سعد زغلول
سعد زغلول


محمد شاهين يكتب: سعد زغلول يكتب لصديقه ولفرد بلنت

أخبار الأدب

الأحد، 21 مايو 2023 - 04:14 م

هاتان رسالتان كتبهما سعد زغلول من منفاه فى باريس إلى صديقه البريطانى ولفرد بلنت (Wilfrid Blunt) عندما كانت مصر تمر فى ظروف عصيبة جراء الوصاية البريطانية التى حاربها الشعب المصرى محاولاً بشتى الطرق التخلص منها واستعادة استقلاله والتحرر من الهيمنة الأجنبية والمحلية على السواء.

عثرت على هاتين الرسالتين فى متحف فتزوليم فى كيمبردج. ويبدو أن تضمينها فى وثائق بلنت حال دون وصول الباحثين فى سيرة ومسيرة سعد زغلول إليهما، إذ لم يرد لهما حضور فى أى مدونة تتعلق بالمرسل والمرسل إليه. ولمزيد من التوضيح لا بد من إجراء نوع من التفكيك لما يرد فيهما من نص بقصد الكشف عن مضمونها ودلالاته التى تشير إلى حقبة مهمة فى تاريخ مصر الحديث منذ احتلال بريطانيا لمصر عام 1882، إلى أن حطت الحرب العالمية الأولى أوزارها وما نشأ من تداعيات بعد ذلك.

 

يجدر بنا بداية أن نستذكر الخلفية التاريخية للرسالتين المذكورتين والمواجهة بين سعد زغلول وألفرد ملنر فى الفترة التى سبقت استقلال مصر. هذا ما يقوله طارق البشرى فى مؤلفه سعد زغلول يفاوض الاستعمار (2012):

اقرأ ايضاً| خاص «أخبار الأدب» | ملف الهوية الوطنية يفتتح جلسات «الحوار الوطني الثقافي»

انفجرت ثورة 1919 فور نفى سعد زغلول وأصحابه فى 8 مارس. ثم أفرج عنهم بضغط الثورة فى 17 من إبريل، وأذن لهم بالسفر من منفاهم بمالطة إلى باريس حيث يعرضون مطالب مصر على مؤتمر السلام المنعقد هناك. ولكن الوفدين وجدوا صداً تاماً من المجتمعين بفرساي، وأعلن الرئيس الأمريكى ويلسون اعترافه بالحماية البريطانية على مصر فى 22 من إبريل، ثم تضمنت معاهدة الصلح مع ألمانيا اعترافاً بتلك الحماية.

وبدا واضحاً أن الدول الكبرى المنتصرة فى الحرب إنما اجتمعت لتعيد اقتسام العالم غنيمة فيما بينها، وأنها استقرت على ترك مصر لبريطانيا.

وبدا واضحاً أن الأوضاع الدولية قد أقرت نهائيا ورسمياً لأول مرة منذ الاحتلال البريطانى لمصر، أقرت أن تكون مصر داخل نطاق الحوزة البريطانية، ولم يعد ما تخشاه بريطانيا من تحدٍ لنفوذها فى مصر من جهة العلاقات الدولية" (ص29).

وهكذا انفجرت الثورة المصرية عام 1919، مما جعل بريطانيا تقرر فى أيار تشكيل لجنة "بحث أسباب الاضطرابات لترسم استراتيجية تحكم فيها مصر لاحقاً ووصلت اللجنة إلى القاهرة فى 7 ديسمبر 1919 برئاسة ملنر، وزير المستعمرات. ويصف البشرى المواجهة بين الطرفين كالآتي:

كما قوبل الوفديون بمقاطعة دولية من دول مؤتمر فرساي، قوبل ملنر فى مصر بمقاطعة شعبية تامة نفذها ضده الوفديون بشعار عدم التعاون، ولم يستطع أن يحادث مصرياً من أنصار السياسة البريطانية إلا خفية ومسارقة، وثبت لديه يقينا إلى أى مدى بعيد يسيطر الوفد على الحركة السياسية المصرية وإلى أى مدى بعيد يرفض المصريون التعاون مع المستعمر.

وما إن عاد إلى لندن حتى دعا الوفد من باريس إلى مفاوضته فسافر إليه الوفد المصرى وبدأت مفاوضات سعد- ملنر التى استطالت من يونيو إلى نوفمبر سنة 1920.

تم أول لقاء بين الطرفين فى 6 من يونيو، واجه كل صاحبه ومن ورائه تجربة الشهور الماضية. يجلس سعد ومن ورائه مقاطعة المصريين لملنر، ويجلس ملنر ومن ورائه مقاطعة الدول الكبرى لمصر وتنكرهم لمطالبها. على أن أخطر مشاكل المصريين حول مائدة للقاء كانت فيما بينهم لا فى الجانب المقابل.

فإذا كان الوفد قد أثبت هيمنته على الحركة السياسية المصرية، فإن فريقاً من قادة الوفد قد أحبطتهم نتيجة "فرساي" وأزعجهم قيام الثورة المصرية نفسها، وبدأوا يلوذون بالسياسة البريطانية من خلال عدلى يكن الذى كان يقودهم من خارج الوفد. ولم تكن المشكلة أن يتخلف فرد أو أفراد، ولكن كانت المشكلة أن يثير هؤلاء انقساماً فى الكتل الواسعة الملتفة حول الوفد" (ص30).

ولم تكن المفاوضات بين سعد زغلول واللجنة أكثر من مناقشات تهدف إلى تقصى الحقائق التى يهدف إلى تحقيقها الوفد لمزيد من التعرف على الأفكار والقضايا التى يتبناها الوفد فى هذا الشأن. وخير سجل للمناقشات العقيمة بين سعد زغلول ووفده من جهة وملنر وجماعته من جهة أخرى يرد فى كتاب محمد كامل سليم، سكرتير سعد زغلول الخاص وعنوانه «صراع سعد زغلول فى أوروبا» الصادر عن مؤسسة أخبار اليوم بالقاهرة، هكذا يبدأ محمد سليم كامل تقريره فى مؤلفه المذكور تحت عنوان: "سعد وملنر يتفاوضان.. ويتصارعان":

ما كاد الزعيم سعد زغلول وأعضاء الوفد يصلون إلى باريس بعد الخروج من المنفى حتى تلقوا صدمتين مدوختين: الأولى، اعتراف ويلسون بالحماية البريطانية على مصر، فكان بذلك أول من تنكر لمبادئه وأهمها مبدأ حق تقرير المصير للشعوب المغلوبة على أمرها. والثانية، إغلاق أبواب مؤتمر السلام المنعقد فى فرساى فى وجه الوفد المصرى الذى حضر خصيصاً لعرض قضية مصر.

وسبق أن سجلت فى كتابى الأول عن ثورة 1919 آثار الصدمتين فى الوفد وفى مصر وفى بريطانيا، والآن أوضح بإيجاز الأعمال والنتائج المباشرة لذلك.

وفى باريس بدأ جهاد الوفد فى حركة إعلامية على أوسع نطاق وبنشاط معدوم النظير. مقالات موجزة منوعة كتبها الزعيم وعبدالعزيز فهمى ومحمد على علوية.

ونُشرتَ فى شكل إعلانات دفع ثمنها على أساس كل سطر. وانتداب محمد محمود للسفر إلى أمريكا للدعاية وشرح حقائق الموقف والتأثير فى الكونجرس، ونجح نجاحاً باهراً بلغ مداه عندما استصدر من الكونجرس قراراً بتأييد حق مصر فى تطبيق مبدأ حق تقرير المصير، بالإضافة إلى السخط العام الذى أثاره فى الشعب الأمريكى على ويلسن. ثم نشرات مطبوعة عن جرائم الإنجليز لمنع المصريين من عرض قضيتهم على مؤتمر  السلام للمطالبة بإلغاء الحماية وإعلان الاستقلال وتحقيق الجلاء بإنهاء الاحتلال البريطانى تنفيذاً لوعود بلغ عددها أكثر من 60 وعداً أصدرتها الحكومات البريطانية المتعاقبة.

وبعد فشل لجنة ملنر فى مصر بعد مقاطعة الشعب كله لها، عادت إلى لندن ورأت نفسها مضطرة تحت ضغط الظروف القاهرة إلى دعوة الوفد للمفاوضة معها، فسافر إلى العاصمة البريطانية ثلاثة من أعضائه استجابه لهذه الدعوة، ولكن ملنر رفض إلا مقابلة الزعيم سعد زغلول نفسه والمفاوضة معه. وأمام إصرار ملنر على ذلك وإلحاح الوفد جميعاً، اضطر الزعيم اضطراراً إلى السفر والدخول فى مفاوضات مع لورد ملنر.

ماذا أقول: مفاوضات كلا... إنها لم تكن مفاوضات بمعنى الكلمة، بل كانت نزاعاً مستمراً وصراعاً واختلافات فى وجهات النظر باستمرار، وكان من جانب ملنر، شيخ المستعمرين، لف ودوران وعناد، ومن جانب الزعيم صراحة وجلاد وجهاد يتجلى ذلك فى هذا الكتاب بأسلوب جديد فى شكل يوميات سياسية ونفسية.

وفى مصر، كانت الثورة عارمة تتأجج وتتفجر حيناً، ثم هدأت قليلاً ونارها تحت الرماد حيناً بمناسبة تلك المفاوضات" (ص3-4).

إنه ليس بخاف على أحد أن النظرة التى ينطلق منها ملنر وسلفه كرومر الذى نهج نهجه مرجعها الرؤية الاستعمارية التى كانت ديدن ملنر وسلفه ومفادها أن الامبراطورية البريطانية القوية أحق فى وصايتها على مصر، الإمبراطورية العثمانية الضعيفة، وأن تحكم بريطانيا فى شئون مصر الداخلية والخارجية يفوق فى حدوده سيطرة القوى الأجنبية داخل مصر، خصوصاً وأن تلك القوى كانت تعيث فساداً بمقدراتها خلال الشركات ورءوس الأمول التى استغلت ثرواتها.

وكذلك كان ملنر يرى أن الإمبراطورية البريطانية أكثر كفاءة لاستخدام الخديوى كأداة لتنفيذ مآربها من الإمبراطورية العثمانية. وهذا ما حصل فعلاً عندما تحول ولاء الخديوى من إمبراطورية سابقة إلى أخرى لاحقة. أى أن ملنر اعتقد اعتقاداً جازما أن الوصاية البريطانية على مصر تمثل الوجه المشرق بديلاً عن الوجه المظلم الذى ترزخ تحته مصر فى واقع الأمر (ولمزيد من التفاصيل انظر كتابه (انجلترا فى مصر، لندن 1893).

والآن، إلى الوجه المشرق حقاً الذى تشير إليه الرسالتان وإلى حميمية الخطاب الذى يوجهه سعد زغلول إلى صديقه وصديق مصر ولفرد بلنت. من هو بلنت حتى يكون موضع كل هذه الثقة من سعد زغلول؟

إذا كان كبلنج بوق الاستعمار الأول فإن بلنت الصوت الأول المعارض للاستعمار، إذ إنه عاش حياته يحمل كرهاً شديداً للإمبراطورية البريطانية الاستعمارية التى لم يأل جهداً فى توجيه النقد اللاذع لممارساتها القمعية فى إيرلندا والهند ومصر، كما تشير كتاباته وكتبه ومنها:

Ideas about India (1885), Secret History of the English Occupation of Egypt (1907); India under Ripton (1909); Gordon at Khartoum (1912); the Land War in Ireland.

 وتروى الليدى جريجورى فى مقدمتها لمذكرات بلنت أن ولفرد بلنت كان أول إنجليزى يُوضعَ فى السجن بسبب موقفه المتشدد من القضية الإيرلندية. هذا ويلاحظ حفيد بلنت فى مؤلفه ولفرد بلنت: مذكرات يكتبها حفيده (1961)، أنه إذا كانت "Calais" محفورة فى سويداء الملكة ماري، ملكة إنجلترا فإن "مصر" بالمثل، ولكن لأسباب مختلفة، محفورة فى قلب ولفرد بلنت (ص96).

يقول لنا عبد الرحيم مصطفى فى كتابه المذكور أعلاه الثورة العرابية أن الثورة العرابية "قد وجدت الأصدقاء فى إنجلترا ذاتها وعلى رأسهم ولفرد بلنت الذى عقد صلات الود مع عرابى ومحمد عبده ثم وضع كتاباً عن التاريخ السرى للاحتلال الإنجليزى لمصر (1907)  كان فى طليعة الكتب التى أنصفت الثورة المصرية، ولا يزال من أهم مصادرها حتى الوقت الحاضر..."(ص10).

وربما حثت هذه الشهادة المستحقة فى حق الكتاب المذكور: التاريخ السري... إلى تنبه المركز العربى للبحث والنشر فى القاهرة إلى إعادة نشره عام 1980 فى القاهرة بعنوان إضافى تصدر عنوان الكتاب نفسه وهو "الذكرى المئوية للثورة العرابية 1881". ويجدر بنا أن نذكر هنا أن ولفرد بلنت كان من أشد المناصرين لعرابى فى ثورته والمدافعين عنها بكل ما أوتى من إرادة.

ويظل السؤال يطرح نفسه، من هو ولفرد بلنت إذن؟ هو ذلك الصوت الذى استمر يدوى عبر تاريخ الاستعمار يناصر قضايا التحرر ويقف بجانب الشعوب التى كانت تنشد الحرية والاستقلال. هو علامة بارزة فى مناهضة الاستعمار ومناصرة أصحاب الحق الضائع. هو ذاكرة عصية على النسيان. حظى فى سنوات عمره الأخيرة بتقدير خاص ناله من عدد من المحدثين التنويريين على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم. ها هو باوند ينظم زيارة تكريمية للشاعر المخضرم فى مقر إقامته فى يناير 18 عام 1914 ضمن كوكبة من الشعراء المحدثين فى مقدمتهم ييتس. وفى ذلك العشاء الاحتفالى قدم كل شاعر قصيدة أوٌدعت فى وعاء مرمرى أُعد لهذا الغرض. وقد كان سروره عندما أيقن أن الحضور احتفى به كشاعر لا كسياسى مناضل. ولمزيد من التفاصيل حول تلك الزيارة انظر المقالة الافتتاحية فى مجلة الأدب الحديث (آذار 1971) تحت عنوان :

‏"A Peacock Dinner: The Homage of Pound and Yeats to Wilfred Blunt"

 وقبل تاريخ هذه الزيارة التكريمية بعام تقريباً، كتب ولفرد بلنت رسالة مطولة تموز 1913 إلى أحد المعجبين به وهو الدكتور سيد محمود الذى شغل منصب رئيس دولة للشئون الخارجية فى الهند مفادها نصيحة يقدمها إلى المجتمع الإسلامى الذى ينتمى إليه سيد محمود. تلخص الرسالة كتاب بلنت «مستقبل الإسلام» الذى يدعو فيه إلى وحدة بين المسلمين فى شتى أنحاء المعمورة كوسيلة تمكن المسلمين من الوقوف فى وجه الاستعمار المعتدى مؤكداً على استثمار ضعف الامبراطورية البريطانية فى مطلع القرن العشرين مقارنة بوضعها القوى فى العقدين الأخيرين من القرن الماضي. ويحذر بلنت فى رسالته المسلمين أو ما تمناه للرابطة الإسلامية ألا تعتمد على "شرف بريطانيا" الهش، إن صحت العبارة، لأنها لا تلتزم بوعودها لنصرة المسلمين، خصوصاً وهى تسلم أمورها إلى من يعبث بالعلاقة بين بريطانيا والمجتمع الإسلامى كما يتضح من تصرفات دزريلى العنصرية. ولا يتسع المجال هنا لعرض ما يرد من تفاصيل فى هذه الرسالة المهمة التى قام حفيد بلنت بنشرها فى كتابه المذكور أعلاه.

وفى هذا السياق، كتب سيد محمود رسالة إلى حفيد بلنت (أغسطس 1956) لا تقل أهمية عن رسالة بلنت المذكورة أعلاه، يعبر فيها عن إعجابه بجده مؤكداً على ما قدمه الجد من خدمات جليلة للمجتمع الإسلامى وعلى تأثيره البالغ على سيد محمود نفسه: "تعلمت التعامل بأمانة مع السياسة من جدّك قبل أن أقابل غازى بسنوات. لقد كان جدك عملاقاً فى السياسة وسبّاقاً بخمسين عاماً فى معرفتها" (ص191). ويمثل على ذلك بإشارة صريحة إلى معارضة بلنت الشديدة لإعلان وعد بلفور المشئون مستطرداً القول "إن الحكومة البريطانية ستصبح قريباً على يقين من حماقة سياستها المتعدية، التى لم تتنبه إليها فى حينها. وما قاله بلنت فى حياته أصبح حقيقة الآن" (ص193). هذا وقد ضمن الحفيد هذه الرسالة أيضاً فى كتابه عن جده.

ولا يفوتنا فى هذه المناسبة أن نذكر إشارة عابرة لكنها مهمة حظى بها بلنت فى الاستشراق إذ قام إدوارد سعيد بتبرئة بلنت من الاستشراق المعادى واستثناه صراحة من ممارسات المستشرقين أمثال: دوتى وبيرتون اللذين احتفظا بمعاداتهما للشرق، رغم كل الاهتمام بثقافته. ووضح إدوارد سعيد هذا الأمر بمقارنة ذكية بين انغماس بيرتون الشديد فى الثقافة الإسلامية العربية واحتفاظه فى الوقت ذاته بالموقف الاستعمارى للشرق من جهة وبين التزام بلنت الصادق بما يهم العرب والمسلمين دون مواربة.

 وكأن إدوارد سعيد هنا يحاكى بلنت كما يحاكيه سعد زغلول: "صديق مصر الكريم" وربما أكثر كصديق العروبة والإسلام.

وفى الختام لابد أن نستذكر المزيد من وفاء سعد زغلول لصديقه بلنت عندما كان إكليل الزهور الذى بعث به سعد زغلول إلى مسقط رأس بلنت فى جنوب بريطانيا أول إكليل زهور يٌوضعَ على قبر بلنت فى مثواه الأخير.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة