صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه


مسعود شومان يكتب: نقل لنا النظريات ودون تشنج ودون نرجسية بليدة

أخبار الأدب

الأحد، 09 أبريل 2023 - 08:06 م

أتذكر حين كنت شابا متمردا لا يملك من الحكمة سطرا، ويظن أنه الشاعر المفارق الذى تجاوز كل سابقيه، فى هذا الوقت كنت فى السنة الأخيرة بالكلية، وقد أعلنت وزارة الثقافة عن مسابقة تحت عنوان «نحو إبداع مصرى أصيل»، وتقدمت لها وفازت قصيدتى وكانت المكافأة ذهاب الفائزين إلى مؤتمر أدباء مصر، وقد كان، كانت فرحتى عارمة بهذه الفرصة التى أتاحت لى التعرف على أساتذة كبار فى المؤتمر الرابع الذى انعقد على أرض رأس البر عام 1988، وهناك تعرفت على السيد إمام الناقد المغامر الذى أبدى إعجابه هو وصديقه الذى لا يفارقه الشاعر صلاح اللقانى ومنذ هذا التاريخ تعمقت علاقتى بالسيد إمام المثقف المصرى الكبير، والملاحظة الجلية التى رصدتها أننى أمام شخصية عميقة الثقافة.

لا تقبل الإبداع التقليدى، وتنتصر لكل إبداع مفارق، متمرد على الأعراف المستقرة، وترفض النمذجة، فضلا عن امتلاكه للحس الساخر والنقد اللاذع الجرىء، الأمر الذى أرق كل من استسلم للكتابات المطمئنة التى «تطبل فى المتطبل».

وكما كان يؤمن بما يكتبه الشباب الجديد من إبداعات لا تستسلم للحدود بين الأنواع، لذا كانت دعوته لى ومجموعة من أقرانى لدمنهور لنتحدث عن رؤانا ونقرأ قصائدنا فى سن مبكرة وقبل أن تعترف بنا المؤسسات الثقافية.

ويحتاج السيد إمام وتجربته قراءات وشهادات متعددة لأنه ليس مجرد مترجم مصرى عظيم، استطاع نحت مشروعه الكبير دون أن تدعمه مؤسسة سوى مؤسسة ذاته وانحاز لاختياراته ليؤسس لنفسه معمارا على هواه.

ووهو ككل البنائين المصريين العظام بنى لنا جسراً يربطنا بمعارف ورؤى وتصورات الغرب النقدية والحضارية، كما استطاع أن يذيب حواجز اللغة والجغرافيا، ففتح الحدود الإبداعية على عوالم كانت مجهولة لنا، فإذا تأملنا اختيارات السيد إمام للكتب التى ترجمها ستؤكد على انحيازه للحداثة.

وما بعدها، أى أنه عنى بتعميق معارفنا حول النظريات الحديثة للأدب، فاختيارته إذن لم تكن محض صدفة أو رمية بغير رام، لكنها مبنية على إلمام معرفى يدرك اللحظة التاريخية ومجرياتها وإنتاجها فى الثقافات الأخرى.

وباختصار لقد وصل بنا للشاطئ الآخر عبر جسر حريرى، دون معاظلات ودون تشنج ودون نرجسية بليدة نلمحها كلما طالعنا بعض الترجمات التى تشعرنا أننا أمام معجزة بلا نبى، لقد أتاحت ترجمات المترجم الكبير السيد إمام حدائقها أمام كل راغب فى المعرفة، لينهل منها المحب والأكاديمى والمبدع الذى لا يركن للنمذجة أو النصوص الساكنة البليدة.

ولقد رحل صاحب جزء عظيم من تاريخنا الثقافى تاركا نصف قرن تقريبا من العطاء النقدى والإسهامات العظيمة فى مجال الترجمة منها: الشعرية البنيوية وأقنعة بارت لجوناثان كلر الميتافكشن، باتريشيا ووه - ألف ليلة وليلة أو الليالى العربية، لأورليش مارزوف وريتشارد فان ليفن- تعليم ما بعد الحداثة، المتخيل والنظرية لبرندا مارشال – العولمة، نص أساس لجورج ريتزر، وقاموس السرديات لجيرالد برنس قاموس - تحولات الخطاب النقدى للمفكر المصرى الأمريكى إيهاب حسن - الخروج من مصر مشاهدات ومجادلات من سيرة ذاتية لإيهاب حسن - النقد النظير سبعة تأملات فى العصر، وغيرها، فضلا عن عدد هائل من الدراسات النقدية التى أتمنى أن تُجمع لتكون بين دفتى كتاب يخرج لنا ما كتبها من قصص، وما ترجمه متفرقا من مقالات ودراسات ونصوص.

وخمسون عاما أو يزيد، يؤسس ويبنى تجربته العظيمة، ليصير بنيانا شاهقا، حيث لم يركن للترجمات البليدة، أو ترجمات للاسترزاق، بل ظل يعمل كالنساك فى ترجمة ما يتصل بالكتابات النقدية الحداثية والتى لا تحتاج مترجما فحسب لكنها تحتاج إلى لغوى ومثقف كبير.

وفضلا عن الوعى بحاجتنا المعرفية إلى هذا النوع من الترجمات، والمتأمل لاختياراته سيتوقف طويلا أمام الوعى الكامن وراء توجهه نحو تيار الحداثة النقدية فضلا عن الكتابات المعرفية المتعلقة بتراثنا.

وفى هذا السياق أقام سيد إمام جسورا عظيمة البنيان حين نقل لنا إسهامات المنظر الأمريكى ذى الأصل المصرى، إيهاب حسن، وهو واحد من كبار المنظرين لتيارات نقد ما بعد الحداثة، فتصدى إمام لهذه الترجمات يعكس وعيا عميقا بهذه التيارات، فضلا عن نقل لغتها المركبة دون تعاظل ودون ارتباكات جلية نراها فى عدد من ترجمات نظريات الحداثة وما بعدها.

السيد إمام اختار دمنهور بعيدا عن هيمنة القاهرة وبالرغم من ذلك كان حضوره كبيرا فى المحافل الثقافية، فهو أحد المبشرين بالنصوص الجديدة، والمبدعين الذين يملكون وعيا خاصا، فقد تبنى عددا كبيرا من المبدعين فى دمنهور وكان تأثيره جليا على تجاربهم، فضلا عن مشاركته الفاعلة والمؤسسة فى مؤتمر أدباء مصر فى الأقاليم الذى لم يكرمه حتى رحيله، فلو تتبعنا أثر السيد إمام على تغيير الذائقة النقدية فى كيفية مقاربة النصوص وكيفية تلقيها ودوره فى التنقيب عن المبدعين الذين يدركون أن الإبداع ليس تكرارا ولا مجرد إثبات وجود، لكنه شهادة تواجه القبح والتكلس وتقتحم الأفكار السكونية والنصوص المنمذجة.

سيرة السيد إمام لم تكتب بعد، ولن تكتبها ترجماته فحسب،ولا الببليوجرافيا الخاصة بإنجازه الثقافى، لكنها تحتاج لجمع نصوصه القصصية، والمسرحية ومقالاته النقدية، فضلا عن شهاداته ورؤاه، وما قدمه من حيوات زاخمة بالتمرد الواعى، والأفكار الجسورة التى لا تقنع بالاعتيادى.

ولكنها تتوق للجديد الذى يفجر السطور والحروف والأفكار، الأمر الذى جعل من السيد إمام علامة حاضرة فى معبد الجدية والمفارقات المدهشة، والأفكار التى تهدم الأرواح المتكلسة والنصوص المسكونة بخرافات القبيلة.

ولقد كان السيد إمام أحد كبار المحرضين على الكتابة الحداثية التى لا تستسلم لغوايات الشكل ولا تركن لمضامين قتلها الكتاب من قبل، وهذا سر من أسرار ترجماته وانحيازاته لعدد من الكتاب ورؤاهم التى ستدفع الحياة الثقافية والنقدية للخروج من أسر تراثنا النقدى. 

إنه أيقونة محبة وحديقة ثقافة وجسر معرفة فضلا عن النبل الإنسانى والدور الذى لعبه فى حركة الثقافة المصرية بشكل عام وعلى أرض البحيرة على وجه الخصوص فمنه إلى الأرض التى عاش عليها فأحبته البحيرة، وقد سعدت بتكريمه فى برنامج العودة للجذور مع نخبة من الأدباء والزملاء، وأهديته قصيدة، هذا جزء منها:

«سيد إمام صاد اللولى.. والمعنى ع الشط التانى.. والصيادين اللى قالولى.. اصطادوا من قلبه معانى.. شكلتها أرابيسك وعاج.. والحرف خدنى أسر روحى.. الصيادين ركبوا الأمواج.. وأنا قلت ألملم فى جروحى.. سيد إمام قال يابحيره.

وكان فيه حبايب واتاخروا.. ليل الهموم قال للحيره.. والله الوجع زاد على أخره.. سيد إمام فى القول صياد.. اتجمعوا حواليه الأولاد.. وغنوا غنوه معشوقه.. لو سمعك النيل حن وزاد.. والله يا سيد ليك شُوقه». رحم الله السيد إمام المترجم والمفكر والناقد والمثقف العضوى الذى ترك مع كل من قابله حكاية عميقة لن تفنى برحيل جسده.

اقرأ ايضا ً| مصريون فازوا بجائزة الملك فيصل.. «حجازي» فاز في فرع اللغة العربية والآداب 2019

نقلا عن مجلة الادب 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة