سعيد خولي
سعيد خولي


يوميات الاخبار

رسائل البسطاء

سعيد الخولي

الإثنين، 01 مايو 2023 - 07:49 م

.. وحيث إنى رجل فقير الحال، وفاقد السمع، ومصلى وأعرف الله حق المعرفة، ولم أسع لضرر أى مخلوق كان، قدمت هذا لقدركم للتصرف برأى الله ورأيكم، والنظر فى أمرى بما يتراءى لسيادتكم ..

ارتبط المصريون عبر تاريخهم الطويل منذ عصور القدماء  بالإحساس الدينى العميق ، اتساقا مع الرسالات السماوية إلى الأرض وقبلها فطرة الإنسان السوى، ومن تلك الرسالات بالطبع رسالة سيدنا إدريس أول بنى آدم الذى أَعطى النبوة بعد آدم وشيث، والذى توجد تشابهات كثيرة واضحة بينه وبين شخصيات تاريخية مختلفة ؛ فمن المؤرخين من يرى أنه الإله المصرى القديم أوزوريس، ومنهم من يراه «أخنوخ» المذكور فى التوراة، والبعض ذكره على أنه الحكيم «هرمس» وذكره البعض مؤخرا على أنه أحد ملوك مصر القدماء، بل ذهب الأمر للقول بأنه أبو الهول! .
هذا الحس الدينى المتأصل امتزج فى كثير من الأحيان بمتاعب على مدار فترات متباينة طويلة فى تاريخ مصر، وتولد لدى البسطاء ـ وحتى بين غير البسطاء من الشعب المصرى ـ خيط ربط بينهم وبين مايشبه الرمزية فى الكتابات الأدبية فى عصور سابقة هربا من الشعراء والأدباء بإنتاجهم، فيضمن المبدع وصول إبداعه إلى الناس ليوصل رسالته إليهم سواء للمتعة أم للتنوير، أم للتنفيس عما يدور فى خاطره.
لكن يبقى نوع آخر من هذه العلاقة وجد فيها المصرى البسيط ملجأ لبث شكاواه، وهذا النوع يتجسد فى قيام البسطاء الواقعين فى مآزق ببث شكاواهم مكتوبة ومرسلة فى أظرف إلى هؤلاء الصالحين وأشهر من فعلوها معه ومازالوا هو الإمام الشافعى رحمه الله، وهو مادفع عالم الاجتماع الدكتور سيد عويس رحمه الله إلى رصد رسائل المصريين إلى الإمام الشافعى فى كتابه الممتع (من ملامح المجتمع المصرى المعاصر: ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعى).
لقد اختار الدكتور سيد عويس مائة وستين رسالة من تلك الرسائل الغريبة التى تحوى مطالب هؤلاء الشاكين يطلبون من الشافعى الشفاعة فى قضاء حوائجهم ورد حقوقهم.
ولابأس من استعراض نماذج من تلك الرسائل الغريبة التى وردت بالكتاب واختلط وتساوى فيها البسطاء بالأوساط الراقية والضعفاء بالأقوياء والأثرياء بالفقراء.
رجل من محافظة الفيوم بعث رسالة إلى ضريح الإمام الشافعى، وكتب رسالته على ورقة عليها ورقة تمغة (!) ، ولم يكتب فيها تاريخا، قال بعد ذكر البسملة والصلاة والسلام على سيدنا محمد:
« سيدى البطل الشهير أنا فى عرض الله وعرضك، وببركة الله وبركتك تبين لنا فى الذى سرق الديوك الرومى، وببركة الله وبركتك، وأن الله حاكم عادل بيننا وبينه يصرف فيه هو الله لا إله إلا هو الحى القيوم، وهو على كل شيء قدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل على كل من سرق هذه الديوك».
ورسالة بعث بها رجل من عزبة تابعة للناصرية بمحافظة الفيوم، رسالة كتبها على ورقة عادية، بتاريخ ٢٣ سبتمبر سنة ١٩٥٦، قال فيها دون أن يذكر البسملة أو الصلاة والسلام على سيدنا محمد:
«سيدنا ومولانا الإمام الشافعى، رضى الله عنه. مقدمه العبد الفقير إلى الله تعالى المقيم بعزبة الشركة تبع ناحية الناصرية مركز ومديرية الفيوم، أعرض الآتى:
حيث إنه سرق من على سطح منزلى ثلاث كيلات برسيم تقاوى، ولم أشعر بهم، سرقوا ليلا أو نهارا، وأنا غافل والله سبحانه وتعالى لم يغفل ولا ينام، وهو الذى يعلم حقيقة الأمر وما فيه، وحيث إنى رجل فقير الحال، وفاقد السمع، ومصلى وأعرف الله حق المعرفة، ولم أسع لضرر أى مخلوق كان، قدمت هذا لقدركم للتصرف برأى الله ورأيكم، والنظر فى أمرى بما يتراءى لسيادتكم، وأنا منتظر أمر الله وأمركم، حتى أرى بعينى من الفاعل، ومنتظر التصرف بفروغ الصبر، والله يفعل ما يريد».
تغيًر مجتمعى
السبت:
سألنى محاورى فى لقاء صحفى: من خلال سيرتك الذاتية كانت نشأتك فى قرية ثم بعد ذلك انتقلت للعيش فى المدينة . ماذا تراه الآن فى القرية مختلفا عن القرية بالماضى؟
وكأنه داس على جرح أستشعر ألمه كلما سافرت للقرية، أجبته: التقلبات الاجتماعية والاقتصادية التى مرت بها مصر على مدار الأربعين عاما الماضية ألقت بظلال كثيفة على مصر كلها دون شك، لكنها أثرت أكثر على بساطة الريف وقناعة الأجيال الجديدة بالمتاح أمامهم، وصارت الأرض الزراعية تفتقد كثيرا لعشق شباب الفلاحين كما كان الآباء والأجداد، وطغت الخرسانات العالية على المبانى الطينية أو التقليدية القديمة ببساطتها وجمعها بين الفلاح ومواشيه، وبالطبع لعبت الميكنة الزراعية دورا فى إضعاف العلاقة بين الفلاح وحيواناته التاريخية الحمار والبقر والجاموس واعتماده عليها مما أثر على الثروة الحيوانية فى الريف، وأعتقد أن مالايقل عن عشرين بالمائة من تلك الثروة اللصيقة بالفلاح قد اختفت خلال العقدين الماضيين، ومع تناقص الثروة الحيوانية تناقص اكتفاء الفلاح ذاتيا من الألبان والجبن، وازداد اعتماده على خبز المدينة ولحومها وأسماكها، مما وضعه بين تروس الاستهلاك المكلف قياسا إلى ابن المدينة وإلى الأجيال السابقة من الفلاحين أنفسهم، باختصار تغيرت كثيرا الخريطة الغذائية والاكتفائية مع تغير خريطة الوظائف للشباب بالتطوع أو الأعمال المستحدثة المعتمدة على التكنولوجيا، والسعى للالتحاق بتلك الوظائف مضمونة الراتب الأعلى من الرواتب التقليدية بالمهن الموروثة النمطية فى الزراعة والتعليم والأعمال الخدمية، وفى ذات الوقت اتجاه غالبية شباب الفلاحين ممن ليس لهم وظائف للعمل فى أراضى الغير بالأجرة اليومية حتى لو كان هذا الغير من ذوى قرباه، وحتى أيضا لو كانت أسرته تمتلك أرضا زراعية، وكانت هذه المعادلة فى الماضى نادرة إلى حد العيب، حيث كان تكافل العائلات وتعاونهم بالعمل معا وقت الحصاد يقلل أجور العمالة الفلاحية.
هذه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية انعكست على الخريطة الاستهلاكية للفلاح وقدرته الشرائية التى تطورت بكثافة فى السنوات العشر الأخيرة على وجه التحديد وكأنها كانت نوعا من التعبير عن منافسة المدينة فيما كانت تتفوق فيه، وفى تلخيص بسيط القرية حاليا تتخلى عن التعقل فى الإنفاق على الأساسيات والرفاهيات بينما المدينة تتعامل بواقعية أكثر وبمنطق يراعى الأحوال خاصة فيما يتعلق بالزواج وطقوسه وتأثيث الشقق ببذخ، فضلا عن تجهيز مبانى السكن والزواج بتكلفة عالية وغالبا لايراعى الطرفان ظروفهما ويطلب كل منهما من الآخر ما يجهده هو نفسه فى الوفاء بالمقابل، ثم يشتكى الطرفان وهما ملومان دون شك، والأسوأ فى الأمر أن تنتهى الزيجة بفشل سريع بعد هذا الإجهاد والإنهاك للطرفين معا، الريف حاليا يتفنن كثير من أهله فى خنق أنفسهم ثم يلعنون الظروف!
رائحة الحبر
الأحد:
تعلقت بها أهدافى العليا مذ كنت فى الصف السادس الابتدائى وعمى الراحل محمود رحمه الله معلمى الأول وقدوتى فى حب العربية صياغة ورسما، يحضر يوميا جريدة الأهرام العريقة إلى عمق الريف بقريتنا نكلا العنب حيث كان بين مشتركيها الثابتين القلائل بالقرية، وارتبطت مع ورق الصحيفة وحبره الأسود ورائحته المميزة التى لم أعرف مصدرها إلا حين وصلت قدماى وقادتنى أقدارى للبلاط المثير ووقفت مشدوها أراقب ماكينة الطباعة العملاقة وقتها بالمبنى الدائرى العتيق لأخبار اليوم، وقفت مشدوها وأنا أرى السير المعدنى الأشبه بالجنزير يحمل مئات النسخ من جريدة الأخبار وتتحرك مع حركة السير الدائرية لتصل فى النهاية ربطة فربطة، وقفت مشدوها ساعتها وأنا أشم رائحة الحبر على الورق التى كنت أشمها قبل ذلك بخمسة عشر عاما على جريدة الأهرام بالقرية، ولم أصدق نفسى وأنا أنال نسخة من الطبعة الأولى ذات أمسية من أمسياتى الأولى بالأخبار1985.كانت النسخة من المطبعة مباشرة ذات رائحة مختلفة وطعم يحمل بعضا من الشعور بالتميز بالمشاركة فى صنع هذا الوليد الجديد الذى سيكون بيد القراء ليلا ثم صباحا.


قد الكف
كانت عربات التوزيع تأخذ دورها لتحمل كمية من الطبعة الأولى إلى محافظة ما فى أقاصى الصعيد والوجه البحرى، بينما على ناصية شارع الصحافة هناك من الموزعين والباعة من كان يحصل على كمية من تلك الطبعة وبعض العائدين لمنازلهم مساء من أعمالهم أو من مصالح يقضونها هنا وهناك ،أولئك العائدون، يتجمعون حول بائع الصحف المحظوظ الذى حصل على كمية من نسخ الطبعة الأولى وهو ينادى: الحق الطبعة الأولى .. أخبار.. أهرام.. جمهورية. هذا المشهد الذى كان احتفالية ليلية متكررة لمهنة صاحبة الجلالة الصحافة الورقية، قبل انشغال الكثيرين بالجهاز السحرى الذى يحمله أى فرد فى كفه أو فى جيبه  ويحمل لحامله كل التفاصيل قبل أن يرتد إليه طرفه،كما طائر سليمان، فقد بات المحمول بمواقعه كما يقول المثل الجديد «قد الكف ويفضح مية وألف».


مولد الصحافة الورقية لن ينفض وميدانه موجود ولو كان بعافية بعض الشئ، حتى لو اختفت رائحة الحبر بفعل تطور أساليب الطباعة، لكن المهم هو ماذا تقول المطبوعة وكيف تخاطب الناس.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة