قبة الصخـرة
قبة الصخـرة


رمضانيات l هل «قبة الصخرة» بديلة للكعبة؟

آخر ساعة

السبت، 15 أبريل 2023 - 12:37 م

حسن حافظ

يقول إبليس: قبة الصخرة بُنيت لكى تكون بديلا للكعبة المشرفة، وبغرض نقل الحج من مكة المكرمة لمدينة القدس فى العصر الأموى، وأن الأمويين فى صراعاتهم السياسية حاولوا نقل الوجهة الدينية للمسلمين باختراع مكانة دينية لمدينة القدس التى لا أهمية لها، ولا تمثل أى شيء للمسلمين، وأن كل الأمر مجرد خدعة من الأمويين توارثها المسلمون بلا وعى حتى أصبحت القدس لها مكانة دينية فى نفوسهم، لذا يجب تصحيح هذه الأكذوبة والتخلى عن القدس لأنها لا تمثل أى شيء للمسلمين.

مثل هذا الكلام يتردد بين الحين والآخر، وهو يزيد مع محاولات قوات الاحتلال الإسرائيلى تهويد مدينة القدس والقضاء على المقدسات العربية الإسلامية والمسيحية، ويردد بعض العرب هذا الكلام بلا وعى فى خدمة لخطاب تهويد المدينة، واتباعا لبعض آراء المستشرقين دون وعى ومحاولة الرد وفهم السياق التاريخى الذى يثبت كذب هذا الادعاء ويبين تهافته أمام النقد التاريخى، فالوقائع تثبت عكس ما يقال، وتكشف عن خبث محاولات تشويه الأمويين.

بدأت شائعة أن عبدالملك بن مروان بنى قبة الصخرة لينقل الحج من الحجاز إلى الشام من عند المؤرخ الشيعى اليعقوبى فى تاريخه، إذ يقول: "ومنع اأى عبد الملكب أهل الشام من الحج إلى مكة، وبنى قبة الصخرة فى بيت المقدس، وعلّق عليها ستور الديباج، واستقدم لها سدنة، وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها، بدلا من الكعبة، وأقام الناس على ذلك أيام بنى أمية". 

مجرد اختلاق

نقل عدد من المؤرخين هذه الرواية دون نقد أو تمحيص أمثال ابن كثير وابن تغرى بردى، وزادوا من عندهم أن سبب بناء قبة الصخرة هو الصراع السياسى بين عبدالملك بن مروان وعبدالله بن الزبير، إذ أعلن الأخير خلافته فى مكة وامتد نفوذه إلى العراق ومصر فضلا عن الجزيرة العربية، قبل أن يستطيع عبدالملك بن مروان مواجهته والانتصار عليه وحصاره فى مكة ثم قتله، وقيل إن ابن الزبير عندما كان يسيطر على مكة كان يخطب فى مواسم الحج فيذكر مساوئ الحكم بن أبى العاص بن أمية، جد عبدالملك، وأن الحكم طريد الرسول ولعينه، فمال أهل الشام لقول ابن الزبير، ومن أجل ذلك منع عبدالملك بن مروان حج أهل الشام، فلما ضجوا وطالبوا بفتح الطريق للحج، بنى لهم عبدالملك بن مروان قبة الصخرة، ليشغلهم عن الحج، ويطوفون حولها، وينحرون يوم العيد عندها.

وهذه القصة من بدايتها لنهايتها مجرد اختلاق، لأن لو صح هذا الفعل عن عبدالملك بن مروان، فأين رد فعل صحابة رسول الله والتابعين معهم والصالحين من المسلمين وجماعات الزهاد؟ ولماذا لم نسمع عن أى رد فعل منهم فى أى مصدر تاريخى ينكر على عبدالملك بن مروان ما فعل؟ هل من الطبيعى أن يسكتوا جميعا ولا ينقل عن أىٍ منهم ولو مقولة ترد على محاولة نقل الحج، وهو أصل من أصول وأركان الإسلام؟ فلو فعل عبدالملك ما فعل فعلا لكان ذلك كفرا وضلالا بعيدا، ولوجد من يرد هذا الفعل من بقية صحابة رسول الله والتابعين، فصحابىٌ فى قامة عبد الله بن عمر بن الخطاب كان حيًا عند بدء المشروع المفترض لعبدالملك بن مروان، فهل عبد الله بن عمر شخصية يمكن أن تسكت عن هذه الواقعة التى تعد انحرافا صريحا عن أصول الإسلام ومخالفة واضحة لركن من أركانه؟

غير  المعقول!

فلا يمكن أن يُتصوَّر أن شخصية بحجم ابن عمر ستسكت عن هذا الفعل، وهو أمر يتفق فيه الصحابة الذين امتد بهم العمر إلى هذه اللحظة، فضلا عن التابعين أمثال سعيد بن المسيب الذى لم يكن يخشى فى الحق لومة لائم، فعدم وجود أى رد فعل على هذا الخبر أكبر دليل على أنه مجرد أكذوبة روّجت لها الروايات الشيعية التى تريد النيل من الأمويين ومن سمعتهم، فى إطار الصراع التاريخى بين العلويين والأمويين، وهو ما استمر مع انتصار العباسيين الذين أسقطوا خلافة الأمويين وأقاموا خلافتهم، فكان من مصلحة العباسيين الاستثمار فى مثل هذه الاتهامات الباطلة للنيل من سمعة الأمويين على الدوام وتشويه فترة حكمهم، الأمر الذى يجعلنا نتناسى أحيانا دور الأمويين فى بناء الدولة العربية الإسلامية وتوسيع رقعتها وتثبيت أركانها.

لكن للأسف ظلت مثل هذه الروايات اللقيطــــة تتـــــردد حتـــــــى تلقفها تيار الاستشراق وعمل على إذكاء نارها، ومن أهم المستشرقين الذين رددوا هذه المزاعم، المستشرق المجرى جولدتسيهر الذى يعد أحد أكبر المستشرقين الأوروبيين في القرن العشرين، الذى زعم أن الخليفة الأمـوى عبدالملك بن مروان منع الناس من الحج أيام فتنة عبدالله بن الزبير الذى أعلن خلافته فى مكة المكرمة، فبنى عبدالملك بن مروان قبة الصخرة فى المسجد الأقصى ليحج الناس إليها ويطوفون حولها بدلا من الكعبة، ومن أجل تأكيد المكانة الدينية لقبة الصخرة، أوعز إلى الفقيه ابن شهاب الزهرى بوضع أحاديث ينسبها إلى النبى (صلى الله عليه وسلم)، تؤكد على أهمية المسجد الأقصى كله، ومنها الحديث النبوى الشهير "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجدى هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى"، وحديث "الصلاة فى المسجد الأقصى تعدل ألف صلاة فيما سواه". وأن الزهرى كان صديقا لعبدالملك بن مروان فوضع هذه الأحاديث النبوية لخدمة مشروع الخليفة السياسى.

حقيقة الأمر

لكن الكثير من الأخبار ترد عن ابن شهاب الزهرى تكشف، على العكس من ذلك، أنه كان شديد الهجوم فى مواضع على الخلفاء الأمويين عندما يخالفون المبادئ الإسلامية. كما أن الزهرى عندما قُتل عبدالله بن الزبير سنة 73 هجريا، لم يكن قد تجاوز 22 عاما، فلم يكن بلغ بعد موضع العلماء الكبار الذين يُسمع لقولهم، كما أن أول مرة رأى فيها الزهرى الخليفة عبدالملك كانت سنة 82 هجريا، أى بعد مقتل ابن الزبير وسيطرة الأمويين على مكة وعودة مواسم الحج بنحو 10 سنوات كاملة، والأهم أن الحديث الخاص بشد الرحال ذكرته كتب الحديث المعتمدة عن رواة من غير طريق الزهرى، أى أن هناك العديد من الأشخاص الذين عرفوا هذا الحديث من جيل الصحابة والتابعين بما يحسم ويجزم بأن الحديث لم يضعه الزهرى، بل رواه عن طريق أستاذه التابعى الجليل سعيد بن المسيب.

كما أن منطق تلك الأحاديث النبوية فى مفرداتها يركز على المسجد الأقصى وليس قبة الصخرة، فما الحاجة لبناء قبة الصخرة إذن والدعاية للمسجد الأقصى؟ فلو أراد الخليفة عبد الملك بن مروان تأليف أحاديث نبوية لكان الأولى أن يضع أحاديث تتحدث عن فضائل قبة الصخرة والحج إليها الذى يساوى الحج إلى الكعبة المشرفة، وهو ما لم يحدث، لأن ذلك الافتراض كله الذى توهمه جولدتسيهر لا أساس له من الصحة بحسب كل الأدلة التاريخية والمنطقية.

بدون إجماع

ولا توجد حالة إجماع على من أمر ببناء قبة الصخرة والمسجد الأقصى، فهناك بعض المؤرخين يقول إن البناء تم فى عهد عبد الملك بن مروان، والبعض الآخر يقول إن البناء تم فى عهد ابنه الوليد بن عبدالملك، وفريق ثالث يقول إن عبدالملك هو من أمر ببناء قبة الصخرة، ولكن التنفيذ وإتمام البناء تم فى عهد ابنه الوليد بن عبدالملك، أى أن فكرة بناء قبة الصخرة لا علاقة لها من بعيد أو قريب بالصراع مع عبدالله بن الزبير الثائر فى مكة، بل إن الأمر لا يعدو إلا اهتماما بالمقاصد الدينية فى الإسلام، فمن المعروف أن الأمويين قاموا بعمليات توسيع ضخمة فى الحرم المكى وحرم المسجد النبوى فى تلك الفترة، فالخليفة الوليد بن عبدالملك، الذى يُعتقد أنه بانى قبة الصخرة، هو نفسه الذى أمر ابن عمه ووالى المدينة المنورة عمر بن عبدالعزيز - الذى سيتولى الخلافة بعد ذلك - بالإشراف على عمليات توسعة وتجديد المسجد النبوى، إذ تم إدخال الحجرات النبوية فى المسجد، وتم استحداث المآذن واستخدام المحراب المجوف لأول مرة.

كذلك أمر الوليد بن عبدالملك بتوسعة الحرم المكى ونقل أعمدة الرخام من مصر والشام إلى مكة، واستخدم الرخام فى الجامع لأول مرة فضلا عن توسعة مساحة الحرم المكى بنحو 2300 متر. أى أن الفترة التى شهدت بناء قبة الصخرة ورعاية المسجد الأقصى هى نفسها الفترة التى شهدت عمليات توسعة ورعاية وتجديد للحرمين المكى والمدنى، وهو ما يكشف عن اهتمام أموى بالمساجد الثلاثة دون تفرقة، وهو واقع تاريخى لا يمكن إنكاره ومثبت فى كتب التاريخ على مختلف مشاربها وانتماءاتها. إذن عملية بناء قبة الصخرة كانت جزءا من عملية إنشائية ضخمة فى خلافتى عبدالملك بن مروان والوليد بن عبدالملك، وهى الفترة الذهبية للخلافة الأموية، وهى الفترة نفسها التى شهدت أعمال توسعة وتجديد وعناية بالحرم المكى والحرم المدنى والمسجد الأقصى، وتوسعة جامع عمرو بن العاص فى الفسطاط، وبناء الجامع الأموى الكبير فى دمشق، فحركة الإنشاءات والتعمير الأموية فى هذا العصر لم تقتصر على قبة الصخرة كما يحاول بعض أصحاب الهوى أن يقول، عبر إخفاء الحقيقة التاريخية والتلاعب بها وإيراد روايات تاريخية من زاوية معينة لإظهار أنصاف حقائق تمشى مع الهوى.

حملة  التشكيك

وقد ارتبطت حملة التشكيك فى بناء قبة الصخرة بحملة أخرى بنيت عليها، وهى الزعم أن مكانة بيت المقدس فى الإسلام مختلقة، وأن مراجعة الكتب التى كُتبت عن فضائل بيت المقدس نجد أنها قد كُتبت بعد الحروب الصليبية، التى لفتت أنظار المسلمين إلى أهمية بيت المقدس، فعادوا للكتابة عنها والاهتمام بها من جديد، واخترعوا مكانة دينية للمدينة فى المخيلة الإسلامية، وهو كلام ضعيف متهافت لكن يجد من يصدقه للأسف من المسلمين والعرب ويردده عن جهل وسوء نية، فالوقائع التاريخية لا تثبت هذا الكلام بل تنفيه، فهناك قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، التى دشنت مكانة المسجد الأقصى فى نفوس كل مسلم، والثابت أن المسلمين فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ظلوا نحو 18 شهرا يصلون وهم يستقبلون المسجد الأقصى حتى جاء الأمر الإلهى بالتوجه إلى الكعبة المشرفة مسجد الله الحرام.

نقلا من عدد أخر ساعة بتاريخ 12/4/2023

أقرأ أيضأ : الأزهر يندد بالحملات الممنهجة لمحو كل أثر إسلامي بالقدس المحتلة

 

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة