إسراء النمر تكتب : حيدر حيدر السائر على حدّ السكين وحافة الهاوية
إسراء النمر تكتب : حيدر حيدر السائر على حدّ السكين وحافة الهاوية


إسراء النمر تكتب: حيدر حيدر السائر على حدّ السكين وحافة الهاوية

أخبار الأدب

الأحد، 14 مايو 2023 - 04:29 م

بهدوء غادر عالمنا حيدر حيدر، تاركًا وراءه وليمة هائلة من الأعمال الروائية، التى تمردت على الأساليب والأشكال واللغة القديمة، والتى خلخلت البنى الاجتماعية السائدة، بدخولها إلى المناطق المحرمة والتابوهات، وجميعنا بلا شك يذكر الأزمة التى واجهها فى مطلع الألفية الأولى، والتى عبرها رسخ اسمه فى الوجدان الشعبى المصرى، وذلك بالطبع عن غير قصد، لأن حيدر حيدر كان مُتهمًا بأبشع التهم، من بينها التعدى على الذات الإلهية، والإساءة إلى الإسلام، فقد خرجت مظاهرات تطالب بإهدار دمه، ودم كل من أعاد نشر روايته «وليمة لأعشاب البحر- نشيد الموت»، وعلى رأسهم الفنان فاروق حسنى وزير الثقافة آنذاك، والروائى الراحل إبرهيم أصلان، الذى كان يرأس سلسلة «آفاق الكتابة» التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة.


هذه الأزمة أنارت حينها جوانب كنا نغفلها عن حيدر حيدر، فمن خلال أعماله كافة، نستطيع أن نكتشف بسهولة، أن الهاجس المركزى فى كل ما كتبه هو الحرية، ومن ثم المقاومة لا بالمعنى السياسى  التحررى الوطنى والقومى وحسب. إنما المواجهة الصدامية مع المؤسسات والمفاهيم والسلوكيات القامعة والجاهلة والمتخلفة والمستبدة فى مجتمعاتنا العربية.‏ فواحد من وظائف الأدب الأساسية -عنده- هى: النقد، نقد البنية الاجتماعية والفردية بما هى بنية فاسدة أو مرضية أو ظلامية أو متخلفة. «فحين تخلخل وتفكك هذه البنية فأنت ترنو إلى البديل الأفضل، إلى المستقبل الأجمل دون أن ترسم المعالم أو تفصل هيكلية ذلك المستقبل، لأن هذه المهمة هى للسياسة وليست للأديب».‏


اقرأ أيضاً| جمال حراجي يكتب: يمكن تكون البقعة دم

وفى واحد من حواراته الأخيرة، يقول حيدر حيدر: «ما بقى من العاصفة التى هبّت على روايتى «وليمة لأعشاب البحر» هو قوّة الأدب وفعاليته الاجتماعية فى مواجهة التيارات الأصولية والظلامية، هذه التيارات المعادية للحرية والثقافة المعاصرة، والتى لا تنفى الآخر المختلف وحسب بل تستبيح دمه، استنادًا إلى تأويلات خاطئة وعمياء لا صلة لها بالدين أو الإسلام».‏‏

وهذا يعنى أنه حين تذهب عميقًا باتجاه المحرّم وتقاربه فأنت تفضح وتعرّى، لكنك تسير على حدّ السكين وحافة الهاوية.‏ هذه المواجهة الخطرة تنعكس بالطبع على القارئ محدثة صدمة نوعية، صدمة موقظة وارتجاجية داخل أعماق البحيرة الراكدة. فقول المسكوت عنه والمغطى تاريخيًا والتابو  المحرّم ينير الظلمات، ويزيح الستار الكاذب والمزيف، معلنًا الحقيقة عارية.‏

ولكنه فى آن، كان يرى أن أزمة «وليمة لأعشاب البحر» حرمته من جائزة مؤتمر الرواية العربية الذى ينظمه المجلس الأعلى للثقافة، وهى الجائزة الوحيدة التى تقدم لها حيدر حيدر، لكن الأزمة لم تمنعه من المشاركة فى مؤتمر عن الرقابة وحرية التعبير نظمته مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع المركز القومى للترجمة عام 2009، والذى تحدث فيه عن سيف الرقيب الذى يطارد المبدعين فى كل مكان بالبلاد العربية، وعن السلطة الاجتماعية، وهى سلطة ليست سهلة أبدًا، ويمكن أن تنضم أو تتعاون لا شعوريا مع السلطات السياسية أو الدينية، لأن درجة الوعى فى مجتمعاتنا محدودة، فالناس لم يصلوا بعد إلى إمكانية رؤية التصور المستقبلى الذى ينشده الكاتب أو المبدع ويسعى لتحقيقه، هم ثابتون والكاتب متحول، والاستعارة من أدونيس.

لهذا يرى حيدر حيدر أن الكاتب –أى كاتب - مغترب وجوديًا. وأن الغربة الوجودية الداخلية هى المركز الأساسى لديمومة الكتابة. هى شعورك بأنكَ من هذا العالم ولستَ فيه، غريب عنه، عن الوقائع المُفجعة التى تحدثُ فيه. يقول: «لستُ من هذا العالم. بل من عالمٍ آخر. عالم المحبة والأخلاق، أنتمى إلى ما هو جميل، غريب عن هذا السواد المدمِّر. موقفى من الدين هو الاغتراب. موقفى من الوضع السياسى السائد هو الاغتراب. من الوضع الاجتماعى من قمعٍ وذل وجوع هو الاغتراب».

وقد دفعه هذا الشعور فى سنواته الأخيرة إلى الانكفاء فى بيته الريفى القريب من بحر طرطوس فى سوريا، والذى يسكنه منذ عام 1985 بعد عودته من أسفاره الطويلة بين دمشق وبيروت والجزائر وقبرص وباريس، فقد كان يعيش على راتبه التقاعدى من التعليم، وحقوق كتبه من دور النشر، والتى من بينها: حكايا النورس المهاجر (قصص)، ورواية الفهد، ورواية الزمن الموحش، ورواية شموس الغجر، ورواية هجرة السنونو، وأوراق المنفى- شهادات عن أحوال زماننا، ويوميات الضوء والمنفى.

وقد أدخل حيدر حيدر - مع أبناء جيله من السوريين- تغييرًا كبيرًا على الرواية الاجتماعية الوصفية التى كانت تُعنى بالأحداث والوقائع، حيث استند فى أعماله إلى الأسلوب التعبيرى الذى اهتم بالعالم الداخلى، فالرواية التعبيرية التى كتبها دخلت فى مجالات علم النفس واللاشعور الفردى والجماعى، الأحلام والكوابيس عند الإنسان. فقد كان الزمن فى الرواية الوصفية الاجتماعية يجرى بشكل وقائع يومية مملة، على عكس الرواية التعبيرية التى أحالت الزمن المستمر إلى زمن متناوب ومتقطع، فلم يعد الزمن لديه مستمرًا، بل مموّجًا. ويظهر هذا التغيير فى أسلوب تيار الوعى عند جويس وبروست وفوكنر وفرجيينا وولف. هذا الأسلوب واحد من التغييرات الجذرية فى الرواية العربية، حتى أنها طاولت بعض الأدباء الذين كتبوا القصة القصيرة.

يقول: «رواية الزمن هذه كانت رواية الأعماق النفسية، والاقتراب من المحرّمات وكسر التابو بأسلوبٍ راقٍ، وليس بأسلوبٍ فج ومباشر، كما حدث مع بعض الروائيين الذين يكتبون عن الجنس، ويشعرون أنهم يقومون بفتحٍ جديد فى عالم الكتابة! فالدينى والسياسى والجنسى نقترب منه فنيًا فقط. لأن هناك شىء اسمه أخلاقية اللغة، وعمق هذا الأسلوب البُعد عن الإسفاف، وتعرية الأشياء بشكلٍ كامل. الاقتراب من المحرّمات الثلاث يكون فى الرواية بشكلٍ نقدى وإنسانى. فمؤخرًا نرى بعض الكتّاب الجنسويين وهم يقتربون من التابوهات بطريقة منفّرة».

كما كان حيدر حيدر يؤمن بأن الأديب هو أسلوبه. ومن خلال هذا الأسلوب يتمايز عن غيره. والأدب فى النهاية هو اللغة والخيال والأسلوب والمعنى. ولعل اختياره للسرد والتحليل القريب من اللغة الشعرية يعود إلى اقتناعه بأن هذا الأسلوب اللغوى هو القادر على التعبير عن أعماق الشخصيات الواقعية  المتخيلة وإنارة ظلماتها.‏ وأغلب الظن أن حيدر حيدر كان يسعد بالاتهامات التى تلاحقه بأنه شاعر متنكر، لأنه كان يكتب بالفعل قصيدة النثر، لكنه لم ينشر أيًا من هذه القصائد، وظل يحتفظ بها فى دفاتره، ولا نعلم هل ستظل القصائد فى حوزة هذه الدفاتر، أم أنها سترى النور قريبًا؟

وبرحيل حيدر حيدر، نكون قد فقدنا إذن ساردًا وشاعرًا وثائرًا عظيمًا.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة