال تصرف على الجهود الحربية وتجهيز الجيش بالدرجة نفسها التى كانت عليها قبل تثبيت أركان الدولة.

وأصبح بإمكان السلطان وأمرائه الالتفات للعمارة والتعمير. فقد أراد الناصر محمد أن يوسع عاصمته ويجملها بحيث أنها أصبحت فى عهده أهم مدينة فى العالم كله -يمكن أن تكون مدينة بكين فى شرق الصين هى منافستها الوحيدة فى ذلك الوقت-، والناصر محمد بدوره أراد اقتناء الأمراء بشكل كبير لتعزيز موقعه، ومنحهم الإقطاعات؛ مما مكنهم هم أيضًا من الاقتداء بسيدهم، وإنشاء المبانى الهائلة.

وهناك أيضًا عامل آخر فى استمرار ازدهار القاهرة وهو أنها لم تدمر بسبب أى غزو خلال تاريخها كله. إذ أن المماليك نقلوا معاركهم نحو الشام؛ وبالتالى حموا المدينة من التدمير خلال صراعاتهم، مما أدى لتراكم الإنتاج العمرانى داخلها على عكس المدن القروسطية الإسلامية الأخرى، فمدينة حلب دمرت حوالى 5 مرات، وكذلك القدس، ودمشق، وأصفهان، وسمرقند؛ لذلك فالقاهرة فى عهد المماليك وصلت لمرحلة من التراكم المعمارى والعمرانى لم تصل إليه أبدًا أى مدينة إسلامية.

صدر لك مؤخرًا كتاب مهم عن المقريزى ومشروعه التاريخى.. لماذا اخترت المقريزى تحديدًا؟

لأنه كمؤرخ عظيم، أرى أنه لم يُقرأ بأسلوب تاريخى وثقافى ونفسى حق، فأغلب الكتابة الحديثة عن التاريخ فى العالم العربى هى كتابة اجترارية كسولة، لأنها تنقل ولا تضيف شيئا، والمقريزى فى الحقيقة تمت دراسته بنفس الطريقة داخل الثقافة العربية المعاصرة، فأغلب الدراسات عنه كانت دراسات ناقلة فقط؛ أى لم تقدم تأويلًا أو تحليلًا للمؤرخ ولعمله، فمثلًا يتم ذكر ما قاله السخاوى عن المقريزى لكن بدون تحليل؛ لذلك ما أردت فعله هو تقديم صورة متكاملة عن المقريزى الإنسان، والمفكر، والمؤرخ المتألم لتاريخ مدينته.

وكيف انعكست كل هذه التداخلات على كتاباته، وهذه الأمور اكتسبتها من الثقافة الغربية، لأنها علمتنى كيف يمكن أن ننظر للناس بطريقة شاملة، محللة تسبر غور نفسيات الشخصيات التى ندرسها، فالثقافة الأكاديمية العربية بشكل عام ثقافة كسولة، وأغلبها يهدف لاستعادة كتابات العصور الوسطى، مع أن هناك بعض الدراسات الجادة التى حاولت.

لكنها غير كافية من وجهة نظرى، وعلى أى حال أرى أننا مقصرون جدًا فى كتابة التاريخ؛ فالكثير من تاريخنا كتبه المستشرقون الذين درسوا تاريخنا بأفضل مما فعلنا، ورأيى الصريح أننى كشخص يحاول إعلاء شأن الثقافة العربية أجد أنه من الصعوبة الاستشهاد بالكتابة التاريخية العربية المعاصرة، لأنها لا تضيف شيئًا كثيرًا على ما يمكننا أخذه من مصادره الأولية.

وما الذى أردت كشفه؟

وأردت تقديم صورة متكاملة عنه، باعتباره أهم مؤرخ فى تاريخ مصر، والأمر الثانى أننى أردت قراءة المقريزى من خلال شخصيته وتعامله مع الحكام فى هذا الوقت، وحياته، ومن أثروا فيه، والوقوف على وجهات نظره الدينية، ومواقفه السياسية والاجتماعية، فقد وضع يده على الخلل فى نظام الحكم المملوكى منذ البداية، نتيجة تعرفه على المماليك عن قرب.

ولكن رؤيته لهذا الخلل جعلت منه شخصًا قلقًا ومتشائمًا وكان المقريزى معتدًا بنفسه أيضًا، وأراد أن يحصل على تقدير المماليك والعلماء والفقهاء، لكنه لم يحصل عليه كما أراد مما أثر مباشرة على رأيه فيهم. فخلال 20 سنة من تعامله مع دوائر السلطة فى الدولة المملوكية، شعر أن عليه انتقاد السلطة لا خدمتها، خصوصًا عندما توفى راعيه الأول كاتب السر.

وهو رجل يدعى فتح الله، بعدما قتله المؤيد شيخ، فهذه الحادثة – من وجهة نظري- هى التى قصمت ظهر البعير، فقرر التخلى عن صراع المناصب، واعتزل الجميع رغبة منه فى كتابة تاريخ مصر، فقد أحس أن السلطة فى مصر خلال تلك الفترة تتخبط فى الفساد والإهمال والصراع على النفوذ التى ستؤدى حتمًا لخراب كبير.

ولذلك فقد أراد حفظ ذكرى بلاده، فكتب الخطط. والملاحظ أيضًا أن المقريزى أثر فى جيل ال67 بشكل خاص، فقد كتبوا بوحى من نقد المقريزى، والكتاب الذين قمت بتحليلهم هم جمال الغيطانى، وخيرى شلبى، ونجيب سرور، وهؤلاء جميعًا خصصت لهم فصلًا، لأنهم عبروا عن إحساس التدهور الذى أصاب المجتمع المصرى بعد هزيمة 1967.

هل سيتم ترجمته للعربية قريبًا؟

لا أحب ترجمة كتبى، بل أفضل صياغتها بالعربية مباشرة. فأنا أحب الكتابة، ولغتى العربية ربما تكون أقوى من لغة المترجمين. لذلك فأنا أكتب كتابى عن المقريزى بالعربية فى الوقت الحالى. وسوف ينشر فى أقل من عام. وأنا أريد له أن يصل إلى قراء العربية فهو من وجهة نظرى أفضل ما كتبته فى حياتى.

ولكن النسخة العربية ستكون مختلفة بعض الشيء عن النسخة الانجليزية، لأننى أزلت بعض الأمور التى لن تهم القاريء العربى، وتركت فى المقابل الجزء الخاص بمدى تأثير المقريزى على الكتاب المصريين المعاصرين ثم أضفت جزءاً عن كتب المقريزى عن الرسول وآله وعن التاريخ الإسلامى التى لا توجد فى النسخة الإنجليزية.

فى سنة 2000 قلت إنه بالرغم من حبك للعمارة المملوكية داخل القاهرة إلا أنها مهملة فى التراب.. لماذا كان هذا الوصف؟

لم يتغير رأيى حتى هذه اللحظة، ففى عام 2000 كنت أزور القاهرة بشكل مستمر لسنوات، وقبل هذه المدة وتحديدًا من عام 1987 وحتى عام 1989 عشت فى القاهرة بشكل دائم بسبب دراستى بمعهد البحوث الأمريكى، ووقتها كنت أرى الإهمال الذى تتعرض له الآثار داخل المدينة، ولم يكن أحد يعبأ بها.

وحتى سكان القاهرة القديمة لم يعبأوا بوضع المبانى الأثرية الموجودة حولهم، أتذكر أن مبانى منطقة الدرب الأحمر كانت مشبعة بمياه المجارى، وهى المبانى التى سيتم ترميمها فيما بعد من قبل الأغاخان، ولم يهتم أحد بتلك المبانى العظيمة وقتها، وعندما بدأت وزارة الثقافة عمليات الترميم فى نهاية الثمانينيات.

وكان ترميمًا سيئًا بسبب رغبتهم فى سرعة الافتتاح، وهنا نجد أن مرممى مؤسسة الأغاخان وحدهم هم من عملوا فى تلك الفترة بصورة صحيحة؛ لذلك أشعر دائمًا أن قلبى يدمى بسبب وضع القاهرة التاريخى.

ولكن فى الوقت الحالى تم معالجة مشكلة المياه الجوفية والمجارى.. هل تعتقد أن المدينة باتت مهيأة سياحيًا.. وكيف تنظر أصلًا لفكرة السياحة؟

يجب أن نعترف أولًا أن مشاكل القاهرة كمدينة تاريخية لها إرث طويل، كحال معظم عواصم العالم الإسلامى، أعمق من فكرة وجود المياه الأرضية أو ترميم مبانيها من عدمه. أما من الناحية السياحية فمشكلة هذه المدن ثقافية بالدرجة الأولى، فالسائح المثالى فى العالم حاليًا هو السائح الغربى، والذى له نمط حياة مختلف عن الإنسان المصرى والعربى.

وهذان النمطان متعارضان، لدرجة أنه من الصعب على الإنسان الغربى أن يعيش بأسلوبه فى محيط عربى ومسلم، بدون أن يحدث بينهما تعارض أو خلاف، فلكل منهما أسلوب حياة مختلف عن الآخر.

وفأخلاق وطبيعة الإنسان المصرى والعربى عمومًا مختلفة مع طبيعة السائح الغربى وسيصطدمان لا محالة؛ لذلك أرى أنه من الصعب أن تصبح القاهرة مدينة سياحية بالمعنى الغربى للكلمة، لأن هذا يتطلب تغييرات عميقة فى طبيعة الحياة العامة والحرية الفردية والأخلاق والتصرفات لن يقبل بها المجتمع المصرى.

والمدينة العربية الوحيدة التى استطاعت أن تصبح مدينة سياحية وفقًا للمعنى الغربى للكلمة، هى مدينة دبى، وقبلها كانت بيروت كذلك. لأنها خلقت للسائح الغربى محيطا مشابها لمحيط حياته فى بلاده، مع أن الإنسان «الدبياني» (نسبة لمدينة دبي) مثل الإنسان المصرى لا يوافق على طريقة حياة الغربيين.

ولكن المدينة فى النهاية كممت الإنسان «الدبياني»، بحيث أصبح لا يملك القدرة على الاعتراض على التغيرات الهائلة التى شهدها محيطه، والذى ربما عاد بفائدة مادية كبيرة له. لكنى فى النهاية لست صاحب القرار داخل القاهرة، ولا أعرف هل الحل هو فرض الأسلوب الغربى ومنع الاعتراض عليه أم لا.

رغم أنك تراها مهملة إلا أنك تقول أنها ستظل قلب العالم الإسلامى.. هل هناك تعارض؟

لا ليس هناك أى تعارض.. فالقاهرة بالطبع هى قلب العالمين العربى والإسلامى، وعلى الرغم من الهجوم المستمر على الثقافة فى مصر منذ منتصف القرن الماضى، إلا أن القاهرة تظل أكبر مركز للإنتاج الثقافى فى العالم العربى ككل، لأن أعدادا كبيرة من الكتاب، والشعراء، والنحاتين، والفنانين، والمعماريين، المهمين على الساحة العربية نبعوا من مصر.

وبرغم ضخ الكثير من الأموال لصالح بعض البلدان العربية الأخرى لكن حتى الآن فغالبية الإنتاج الثقافى العربى إنتاج مصرى، وأعتقد أنه -حتى الآن- لم يزعزع أحد القاهرة كمركز، حتى وإن كانت هناك محاولات من بعض الدول.

وأما بالنسبة للعالم الإسلامى، فوجود الأزهر لا يزال يلعب دورًا مهماً بالنسبة للإسلام السنى فى العالم، ومصر لا تزال مركزًا للدراسات الإسلامية السنية فى العالم كله، وهذا ينعكس على العدد الهائل من الطلاب القادمين من مختلف بقاع العالم الإسلامى للدراسة فى الأزهر.

وهذا الدور المركزى قد وضعت أسسه فى العهد المملوكى عندما أصبحت القاهرة مركزًا لدراسة العلوم الإسلامية بسبب المدارس الكبيرة التى أسسها المماليك ودعموها بأوقاف هائلة.

تقول أنك تفكر بالأسلوب الغربى.. ما هو الأسلوب الغربى والشرقي؟

أولًا لا يوجد ما يسمى بالأسلوب الشرقى، هناك أسلوب معرفى غربى فقط، وذلك لأن المعرفة التى وصلنا إليها اليوم هى معرفة غربية أساسًا، وكل ما نقوم بدراسته أو ندرسه للطلبة هو نتيجة لمناهج تفكير غربى بالدرجة الأولى، وعلى الرغم من أن المعرفة تراكمية وقد جاءت من ثقافات مختلفة، قبل أن تستحوذ عليها الحضارة الغربية.

وإلا أنها تغربنت إن صح التعبير بفضل التقدم الهائل فى النظريات والتأويل ومنهجية البحث وأساليب الشرح والتفسير، والاستنتاج التى طورها الغرب فى القرون الأربعة الأخيرة. أما العكس فهو غير صحيح، فليس هناك معرفة إسلامية سائدة اليوم مثلاً. هناك تفكير إسلامى، وتفكير عقائدى عروبى.

ولكن ذلك هو مجرد وجهات نظر سياسية تعتمد أساسًا على المناهج المعرفية الغربية فى التعبير عن نفسها وفى تقديم آرائها وتحليلاتها. وأنا، مثلى مثل غيرى من ملايين الباحثين فى العالم اليوم، أستخدم المناهج والنظريات الغربية، لأنى أعيش ضمن محيطها؛ وبالتالى عندما أقول أننى أفكر على الطريقة الغربية فهذا معناه أننى أستخدم مناهج التفكير، ومناهج النقد الغربية.

إذن أين نحن من الثقافة العالمية؟

ونحن فى الحضيض، والثقافة العربية المعاصرة ثقافة قاصرة، ومنقوصة، وهى من وجهة نظرى ثقافة مهزومة، بل وتحاول التشبث بالحياة المنتجة ضد قوى أكبر منها بكثير، فأنا أرى أن وجود إسرائيل هو تحد كامل للثقافة العربية، وقد فشلت الثقافة العربية بدورها فى الاستجابة لهذا التحدي؛ لذلك أرى أنها ثقافة متخبطة.

وحتى الآن ليس لها أى مخطط بعكس الثقافة الإسرائيلية، وهى ثقافة حية وفعالة، بل ولها مخطط واضح، فداخل إسرائيل هناك مراكز للدراسات الإسلامية والعربية على أعلى مستوى، لكن نحن فى العالم العربى بأكمله لا يوجد عندنا سوى مركز واحد للدراسات الإسرائيلية؛ لذلك نحن لا ندرس هذه الثقافة.

والمواطن العربى بدوره لا يعرف سوى أنهم عدو وجودى، والبعض الآخر يعتبرهم أصدقاء، فالمواطن العربى بطبيعة الحال يتأثر بالدعاية السياسية حوله؛ لذلك قلت إن الثقافة العربية فى الوقت الراهن مهزومة، فقد هزمت عندما تقاطعت مع الحداثة.

وهزمت مرة أخرى فى صراعها مع إسرائيل، وهزمت فى صراعها مع الغرب، لكن هذا لا يعنى أنه لا توجد أضواء لامعة فى الثقافة العربية، فهناك أفراد فى كافة مناحى هذه الثقافة وصلوا لأعلى المستويات العالمية، لكن الثقافة بشكل عام فى الحضيض.

هل المشكلة الأساسية أصبحت فى اللغة العربية.. البعض يلقى عليها اللوم؟

ولااللغة العربية ليست السبب، فهى من أثرى لغات العالم، لكن رغم هذا فهى لغة فقيرة جدًا بالنسبة للفكر المعاصر، ومشكلتنا الرئيسية أننا لم نؤسس لمؤسسات فكرية ومعرفية، أتذكر أننا فى وقت من الأوقات كان عندنا أمل فى مجمع اللغة العربية، سواء فى بغداد، أو دمشق، أو القاهرة، لكن حاليًا أصبح وجودهم معدوما.

وهناك الكثير من المؤسسات التى أصبحت مهلهلة، أتذكر أنه فى ستينيات القرن الماضى كنا نملك مؤسسات جبارة، وكانت تترجم كافة المصطلحات الموجودة فى العالم، ويجب أن نعرف أنه ما من لغة فى العالم تكبر متكاملة، فهى تكبر مع الزمن، واللغة العربية فى الوقت الحالى لا تكبر بنفس المستوى التى تتوسع فيه اللغات الأخرى، فالعبرية على سبيل المثال فى سنة 1920 كانت تحوى بداخلها على ما يقرب من ال5000 آلاف مصطلح فقط.

وكانت لغة توراتية غير قادرة على الحياة؛ لذلك جاء اللغويون اليهود إلى فلسطين، وأضافوا للغة العبرية كمية هائلة من المصطلحات والمفردات، وأصبحت فى نهاية الأمر لغة حداثية، واليوم يمكن كتابة أبحاث علمية كاملة بالعبرية، بل وتكافح حاليًا لتصبح لغة عالمية، ومع أن إنتاجنا الثقافى العربى أكبر من الإنتاج الإسرائيلى بسبب من الاختلاف العددى وأولوية العربية فى الدراسات الإسلامية، إلا أن اللغة العربية رغم ذلك تفتقد للكثير من المصطلحات التى يتم تداولها فى الغرب.

وهذا الأمر سببه الكسل والترفع الساذج والاعتقاد بأننا «خير أمة أخرجت للناس» أو على النقيض بأن خلاصنا هو فى التماهى مع الغرب، وهو ما قادها فى النهاية لأن تصبح لغة متحجرة، مع أنها فى نشأتها كانت لغة منفتحة على ثقافات العالم كله. حتى أن القرآن نفسه يحمل فى لغته دلائل هذا الانفتاح. فمن يدرس القرآن من الناحية اللغوية يكتشف أنه مليء بالعبارات غير العربية.

وذات الأصول اليونانية، والفارسية، والسريانية، والهندية، ومثل هذه الدراسات تم مناقشتها منذ مئات السنين، وهذا الأمر معناه أن القرآن لم يمنع من استخدام كلمات غير عربية للتعبير عن نفسه، وهذا يدحض ما يدعيه البعض بقولهم أن القرآن قد جمد اللغة العربية.

وهذا غير حقيقى. ما جمدها هو تقاعس أبنائها وبناتها عن تطويرها، لذلك أعتقد أن المسلمين، الذين يدعون أنهم غير قادرين على تطوير اللغة العربية لأن فى ذلك تحديا للقرآن، مخطئون، لأن القرآن تحدى نفسه عندما استخدام كلمات من لغات أجنبية للتعبير عن معانيه الجديدة والمجددة.

ترى أن الكتابة باللغة العربية واجب.. نعم.. بالنسبة لمن هم مثلي؛ أى الذين عبروا لجسر الثقافة الأخرى، فأحد واجباتهم نقل ما تعلموه لهؤلاء الذين لم يستطيعوا عبور هذا الجسر، فواجبنا نقل هذا الفكر للعالم العربى، بما أننا أصبحنا جزءا من العالم الغربى.

وذلك لإتاحتها للمفكرين والمتعلمين العرب، لتطوير الفكر العربي؛ لذلك أعتقد أن مساعدة اللغة العربية على المقاومة، واجب من هم مثلى، وأنا أتعامل مع هذا الواجب بقدر كبير من المسئولية.

لننتقل لنقطة أخرى.. كيف تنظر للاستشراق والمستشرقين.. ذكرهم دائمًا أمر مربك داخل العالم العربى.. بل إن البعض يرى الاستشراق سُبة.. كيف ترى الأمر؟

كمؤرخ أنظر للأمر بطريقة تاريخية، فالثقافة الغربية وبسبب الثورة الصناعية، والجغرافيا، التى مكنتها من استعمار العالم، صارت قوية جدًا، بل وصلت الدول الأوروبية لحالة اقتصادية لم تصل إليها من قبل؛ لذلك أرادوا السيطرة على العالم، كجزء من فكرة «أريد أن أعرف كل شيء» والحضارة الإسلامية هى جزء من كل شيء.

ولذلك كان من الضرورى أن يتعرفوا عليها، ليسيطروا عليها بشكل أفضل، وهكذا أصبحت فكرة تمويل الدراسات المتعلقة بالثقافات الأخرى جزءاً من سياسات الدول، ونشأت طبقة المستشرقين المحترفين الذين يدرسون الثقافات الإسلامية المختلفة.

وهى فكرة جديدة نسبياً نشأت مع التوسع الغربى. فقبل عصر النهضة مثلاً، لم يكن فى أى دولة داخل أوروبا أقسام أو معاهد لتدريس اللغات الشرقية، أو الثقافات الشرقية عموماً. والأمر كذلك فى كل الثقافات المنتصرة على مر التاريخ، فنحن نتفخر جميعًا بدار الحكمة، ودار العلم، اللتين أنشأهما العباسيون لترجمة الثقافة الفارسية، واليونانية، والهندية، ونقلهما للعربية فى لحظة الأوج الثقافى الإسلامى فى القرن التاسع للميلاد.

ومع عصر النهضة فى أوروبا صارت كل مدينة أوربية مهمة، تملك ما يقرب من ال10 أقسام لدراسة الثقافات المختلفة؛ وقد كان الهدف من إنشائها السيطرة على الثقافات الأخرى؛ لأجل السيطرة الكاملة على بلدانها.

ولكن هذا لا يعنى أن كل المستشرقين عملاء. فالعديد منهم جاءوا لدراسة ثقافات الشرق، لأنهم كانوا بالفعل مهتمين بدراستها والتعرف عليها. وهم طبعاً قد استفادوا من المعاهد التى وفرتها لهم بلادهم، وقد جرى تجنيد البعض ليكونوا عملاء لخدمة مصالح دولهم، والبعض منهم أرادوا دراسة الثقافة الإسلامية بسبب حبهم لها؛ لذلك يجب أن نفرق بين الاتجاهين.

ولكن يجب علينا دوماً أن نتذكر أن المحيط الذى أنشأهما معًا كان محيطًا استعماريًا، كما ذكرنا إدوارد سعيد فى دراسته الرائدة عن الاستشراق؛ لذلك أرى أن الاستشراق قدم خدمات هائلة للثقافة الإسلامية، وقدم فى نفس الوقت خدمات هائلة لخدمة الاستعمار الغربى.

بما أنك تحدثت عن الاستعمار الغربى.. فى كتابك «عمارة المدن الميتة» قمت بوضع نابليون بونابرت فى مقارنة مع داعش.. لماذا؟

لأن نابليون دائمًا ما يقدم لنا فى التاريخ باعتباره شخصية مثقفة ومتعلمة، أدخلت قوانين جديدة، فهو يوصف بكونه داعما للعلم والتعليم، لكنى أعتبره شخصا مدمرا، دمر أكثر مما بنى، فعندما دخل مصر، كان ينظر للمصريين نظرة دونية مريعة، وكان يراهم لا يستحقون المحافظة على آثارهم.

وبما أنه شخص اعتبر نفسه «متحضرًا»، فقد سمح لنفسه بسرقة ما يريده، وأغلب محتويات متحف اللوفر الفرعونية اليوم تمت سرقتها من مصر عام 1801؛ أى عندما خرج الفرنسيون من مصر، وكانوا يكسرون مثلًا الأشياء التى تبدو لهم غير مهمة ويسرقون الأشياء التى يعتقدون أنها مهمة؛ لذلك نابليون لم يختلف عن داعش، فداعش هربوا الآثار الثمينة.

أما ما دون ذلك فقد كانوا يدمرونها باعتبارها أصنامًا، ونابليون بدوره استغل فكرة أنه شخص روج له بالتحضر، حيث زعم أنه بذلك سينقذ الآثار، أما داعش فكان منطقهم أن تدمير الآثار دليل على تمسكهم بتعاليم الإسلام، لكن فى النهاية أرى أن كلا الأمرين ما هما إلا مبررات أيديولوجية لسرقة الآثار؛ ولذلك وضعتهم فى مقارنة.

كيف تعاملت مع سرقة وتدمير التراث والآثار السورية بعد الثورة؟

انكسرت، وهزمت، أنا إنسان مفجوع بسبب ما حدث فى سوريا، ومفجوع لدرجة أننى لحد كبير فقدت الأمل، أشعر دائمًا أن قلبى انكسر، كنت أتمنى فى البداية أن تنجح الثورة، لكنى فجعت بما حدث، ففكرة الوطن السورى أعتقد أنها أزيلت من الوجود.

أخيرًا.. اختيارك للسفر خارج سوريا هل تعتقد أنه الخيار الأفضل، وهل كانت تجربة تستحق؟

أظن أنه أفضل قرار اتخذته فى حياتى، وهو نابع من ظروف العالم العربى التى دفعت العديد من الشباب للهجرة للتفتيش عن حياة أفضل أو محيط أكثر حرية وانفتاحًا كما كان الحال معى. ولكنى وعلى الرغم من وجودى فى الولايات المتحدة منذ 42 عاما، أشعر أننى لست أمريكيًا 100% ولن أكون، فهويتى العربية متجذرة فى.

ولا أستطيع التخلى عنها، لكن على صعيد المعرفة وعلى صعيد تقديم ما لديّ للعالم أعتقد أن الهجرة إلى الغرب كانت أفضل قرار اتخذته فى حياتى، لأنى بدونه لما حصلت على المعرفة التى وصلت إليها، ولا أقصد هنا ما أعرفه، لكن كيف أعرف وكيف أمارس المعرفة التى اكتسبتها.

اقرأ ايضاً | طارق النعمان يكتب: تقنيات الرواية.. حساسية نصية وإحكام بنائي

 

 السيرة الذاتية لد. ناصر الرَّباط

مؤرخ ومعمارى سورى ولد عام 1956م أستاذ كرسى ومدير «برنامج الآغا خان للعمارة الإسلامية» فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا فى الولايات المتحدة الأميركية.

حاصل على دكتوراة فى العمارة الإسلامية من «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT»، وماجستير فى الطاقة الشمسية والعمارة من جامعة كاليفورنيا UCLA، وبكالوريوس الهندسة المعمارية من جامعة دمشق.

نالت أطروحته للدكتوراة بعنوان «تاريخ قلعة القاهرة منذ تأسيسها وحتى القرن الخامس عشر» جائزة «كير» لأفضل أطروحة دكتوراة فى العلوم الإنسانية لعام 1991 والتى تمنحها «جمعية دراسات الشرق الأوسط».

عضو اللجنة التوجيهية ل«جائزة الآغا خان للعمارة».

نشر العديد من الأبحاث المحكمة فى عدة لغات والعديد من المقالات حول تاريخ وثقافة العمارة الإسلامية مع التركيز على الفترات الأيوبية والمملوكية،  وموضوعات الحداثة فى العالم العربي، وتاريخ العمران القروسطي، والاستشراق، وتاريخ القاهرة فى القرن التاسع عشر بالإضافة لاهتمامه فى دراسة آلية البحث التاريخى نظرياً ونقدياً، من منظور الدراسات ما بعد الاستعمارية والاستشراق، ودراسة أحوال المواطنة والمجتمع المدنى فى الوطن العربى.

من مؤلفاته العربية: «عمارة المدن الميتة: نحو قراءة جديدة للتاريخ السوري» عام 2018، «تدمير الإرث الثقافي: من نابليون إلى داعش» بالاشتراك مع باميلا كريمي، «النقد التزامًا نظرات فى العروبة والتاريخ والثورة»، «ثقافة البناء وبناء الثقافة: بحوث ومقالات فى نقد وتاريخ العمارة 1985 و2000»، «المدن الميتة».

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة