توماس جورجيسيان
توماس جورجيسيان


يوميات الاخبار

محمد العزبى .. ومن غير ليه!!

الأخبار

السبت، 20 مايو 2023 - 07:00 م

توماس جورجيسيان

أصبح هذا الارستقراطى العريق أشهر رسام للحياة الشعبية. وأجمل صور فى لوحاته الشهيرة المرأة بنت البلد وخصوصا بنات بحرى

الثلاثاء
عرفته وعايشته وأحببته وكان قد تجاوز الستين .. كما أننى مازلت أعايشه ولو عن بعد وأتواصل معه وأحبه أكثر الآن بعد أن تجاوز التسعين.
معادلة حبى وتقديرى له كانت محسومة منذ البداية .. أسطى من أسطوات الكتابة الصحفية الشيقة.. يقول ويكشف الكثير فى أقل الكلمات.. يمزج ويسبك بسلاسة المعلومة والرأى معا .. يحكى ولا يعظ .. يسرد ولا يقوم بالتنظير ولا يلجأ للتفلسف والطنطنة .. يعشق الصحافة الحية والنابضة ويعرف مكوناتها .. من التشويق والاستمتاع والانتعاش الفكري. ويردد دائما من قال ان الصحافة الورقية قد انتهت ..


له ذاكرة ثرية بمشوار صحفى طويل وتجارب غنية مع الرواد فى الصحافة المصرية عاشها هذا الأستاذ الجميل العزيز محمد العزبى .. وبالطبع لا أتردد فى القول .. كم أنا محظوظ بحضوره ودوره فى حياتى وسعيد وممتن بتواصلنا الدائم وحواراتنا ولقاءاتنا دون انقطاع لسنوات طويلة..
الأستاذ العزبى تم تكريمه والاحتفاء بدوره وعطائه منذ أيام بمنحه جائزة نقابة الصحفيين التقديرية الكبري.


فى بداية عام ٢٠٢٢ صدر كتاب له بعنوان «فهل يدخل الصحفيون الجنة؟!» وكان قد انتهى من كتابة هذا الكتاب ..فى عام ٢٠٢١ بعد أن تجاوز ال٩٠ من عمره وأثقال كبر السن وتجاوز أيضا الإصابة بكورونا ..
وقد كتب محمد العزبى فى يوميات الأخبار ـ نوفمبر ٢٠٢١..
«هل يدخل الصحفيون الجنة؟!.. هو عنوان كتابى قبل الأخير – ولعله الأخير – وقد أصابه النحس فلم يجد ناشرًا رغم الوعود المصحوبة بالمبالغة فى الترحيب به وبي.. والحق أننى لم أبذل جهدًا فاستمتاعى كان كتابته فى الوقت الضائع.. فهل هو نحس العنوان أو نحس المؤلف؟!.. يا مسهل»..
الأعمدة اليومية والأسبوعية التى كتبها لسنوات طويلة فى «الجمهورية» ثم لفترة ما فى «المصرى اليوم» تنوعت عناوينها .. منها «من غير ليه» و»عيون مصرية» .. و»عيون بهية» ..


وعيون العزبى (رغم مرور السنين.. ورغم الستة على الستين) كانت ومازالت راغبة وقادرة على التقاط ما لا يراه الآخرون كما أن قلمه كعادته يتمتع بسلاسة فى التعبير و»شقاوة» فى التناول وجرأة فى المواجهة وأخذ المواقف.
نقرأ له فى كتابة «كناسة الصحف» الصادر منذ سنوات : «الأعمدة الصحفية على قفا من يقرأ، ما شاء الله حاولت أن أحصيها فأخطأت الحساب، وأصابنى الملل، بعد أن وصلت لأكثر من مائة عمود فى اليوم الواحد بالصحف القومية غير المقالات. وعشرات مثلها فى الصحف الخاصة.
وعندما اقترب عيد ميلاده ال٩١ كتب العزبى فى «يوميات الأخبار» فى فبراير من العام الماضي:
« .. بعد أيام لن أحتفل بعيد ميلادى بعد أن بلغت من العمر أرذله.


لن أطفئ الشموع فقد ضاع منى البصر..
ولن أقرب التورتة بعد أن أصبح دمى سكر زيادة..
ولن أستقبل أحداً فقد تركنى الأهل والأصدقاء - إلا القليل - وحيداً فى الدنيا..
أستاهل!
لن أبكى فقد جفت الدموع..
ولن أرد على من يسأل: عندك كام سنة ؟...؛ فقد مضى العمر يا ولدى ولا يبقى سوى ذكريات مع التكرار والنسيان «وانت قلت لى نفس الحكاية كتير يا جدو !!»
دخلت الدنيا من أوسع أبوابها؛ وأريد أن أدخل الجنة من أى باب.»
… ثم أضاف:
«.. قالوا زمان: اللى يعيش ياما يشوف. واليوم أقول بعد الستة على ستين: اللى يعيش ما يشوفش!!»
العزبى الذى اختطفه شيطان الصحافة ـ كما يقول ــ وهرب من القصر العينى ودراسة الطب.. يبحث عما هو جديد يبشر بغد أفضل .. يفرح لما يلتقى بما يكتبه صحفى موهوب ( مهما كان عمره) وقلم مشاغب بذوق وبخفة دم تشرح القلب.. يردد العزبى من حين لآخر ايه الحكاية ؟ ليدفعنى أن أرسل له ما قرأته وأسعدنى .. السعادة مشاركة ومشاطرة .. وكم هو جميل أن تقرأ سطورا بتتنطط قدام عينيك .. نعم، الصحافة غية وشغف وخيال وسرحة ووقفة وجرأة .. بالطبع صدق مع النفس ومع القراء .. ويتساءل أحيانا فين الجورنال اللى نقراه ونقصقص منه .. ونتبادل الكلمات عن المنشور فيه وعن كتابه ..
الخميس
محمود سعيد .. وبنات بحرى
« ابن الذوات الذى عشق بنت البلد» هكذا وصفه الفنان الكبير حسين بيكار.
محمود سعيد المولود فى الاسكندرية يوم ٨ أبريل ١٨٩٧ كان من عائلة أرستقراطية عريقة فى الإسكندرية. والده كان محمد باشا سعيد أحد رؤساء الوزراء المصرية فى العشرينات من القرن العشرين.نعم، درس القانون وتولى وظائف بالقضاء. إلا أنه استقال فى الخمسين من عمره ليتفرغ تماما لهوايته فى الرسم.
وكما كتب كامل زهيري: «أصبح هذا الارستقراطى العريق أشهر رسام للحياة الشعبية. وأجمل صور فى لوحاته الشهيرة المرأة بنت البلد وخصوصا بنات بحري. وقد اشتهر بيننا فى الحديث الشعبى عن المرأة الاسكندرانية أنها أكثر تحررا وجرأة من القاهرية بنت البلد»


هكذا ذكر زهيرى مضيفا: «وقد يكون السبب هو البحر والهواء الطلق. وكنا نسمع فى شبابنا هذه العبارة الدارجة فى وصف «بنات بحري» مياه مالحة، وذيول شالحة، وعيون جارحة»


وقد توقف بيكار أمام المرأة فى لوحات محمود سعيد ذاكرا « لقد أضحت «بنت بحري» السمراء الفاتنة ، التى يشع من عينيها وشفتيها سحر أنثوى غامض ، والتى كان الفنان يرى فيها مخلوقا عجيبا يجمع بين الطيبة والشراسة.. وبين الصفاء النفسى والدفء الجنسى .. وبين الرضا الناعم والحزن القاتم .. أصبحت هذه المخلوقة ـ التى تجمع بين المتناقضات ـ ظاهرة تميز فن «محمود سعيد» ابن الاسكندرية البار .. وابن الذوات الذى ثار على طبقته ، وترك مباهج القصور .. ونزل الشوارع والأزقة ، يخالط عامة الناس ، يترجم لهجتهم « الاسكندرانية» الى خطوط وألوان وظلال ..يفرشها فوق لوحاته»
وأجد هنا حاجة للتذكير بأن قراءة اللوحات تحتاج الى عين تنظر وترى وتتذوق ..


بدر الدين أبو غازى فى كتابه «محمود سعيد» يقول عن «بنات بحري»: «فى المرأة بنت البلد وجد محمود سعيد تعبيره عن الخصوبة والأنوثة والجنس وكانت بنات بحرى مصدرا من مصادر الهامه ورمزا من رموزه. فى أجسامهن.. صرامة البناء فى الخارج وتفجر الأحاسيس فى الداخل.. ومن المقابلة بين حبكة التنظيم وأعماق الباطن يشع فن محمود سعيد بسحره الخاص».


ولم يتردد رمسيس يونان وهو يشرح ما يسميه «طغيان الأنثى» لدى المرأة فى عالم محمود سعيد فى أن يكتب :.. انها تارة ست الحسن والجمال وتارة أخرى تلك التى تنصب فخاخها لتنقض بعد ذلك وتلتهم».
ومن روائع محمود سعيد بجانب «بنات بحري» تبهرنا لوحاته الأخرى ومنها «ذات الجدائل الذهبية» و»على الأريكة الخضراء» و»عروس البحر» و»الملاية اللف» و»ذات الثوب الأزرق» و»حاملة الجرة» والمستحمات» و»عروس البحر» ونجد فى هذه اللوحات الفنان المبدع والتقاطه لمعنى النظرة واللفتة والرغبة والبهجة
كامل زهيرى وهو يتحدث عن محمود سعيد ذكر أنه زار بيته وصعد الى السطح حيث مرسمه الذى يطل على البحر. وكتب: «أمضيت أياما مع محمود سعيد فى مرسمه، واكتشفت أنه يختار بعض عناوين قصائد بودلير لأسماء لوحته، ومن أشهرها قصيدة «دعوة الى السفر». وقد رسم محمود سعيد فيه وجه رجل ووجه امرأة يتقربان جدا، وكأن بينهما همسات للدعوة الى السفر. وقادنى بودلير الى عالم محمود سعيد الداخلي. فقد كان محمود سعيد يشبه شاعره المفضل بودلير فى حب المرأة وكان يشمها عابقة عطرا نفاذا وفواحا. كما يراها بعينه الفنية المتفحصة. وكان يطرب لوسوسة أساورها ووقع أقدامها. ولذلك تغنى الرسام والشاعر بالمرأة شوقا وشبقا».


الفنان السكندرى (محمود سعيد) وصف ماذا كان يحدث بداخله بعد أن أمضى أوقاتا طويلة فى متاحف الفنون فى أوروبا قائلا: «كانت مصريتى تهتف بى أن أطرح عن عينى كل مؤثر أجنبي. وفرق بين أن تتعلم، وبين أن تبدع. ان الابداع لا يستغنى عن التعلم، ولكنه لحظة تتضاءل فيها كل ما تعلمته ليعلو صوتك الداخلي».
وقد رحل محمود سعيد عن عالمنا يوم ٨ أبريل ١٩٦٤ وكان فى ٦٧ من عمره ..

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة