مؤمن خليفة
مؤمن خليفة


يوميات الأخبار

مؤمن خليفة يكتب: البعيد عن العين.. بعيد عن القلب

مؤمن خليفة

الإثنين، 27 مارس 2023 - 08:40 م

 

الصداقات أصبحت في خطر فقد يغيب عنك صديقك فلا تسأل عنه فهو صديقك طالما هناك مصلحة بينكما أو شراكة فى مشروع ما

فى مطلع الستينيات كان لنا عمة تسكن فى منطقة المرج.. كانت زيارتها محفوفة بالمخاطر.. فهى تقيم فى منطقة نائية حيث يختفى العمران وتتباعد البيوت.. المكان مقفر ومظلم ليلا لكنها تمتلك مساحة شاسعة فقد كان فناء بيتها أقرب إلى ملعب كرة قدم صغير وفى نهايته غرفة متسعة لتربية الماعز وأخرى لتربية الدجاج.. كان زوجها رحمة الله عليه يعمل فى حرس الحدود وكان يتركها وإبنها الصغير فى البيت بمفردهما.. أتذكر أن والدى رحمه الله كان حريصا على زيارتها كل أسبوعين تقريبا حاملا لها الدقيق والسكر والزيت.. لم يثنه عن زيارتها أى طارئ وكان حريصا على هذه الزيارة سواء هو أو أحد أشقائه. كان الجد يعتبر أن عدم التودد إليها والحرص على زيارتها جريمة.. رحمه الله كان يردد عبارة شهيرة لم أكن أفهم معناها لصغر سنى «دى لحمنا.. مين حيسأل عليها غيرنا».. كان أبي هو المسئول أمام أبيه عنها.. وكانت الحياة بسيطة ولديها اكتفاء ذاتى من كل شئ فى بيتها وكانت حامدة شاكرة لا تشكو من شئ أو تطلب شيئا من أحد.. كان الوصول إليها صعبا للغاية ولم تكن المواصلات متوفرة مثل اليوم وكنا نبدأ رحلتنا إليها بعد آذان الفجر لنصل إليها قبل آذان الظهر ونجلس عندها لنغادر بيتها بعد العصر بقليل والا لن نجد مواصلة تعود بنا إلى بيتنا !

أكتب هذه المقدمة لكى نعرف الفرق بين اليوم والأمس البعيد وكيف كان الأمر صعبا جدا فى تلك الأيام ورغم ذلك لا أذكر أن أبي أو أشقاءه تخلوا يوما عن زيارتها أو قصروا يوما فى حق شقيقتهم.. اليوم اختفت الرحمة من القلوب ولم يعد أحد يقوم بزيارة أهله أو أقربائه أو أصدقائه.. فقط رسالة على المحمول إذا فكر أحد فى كتابتها.. صديق عزيز لى يشكو من عزوف شقيقه الأصغر عن زيارته فى حين أنهما يسكنان فى شارعين متجاورين ويقول لى بحسرة : لأننى الأكبر فأنا مضطر لأن أقوم بواجبى تجاهه وأخشى حينما يتوفانى الله أن يقاطع أولادي عمهم الوحيد.. طبعا كلام الرجل صحيح فهناك عائلات لا يعرفون بعضهم خاصة أبناء العم والعمات والخالات بعد وفاة كبار العائلة وهذا واقع للأسف الشديد موجود كظاهرة طبيعية فى الأسرة المصرية .

انقطاع الزيارات بين الأهل والأصدقاء يخلق جفاء بين الأجيال الجديدة وقد يمر عام كامل وهم لا يلتقون إلا فى المناسبات والأعياد حتى أننا لم نعد نتذكر أسماء الشباب من عوائلنا أو حتى نتعرف على وجوههم.. وإذا كان هذا يحدث فى النطاق الضيق للأسرة المصرية فما بالنا بالأصدقاء.. لم يعد التعارف بيننا الا عن طريق الفيسبوك والواتس آب ونكتفى برسائل محبة مزيفة جاهزة ومعلبة فى المناسبات الدينية مثل شهر رمضان والأعياد.. نختزل كل الذكريات فى بوستات على الفيس وكفى حتى أن كثيرا من العائلات اكتفت بقبول العزاء عن طريق الواتس إلا نفرا قليلا من الناس فى الريف الذى غزته تلك الظواهر الغريبة علينا ويدخل رويدا رويدا ليحذو حذو المدينة فى قسوتها على البشر.

الصداقات أصبحت فى خطر فقد يغيب عنك صديقك فلا تسأل عنه فهو صديقك طالما هناك مصلحة بينكما أو شراكة فى مشروع ما.. غابت قيم الصداقات بمفهموها الذى نعرفه ومعناها الأشمل على مستوى العلاقات الإنسانية رغم تعاظم وسائل التواصل بين البشر من مواصلات تنقل ميسورة والحجة أن الحياة أصبحت صعبة وهى حجة واهية كثيرا فلا الزمن تغير لكن البشر هم من تغيروا وطغى عليهم شكل جديد والصورة التى طرحتها فى بداية المقال لم تعد موجودة تماما رغم أنك تستطيع التواصل الآن مع أى شخص عبر الفيسبوك والواتس على سبيل المثال ويرد عليك فى نفس اللحظة وتستطيع أن تخاطبه بدون أن تتكلف شيئا سوى امتلاك جهاز محمول وهو فى كل الأحوال يتواجد عند معظم الناس . من أوصلنا إلى هذه القطيعة ؟

من فضلك لا تقل لى أن الحياة أصبحت صعبة.. هى على الكل فالكل يعانى والكل منشغل بالبحث عن رزقه لكن المولى يقول لنا فى كتابه العزيز أن رزقكم آت فهو مكتوب عند الرحمن.. فقط عليكم بالسعى وستجدونه غير منقوص وكما كتبه الله لك.. يحزننى قصة ذلك الأب الذى ناشد ابنته أن تأتى بأخيها لزيارته.. كتب لها على فيسبوك أنه يشعر بالموت لكن قلبها لم يرق فلم تذهب لزيارته أو تكلف نفسها بالرد عليه فمات حزنا وكمدا.. ما هذا الجحود ونكران الجميل لأب عاش فى غربته بالدولة الخليجية 22 عاما يضع الدينار فوق سابقه ليدخر لأسرته حياة كريمة تقيهم شر العوز والحاجة وعندما عاد إلى أسرته اكتشف أن الزوجة خلعته بعد أن استولت على مدخراته.. أكثر من مليونى جنيه وسيارة بنصف مليون فعاد هذه المرة غريبا فى بلده.. ما أشد هذا على أى إنسان.. من لم يذق طعم الغربة فى بلاد بعيدة لن يدرك مطلقا وطأة الأيام ولن يشعر أبدا بشعور من خرج يسعى لأولاده وزوجته وحيدا تمر الأيام والليالى عليه بطيئة يبكي وحيدا مرارة الأيام.. هكذا اختصر هذا الأب رحلته ليموت وحيدا أيضا فى بلده . نحن بأيدينا من يصعب عليه حياته ونحن من نختار ونحن من نبحث عن أعذار لكى نبرر أخطاءنا كأن أهالينا السابقين لم يكن يملكون أى أدوات للاتصال مثلما نحن الآن ومع ذلك كانوا يهتمون بالتواصل بينهم من خلال الزيارات وكان من يملك خطا أرضيا يعتبر من علية القوم.. وكان من يمتلك جهاز التليفزيون يدعو جيرانه للفرجة عنده.. ذهبت أيام البركة إلى غير رجعة إلا من رحم ربى حتى جاءت أيام كورونا لتزيد الطين بلة فقد منعت التواصل تماما بين الأهل والجيران وإن كان ذلك كان ضروريا لتفادى انتقال العدوى بالفيروس فقد عمقت «جرح التواصل» أكثر وخلقت هوة جديدة بين العائلة الواحدة.

من فضلكم انتبهوا لما يجرى.. البعيد عن العين بعيد عن القلب.. الأسرة المصرية تتعرض لفيروس قاتل اسمه «جفاف المودة».

سحر وندى «سعيد الخولي»
فعلا الدنيا اتغيرت.. ما كان موجودا فى هذا الزمان أصبح فى غياهب التاريخ كأنه لم يكن.. فى كتابه الرائع «سر الندى وسحر الميتافيرس» يقدم الأديب والصديق سعيد الخولى «نعكشة» فى ذاكرة الأيام الخوالى فيتفق معى تماما فيما بدأت به هذه اليوميات.. بل يتفق معنا الشاعر الكبير فاروق جويدة الذى بلسانه يقول.. لا أنت أنت.. ولا الزمان هو الزمان .

فعلا تغيرت الأحوال وكلما قرأت لسعيد الخولى أشعر كأننى أقترب من عالم الأديب الكبير الراحل محمد عبد الحليم عبد الله وهو للمصادفة من أبناء البحيرة بقرية كفر بولين كما سعيد الخولى من البحيرة من قرية نكلا العنب وهى القرية التى أنجبت الشيخ محمد الغزالى والدكتور أحمد جويلى وزير التموين الأسبق رحمة الله عليهما .يأخذنى سعيد إلى الماضى القريب.. ليس بعيدا عن أيامنا هذه.. أيام عاشها بين قريته ومقامه فى حى شبرا العريق يحكى عن أهل قريته وأقاربه الذين نزحوا منها إلى شبرا المحطة الأولى للقادمين من محافظات بحري ومكان مفضل لهم فى الحياة بالعاصمة.. يقول سعيد: هذه الحكايات ليست من الخيال بل معظمها من بنات الواقع عايشت شخوصها وأدركت معظم أحداثها ووجدت فى واقعها ما يفوق خيال أغلب المؤلفين. إنها يوميات زمن عشته وحكايات قدرية امتزجت فيها الصدف بالمواقف الغريبة أحيانا لتكتب فصولا حقيقية لم يدرك أصحابها أنهم كانوا خلالها مدفوعين رغما عنهم إلى أقدارهم التى تنوعت بين التعاسة والسعادة وبين البؤس والنعيم وبين الشقاء وراحة البال، وبين الحركة الدائبة والسكون المميت.

يضيف سعيد الخولى: أن الحياة كانت يسيرة وكانت «اللمة» هى الشكل الأساسى فى الريف كما كانت فى المدن وخاصة فى الأحياء الشعبية: كانت ليالى الرى بالراحة من ليالى الترفيه والمتعة لمن يقوم برى الأرض وفى الغالب كنا نحن الشباب من نقوم بهذه العملية حتى ننجز رى القطعة الملاصقة للترعة من أرض العائلة التى تخصنا. ويضيف: كان أجمل ما فى أمسيات الرى هو اجتماع فروع العائلة الثلاثة أبناء وأحفاد :رشاد والحاج عبد السلام وعبد المجيد، فقطع أراضيهم متجاورة فى كل الأحواض الزراعية بقريتنا: «البحر والغوالق والشريف والدماير».

وفى شبرا.. انتقلت الصورة من نكلا العنب فيحكى المؤلف قائلا: وكلما نعكش العقل فى جدار الذاكرة تساقطت منها شذرات تمثل مجمل العمر وأوراقه الخضراء والذابلة والمثمرة والجدباء.

ولا يسقط منها أبدا تلك الحكايا التى تتردد كلما ترددت حكمة أن الخال والد، نعم هو والد نسبا وصفات عقلية وجسدية تتوزع فى أبناء الأخوات دونما إرادة منهم رفضا أو قبولا، سواء كان بالفعل أبا أم حاملا للصفة فقط.

الخال الأكبر الذى عاصرته وعايشته أكثر عن قرب هو واحد من حكايا العمر التى لا تنمحى من ذاكرة كثيرين أخذ بيدهم وانتقل بهم إلى عالم جديد من عمق الريف إلى المدينة أو حتى من المحروسة إلى بلاد الله الواسعة..خالى صلاح قنديل رحمه الله هو من أعنى.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة