سمير الجمل
سمير الجمل


يوميات الاخبار

خير الأجناد

الأخبار

الأحد، 07 مايو 2023 - 07:12 م

سمير الجمل

وهكذا أظهر لهم الباشا العين الحمراء، حتى يراجع كل مبعوث حساباته مع نفسه ومع بلده وحتى لا يعود إليها مذموماً مدحوراً

حققت مصر نهضة شاملة فى عهد محمد على باشا وكانت البداية من بناء جيشها القوى حيث كان لا يمكن لدولة اتخذت العلم دستوراً لها أن تغفل عن جيشها، ونظر الألبانى ابن بائع الدخان إلى أهل مصر وقرر أن يكون جنودها من رجالها، وأبعد المرتزقة عن صفوف الجيش، وهكذا كان إعداد خير أجناد الأرض لأنهم منها، وعقيدتهم للدفاع عنها.. لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وصلاة وسلاماً عليك يا رسول الله.. يا من أطلق اللقب العظيم على جيشنا قبل فتح مصر بسنوات، فكانت البشارة والوسام على صدر كل جندى وضابط وإلى قيام الساعة.. أما اختياره للقلعة مقراً لحكمه، فهو راجع إلى رغبته فى النظر إلى البلاد من أعلى، حيث الصورة أوضح وأشمل وأوسع وكأنه يناديها بالصعود وأن تعلو فى كل اتجاه، وأرجوك لا تندهش أو تضحك إذا ما عرفت أن الدولة فى عام ١٨١٣ أنفقت مبلغ ٣٠٠ ألف جنيه لإرسال ٣١٩ مبعوثاً إلى الخارج.. أى أن الفرد تكلف ما يقرب من الألف جنيه، وهو رقم يمكن أن تشترى به عزبة أو شارعا به عدة منازل وقتها. لكن الرجل لم يبخل على البعثات لكى يحصد النتائج المبهرة بعد ذلك، والنهضة مثل الأوانى المستطرقة، تشب وتندلع وتجرى من محور إلى آخر.. الأدب والفن والسياسة والعسكرية والطب والعلوم، وكيلها بالعلم قبل أن يُكيَّل بعد ذلك بالباذنجان، فإذا كانت البعثة متخصصة فى علوم البحار والسفن اختاروا لها إيطاليا.. وأيضاً فى الطباعة كما حدث مع «نقولا سابكى» لكى يتعلم الطباعة فى بلاد «الدون بيسكو» و «مايكل أنجلو»، واستمر نقولا فى بعثته أربع سنوات وعاد لكى تبدأ معه مطبعة بولاق عهداً جديداً، عرف خلاله كيف يسبك الحروف وهى أساس الطباعة القديمة بالرصاص، بحيث يتم جمع الأحرف لتكون كلمة، ثم تتكون الجملة، ثم تكون صفحة. وكان الباشا محمد على يتابع «سابكى» فى بعثته كما كان يفعل مع جميع المبعوثين ويطلب جداول الدرجات، ويطمئن عليها ويرسل إليهم الخطابات ومنها ما نشره رفاعة الطهطاوى.. وفى هذا الخطاب قال محمد على: «قدوة الأماثل الكرام الأفندية المقيمين فى باريس لتحصيل العلوم والفنون زاد قدركم.. نُنهى إليكم أنه قد وصلتنا أخباركم الشهرية والجداول المكتوب فيها مدة تحصيلكم وكانت مشتملة على شغلكم ثلاثة أشهر، ووجدتها مبهمة لم يُفهم منها ما حصلتموه فى هذه المدة، وقد عرفنا عدم غيرتكم وتحصيلكم الجيد وهذا الأمر غمنا غماً كثيراً.


ويا أفندية، ما هو مأمولنا منكم للأسف، وكان ينبغى أن كل واحد منكم يُرسل لنا شيئا من ثمار شغله وآثار مهارته، فإذا لم تغيروا هذه الباطلة (العادة) بشدة الشغل والاجتهاد والغيرة وجئتم إلى مصر بعد قراءة بعض كُتب وظننتم أنكم تعلمتم العلوم والفنون، فإن ظنكم باطل وعندنا والحمد لله رفقاؤكم المتعلمون يشتغلون ويحصلون الشهرة، فكيف تقابلونهم بهذه الكيفية وتظهرون عليهم كمال العلوم والفنون؟! فينبغى للإنسان أن يتبصر فى عاقبة أمره.. وعلى العاقل ألا يُفوِّت الفرصة وأن يجنى ثمار تعبه، وبناء على ذلك أنتم أغفلتم عن اغتنام الفرصة وتركتم أنفسكم للسفاهة ولم تجتهدوا فى كسب احترامنا وأن تتميزوا بين أمثالكم». وهكذا أظهر لهم الباشا العين الحمراء، حتى يراجع كل مبعوث حساباته مع نفسه ومع بلده وحتى لا يعود إليها مذموماً مدحوراً.


أولاد مصر
يكشف المخترع المصرى حسين عجوة الغطاء عن ماكينة تقوم بضرب الأرز وتبييضه.. يتطلع الباشا منبهراً إلى النموذج الذى قدمه «عجوة» إلى حاكم البلاد، وشرح أسلوب عمله، وأمر له محمد على بالهدايا وأغدق عليه بالمكافآت وأصدر فرماناً بأن يتم تعميم الاختراع فى أرجاء البلاد.. ولم تكن هناك صحافة وكاميرات تسجل الحدث، لكن الباشا ألقى كلمة من فرط سعادته بهذا الإبداع فقال:
«إن فى أولاد مصر نجابة (ذكاء) وقابلية للمعارف»، وبعدها توجه إلى الأزهر الشريف لكى يعلن انطلاق نهضة تعليمية غير مسبوقة، وقناعته فى ذلك أن حافظ القرآن الكريم هو أكثر من يدرك قيمة العلم، ثم بدأ فى إنشاء المدارس المتخصصة فى الطب والهندسة والعسكرية والترجمة، وانتبه إلى أهمية المدرسة الابتدائية لأنها الحاضنة التى ترعى الفتى فى المهد، وكان يصرف على الطالب فى ملبسه ومأكله ومشربه وإقامته ونفقاته، وذلك أمام الجميع بلا استثناء.


ثم ربط التعليم باحتياجات البلاد وبدأ فى إرسال البعثات إلى الخارج، وجاء بالأجانب الخبراء فى مصر وحتى يسهل التفاهم بين الخواجة وابن البلد أنشأ مدرسة الألسن إلى جانب الاهتمام بالترجمة.. وظهرت مدارس الهندسة فى القلعة وبولاق.. والطب فى أبى زعبل وقصر العينى، والمدرسة الحربية العليا فى أسوان، لأنه أراد أن يبعدها عن العين.. وفى الحربية مدارس للمشاة والفرسان وأركان الحرب العليا بالخانكة، إلى جانب مدرسة الموسيقى العسكرية والبحرية والتجارة والمعادن العليا فى مصر القديمة، ومدرسة الزراعة فى نبروه دقهلية، والطب البيطرى فى شبرا وأبى زعبل.


وفى عام ١٨٣٤ جرى الاحتفال بحصول مدرسة بولاق العليا على المركز الأول عالمياً.. والشهادة عليها توقيع عمك المؤرخ الشهير الجبرتى ـ قبل الأيزو واللى عايزه ـ وكان ناظر المدرسة فى هذا الوقت العبقرى على مبارك ـ مع احترامنا لحضرة ناظر البهدلة حسن مصطفى وتلاميذه ـ والرياضيات والعلوم أساس النهضة، قبل أن يتحول معظم طلاب الثانوية إلى القسم الأدبى من باب راحة الدماغ.. والأمم الكبرى كلها نهضت بالرياضيات والعلوم العقلية التى تصنع العقل الابتكارى، لا عقلية الحفظ واختراع أساليب الغش الحديثة، ولو أنهم أنفقوا ربع الوقت الضائع فى بحث طرق ومناهج الغش، لكان طريقهم فى العلم الحقيقى مثل السكين فى الجاتوه، انظروا إلى تجارب اليابان وكوريا وسنغافورة وماليزيا.. وهذا ما أدركه محمد على منذ ما يزيد على ٣٠٠ سنة مما تعدون.


أول وزارة
ولما تعددت المدارس وزادت وتنوعت كان لابد من البحث عن كيان يجمعها، ومن هنا تم إنشاء ديوان المدارس الحكومية عام ١٨٣٧ ليكون بذلك أول وزارة للمعارف، وقبلها كان موجودا ما يسمى بمجلس شورى المدارس.. وتولى أمر الديوان أوائل المبعوثين بعد عودتهم وكان يرأسه مصطفى بك مختار، وكان من أعضائه المعروفين «كلوت بك» عميد كلية الطب الذى ارتبط اسمه للأسف بشارع الهلس فيما مضى، وتحول الشارع إلى التجارة بأنواعها وظل اسم «كلوت بك» حاضراً حتى الآن.. وهذا الديوان الذى انضم إليه رفاعة الطهطاوى أوصى بأن يكون عدد طلاب كل مدرسة ٢٠٠ فقط وأن يكون التعليم مجانياً فى جميع مراحله.. وكانت الحكومة توفر للطلاب الغذاء والكساء والمسكن للمغتربين، وتنظم لهم المرتبات الشهرية، وكان عددهم فى هذا التوقيت ٩٠٠ فى عين العدو فى جميع المراحل، وهو ما يوازى نصف العدد فى مدرسة ابتدائية حالية.. فعل محمد على كل هذا وهو الذى لم يتعلم، ولا تعجب من ذلك بل اسأل نفسك: وهل تعلمت أم طه حسين الكفيف الذى خرج من الصعيد الجوانى لكى يصبح فيما بعد وزيراً للمعارف ويُعلِّم الدنيا بوافر فكره وإبداعه؟ ونفس الشىء لحامل الابتدائية فقط عباس محمود العقاد، الذى يعرفه أبناء الجيل الحالى بأنه الشارع الذى يقع فى مدينة نصر ويؤدى إلى مصطفى النحاس ومكرم عبيد حيث الكافيهات والسيتى ستارز ومحلات تأجير فساتين الزفاف والأفراح، والحديقة الدولية.. وعندما اجتمع الباشا وهو فى الثمانين من عمره بكبار القادة عام ١٨٤٦ قال لهم: «إذا أمرتكم بشىء فلا تقبلوه وهو غير صحيح، فقد رخصت لكم الاعتراض عليه وأكون فى غاية الامتنان لذلك، وإذا لم تتحولوا عن خصالكم القديمة من الآن فصاعداً ولم تقولوا الحق فى كل شىء ولم تجتهدوا فى طريق الاستقامة، ولم تسلكوا سبيل الصواب لصيانة مصلحة هذا الوطن العزيز، فلا بد لى أن أغتاظ منكم، وصرت مجبوراً على قهر كل من لم يسلك هذا الطريق الصحيح اضطراراً، مع حُرقة كبدى وسيل الدموع من عينى».


المؤسس
هو محمد على باشا المسعود بن إبراهيم أغا القوللى الملقب بعزيز مصر وحاكمها من ١٨٠٥ إلى ١٨٨٤ وهو مُؤسس مصر الحديثة، وقد روَّج لذلك بنفسه، وقد وُلد فى منطقة كافالا باليونان ولكنه ينتمى إلى «ألبانيا» أو مقدونيا، وجاء إلى الحكم بعد أن عزل الشعب خورشيد باشا، وأيد الأعيان هذا القرار، ومصر فى هذا الوقت لها الوصاية على السودان والشام والحجاز وكريت اليونانية. وقد توفى فى قصر رأس التين بالإسكندرية، ونجح أن يوسع حدود الدولة المصرية حتى خاف الغرب منه، واجتمعوا على إيقاف طموحاته، وكان والده رئيس الحرس المكلف بحراسة الطريق فى بلدته «قوله» التابعة لمحافظة مقدونيا شمال اليونان. وكان تاجراً للتبغ، ومات والده وأمه وكفله عمه طوسون وألحقه جندياً، ولمع اسمه وأحبه الحاكم وتزوج من أمينة هانم وكانت «وش السعد» عليه، وعندما قررت الدولة العثمانية إرسال جيش إلى مصر لكى تستردها من يد الفرنساوية، كان هو نائب رئيس الكتيبة الألبانية، ثم تولى قيادتها بعد عودة القائد ابن حاكم «قوله» إلى بلاده بعد وصولها إلى ميناء أبى قير.. وكانت البلاد تعانى من الهجوم الإنجليزى وآثار الحملة الفرنسية وفوضى المماليك وانقسامهم على أنفسهم، وكلٌّ يغنى على ليلاه.. وبذكاءٍ اتجه محمد على إلى الأعيان والحكماء وإلى كبار رجال الأمة حتى وثق به  الشعب أيضاً، وتمت مبايعته عن طريق نقيب الأشراف عمر مكرم (صاحب المسجد الشهير فى ميدان التحرير والذى أصبح معروفاً بصالة العزاء لكبار الناس).

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة