سناء مصطفى
سناء مصطفى


يوميات الأخبار

أممٌ أمثالكم

الأخبار

الأربعاء، 24 مايو 2023 - 10:47 م

 

سناء مصطفى

استرعى انتباهَ أخي مواءُ قطة صغيرة بجوار البيت، فهاتف أمي ليسألها إن كانت تقبل وجودها.  تخاف أمي من القطط، ولا تتحمل أن تتمسح بقدمها أو تلمسها قطة، لذلك كانت دهشته ودهشتنا كبيرة حينما وافقتْه على إحضار القطة للبيت.

لم يكن عمرها يتعدى أياما، تركتها أمها ومضت بعيدا، ربما أصابها اكتئاب ما بعد الولادة، أو ربما عضها الجوع في تلك الأيام المُهلِكات، فآثرت أن ترحل تاركةً صغيرتها لمن يرق قلبه، أو تغلبه إنسانيته.

دخلت بيتنا وهي لا تكاد بعد تفتح عينيها، فجهزت لها أمي ببرونة لتعوضها عن غياب أمها، وكانت تلبس في يديها قفازات قبل أن تحملها لترضعها أو لتمسح على وجهها وعينيها بفوطة مبللة.

كنا نتابع اهتمام أمي بالقطة بفضول، ونتساءل عن تلك القوة التي بدلتْ خوفها من القطط ونفورها منها، إلى رعايتها وتحميمها وإطعامها بيديها. كانت تجيب على تساؤلاتنا بأنها: تدابيرُ القدر، ومشيئة الله التي لم تجعل أمها تتركها إلا بجوار بيتنا، وكأنها أمانة يعلم صاحبها أننا لن نضيعها.

لأيام وأسابيع تالية لم ينقطع حديث أمي عن القطة. كانت كلما هاتفتها لأطمئن عليها، تحكي لي مغامراتها، وكيف أنها تبقى هادئة مطمئنة تحت قدميها، وهي تقرأ وردها اليومي من القرآن، وتتمسح بقدميها وهي تطهو الطعام، وتغسل الآنية، وترعى شئون البيت.

أو تتحملين أن تتمسح بكِ يا أمي!

تأنس في جواري، وأنا التي أتضرع أن يؤنسني الله في جواره.

تمر الشهور، وقد صارت القطة فردا من أفراد الأسرة يسأل عنها الذاهب والغادي. لا يثير فضولها البابُ المفتوح، تقف أمامه مترددة ثم تهرول للداخل. كنت أشفق عليها، وأسألها: لماذا لا تخرجين للتعرف على أصدقاءٍ، أو مواعدة حبيب؟ لماذا لا تجربين الحياة خارج هذه الجدران؟ كيف تحتملين هذا الملل والحياة الفارغة؟ لكنها كانت تنظر لي وكأنها تلومني: تعلمين ما الذي ينتظرني في الخارج، وتعلمين أن للمغامرة ثمنا باهظا جدا لا أقدر، وأنا الأنثى الضعيفة، على دفعه.

لكن فجأة استيقظتْ أمي يوما على تبدل حالها؛ إذ راحت تصدر بشكل مستمر أصواتا عالية حادة من المواء وخاصة بالليل، كما فقدت الشهية للطعام والشراب، وحاولت الهروب من المنزل كثيرا. كانت صدمة أمي كبيرة حينما قرأتْ لها أختي نتائج بحثها على الانترنت: إنه نداء الغريزة الذي لا يرحم.

رأيتُ أمي يومها في حال غير الحال. كانت ناقمة عليها، غاضبة أشد ما يكون الغضب، وبخاصة حينما تمكنت القطة من الهرب، ولمحتْها أمي من بعيد تتسامر وتأنس بجوار قط غريب من قطط الشارع.

-ناديْتُها، فنظرت إليّ ثم لم تتقدم نحوي أو تعرني انتباها. هذه التي ربيتها على يدي، وجعلتها تنام بجواري وعلى فراشي، تفعل الآن هذه الفعلة الشنيعة.
حاولنا أن نقنع أمي إنه نداء الطبيعة الذي لا مفر منه، والذي لا تملك كائنات الله حياله إلا الاستسلام، لكن أمي لم تتقبل فكرة أن تخرج القطة عن طوعها، وتهرب من أجل الغريزة رغم أنها حيوان لا يعي ولا يعقل.

قرأت مرة في "بريد الجمعة"، الذي كنت أدمن حكاياته، قصةً على لسان إحدى الفتيات تشكو من التربية الخاطئة التي انتهجها والداها في تربيتها. كانا متزمتين إلى درجة قاسية، حتى أن الابتسامة في عرفهم إذا زادت عن حدها تعتبر "قلة حياء". حينما تزوجت الفتاة عانت الأمرين بسبب حيائها المبالغ فيه، فقد كانت تستحي من كل شيء: أن تضحك، وأن ترتدي في بيتها قميصا بلا أكمام، وأن تُقْبِل على زوجها وتلقاه بقُبلة أو عناق رغم أنها تحبه، وحتى حينما حملت في طفلها الأول بعد زواجها بفترة قصيرة، كانت تستحي أن يعرف والدها أنها حامل!! ماذا سيظن بها؟ وهل سيؤذيه أن يتخيل أن ابنته سلمت نفسها بسهولة لرجل لم تكد تعرفه!   وحملت منه بهذه السرعة!! كيف ستضع عينيها في عينيه؟

لكن قطتنا فعلتها، ولم تخجل، أو يطرف لها جفن وهي تضع عيناها في عينَيْ أمي وتجلس في حجرها وتنام ببراءة كأنها طفلتها المدللة، رغم أننا لا نعرف من الذي أغواها، وصنع بها فعلته النكراء وتركها وحدها تواجه هذا المصير القاسي. الأكثر قهرا أنها لم تقوَ على التحمل وحدها، وجاءتنا تصرخ، وتطلب المساعدة والغفران.  

مرت الأيام والأسابيع، وظهرت عليها أعراض الحمل، فتغيرت مشاعر أمي ناحيتها من جديد: صارت تحنو عليها، وتصنع لها طعاما تحبه، وتشفق عليها من عبء الحمل، ثم تضع حملها، فتطمئن أمي عليها، وتراقب ما طرأ عليها من تغيير، وتقدم لها نصيبها مما تطهو من الطعام. كنا نسألها متعجبين من تغير موقفها نحو القطة فتجيبنا بأنها الآن ضعيفة ومسكينة و"شالت الهم بدري".

أنكرتْ أمي على القطة استسلامها لغريزة الأنثى، وكأنها ابنتها التي خرجت عن طوعها "ودارت على حل شعرها"، لكن مشاعرها نحوها تغيرت من النقيض إلى النقيض، حين رأت فيها الأم الضعيفة التي تركها الذكرُ وحيدة تتحمل عواقب ضعفها دون سند أو معين، حتى نَحَل جسدُها وخارت قوتها، وزاغت عيناها وهي تفكر في حِملها الثقيل. صرتُ أنا أيضا أتأمل حال القطة الأم، فأراها حزينة ساهمة، مستسلمة لصغيرتها التي تلتصق بها باحثة عن طعامها وأمانها وحقها في الحياة، وأقول: سبحانك ربي.

" وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُم"ْ
  
مينفعش ألعب مع حريم!

التحق منذ فترة قريبة بإحدى ورش تنمية المهارات التي أقدمها للصغار، طفل في الخامسة من العمر وابنة عمه في الرابعة. كانا في منتهى الجمال والتلقائية. يقتسمان معا ما يحملان من حلوى أو فاكهة، ويضحكان ضحكة طفولية تخلب الألباب. يمسك كل منهما بيد الآخر وهما يصعدان السلم أو يهبطان. كانت رؤيتهما هكذا تملأ قلبي سعادة وفرح، حتى جاء يوم تغيبت فيه البنت لمرضها، وحضر الولد وحده. كان حزينا ومهموما، ولأول مرة يحكي معي بكل براءة الأطفال وعفويتهم دون أن أسأله: ماما كل مرة بالعب فيها مع بنت عمي بتقولي مينفعش علشان أنا كبرت خلاص ومينفعش ألعب مع "حريم"، وهي مش "حريم" أصلا. أنا بحبها وعاوز ألعب معاها.

!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

علامات التعجب هذه هي ما غزا تفكيري وقتها، وأطلق خيول حزني على أجيال نرضعها منذ صرخة الميلاد أفكارًا مُشوَّهة، ونتكلم معهم بلغة تؤذي السمع والقلب والخاطر، ونحيد بهم عن طريق الخير والحب والجمال. إن أصل كلمة "حريم" في اللغة "هي كل ما حُرِّم انتهاكه"، و"حريم الرجل" تعني ما يقاتل دونه ويحميه، و "مكانٌ حريمٌ" أي مكان مقدس كالحرم تَحْمِيهِ وتُقاتِلُ عَنْهُ. كيف إذن جردنا الكلمة من معناها الجميل، وصرنا ننتهك باسمها هذه القيم الإنسانية السامية؟ إن الأكثر مدعاة للعجب أيضا أن من يفعل ذلك هي أم الطفل وليس والده مثلا. كيف لطفل في الخامسة من عمره أن يستوعب عقله الصغير وفطرته السليمة هذه التشوهات المجتمعية القاتلة؟ يا أيتها الأمهات ويا أيها الآباء! ارحموا أطفالكم من جحيم أفكاركم، واتركوهم لفطرتهم السليمة وقلوبهم الصافية.
  
معجزة

"أصبَحتُ فيكَ كما أمسيَتُ مكْتَئِبًا        ولم أقُلْ جَزَعًا يا أزمَةُ انفَرجي"

أنت في الغياب كما أنت في الحضور. أنام وبين عينيّ قُبلتك، وأصحو وقد تدلت عناقيد الشوق من صبارةٍ كانت فيما يقول الرواةُ كرمةً تمسِّد على قلبين، استراحا تحت فيئها، وراحا يتقاسمان نصيبا من وحدةٍ كانت كغزالة شاردة في سهولهما ترعى.  

أخيرا سينتهي الشتاءُ، وحده الذي يذكرني بغيابك حين يطرق المطر بابي، ويدعوني للرقص.. يبدو أنه كان ينصت في حياة أخرى لوعودٍ وأمنيات.
أنا وحيدةٌ إلا من هواء يتنفس عرَقك..

أصابعي تقتفي أثرك على جلدي.. نمَتْ هنا وردةٌ حين غفوتَ، واشتهتك تفاحةٌ نضجتْ قبل أوانها فقط حين ألقيت على الغصن السلام.
أبكي فيبكي نهرٌ، ويخرّ جبل..

أحزن، فيصمتُ عن بوحه نايٌ، وتعوي في أسرابها ذئاب البراري..

أقول: إنه الحزن الذي انفلتت منه قرب نافذتي عينٌ، وتلكأ عن رفاقه ضلعٌ، بينما حبيبي يلملمه في حقائبه ويرحل.  

إنه الحزن الذي يرعى فينا كوحشٍ كاسر، ولن تنجينا من أنيابه سوى معجزة.

"أصبَحتُ فيكَ كما أمسيَتُ مكْتَئِبًا ولم أقُلْ جَزَعًا يا أزمَةُ انفَرجي"

أنت في الغياب كما أنت في الحضور. أنام وبين عينيّ قُبلتك، وأصحو وقد تدلت عناقيد الشوق من صبارةٍ كانت فيما يقول الرواةُ كرمةً تمسِّد على قلبين، استراحا تحت فيئها، وراحا يتقاسمان نصيبا من وحدةٍ كانت كغزالة شاردة في سهولهما ترعى.  

أخيرا سينتهي الشتاءُ، وحده الذي يذكرني بغيابك حين يطرق المطر بابي، ويدعوني للرقص.. يبدو أنه كان ينصت في حياة أخرى لوعودٍ وأمنيات.

أنا وحيدةٌ إلا من هواء يتنفس عرَقك..

أصابعي تقتفي أثرك على جلدي.. نمَتْ هنا وردةٌ حين غفوتَ، واشتهتك تفاحةٌ نضجتْ قبل أوانها فقط حين ألقيت على الغصن السلام.

أبكي فيبكي نهرٌ، ويخرّ جبل..

أحزن، فيصمتُ عن بوحه نايٌ، وتعوي في أسرابها ذئاب البراري..

أقول: إنه الحزن الذي انفلتت منه قرب نافذتي عينٌ، وتلكأ عن رفاقه ضلعٌ، بينما حبيبي يلملمه في حقائبه ويرحل.  

إنه الحزن الذي يرعى فينا كوحشٍ كاسر، ولن تنجينا من أنيابه سوى معجزة.
 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة