أمل دنقل
أمل دنقل


محمد‭ ‬المخزنجي يكتب.. ‏‭‬لمحة‭ ‬إلى‭ ‬قصائد‭ ‬أمل‭ ‬دنقل

أخبار الأدب

السبت، 27 مايو 2023 - 12:44 م

أحمل دواوين الشعر معى أينما ذهبت، وفى الشعر غوطة من شجر مجتمع وماء. أرتوى وأغتسل من زمزم القصائد كلما سففت من دنيا التراب ترابا وشربت من دخانها والصهد. وأستظل بكرمة الشعر، والتقم الحب من حلاوة العناقيد، كلما جعت إلى الجمال واستعرت فوق رأسى شمس مواسم الجلافة الفظة

وأيضا، لأغتذى من كثافة الصور لعلها تنتقل عبر النثر إلى قصص جد قصار أبتغيها، وقصرها البالغ يوجب الاقتصاد البالغ، وليس مثل الشعر فقيه اقتصاد: يدخر مدينة فى نافذة، وحقلا فى سنبلة، وبحرا فى سمكة، وأفقا متسعا فى رفة عصفور صغير.

تدفعنى يد النبوءة القديمة المرتعشة التى مدتها العجوز فرجينيا يوما:  «القصة لا محالة سوف تصبح شعرية» ، وترتفع -محذرة- يد إدريس الطيبة الكبيرة، ويهدر صوته العميق:  «لغة القصة يجب أن توزن بميزان الذهب» ، وأجدنى على عتبة  «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» . أفتح يدى للدمع المنهمر، فتسقط فى الراحة لؤلؤة تنبئ بمكمن القص. القص بأبسط معانيه واصفاها، كما يقول المعجم: قص الشيء أى تتبع أثره.

ولكى أسفر عن روح هذا التتبع، أستميح الشعر عذرا إذ أصفه وصف الناثرين، وإن كنت لا أغير مواضع الوقفات أو اجترئ على إرادة التفعيلة. هات لؤلؤتك الصغيرة يا أمل. يقول:

 «تقفز حولى طفلةٌ واسعةُ العينين.. عذبةُ المشاكسة

‏)كان يَقُصُّ عنك يا صغيرتي.. ونحن فى الخنادْق

فنفتح الأزرار فى ستراتنا.. ونسند البنادقْ

وحين مات عَطَشاً فى الصحَراء المشمسة..

رطَّب باسمك الشفاه اليابسة..

وارتخت العينان(

فأين أخفى وجهيَ المتَّهمَ المدان؟» 

تسكرنى خمرة السياق المحلى بروح الشعر، فأتمتم: ماذا يكون أعذب القص إلا ذاك؟ وأتشبث فى انتشائى بصوت للنقد يعضدنى، فأرجع قولا لأوكونور:  «القصة القصيرة هى تحليل التجربة الإنسانية بطريقة اختزالية» ، فها هى ذى تجربة إنسانية- من التجارب التى يعدونها الأربع الكبرى فى مسيرة الإنسان: الحب، السجن، الحرب الموت-وها هو ذا عرض فى ذروة الاختزال، فماذا يكون القص إلا ذاك؟

يعاجلنى صوت أوكونور متحدثا عن القصة القصيرة، ثانية، بأنها:  «محاولة للوصول إلى نقطة من الإشراق»  ويريد الصوت المنفرد أن يسدر فى القول، فأكفه ليسمع إفحاما من  «يوميات كهل صغير السن» :

 

 «تدق فوق الآلة الكاتبة القديمة،

وعندما ترفع رأسها الجميل فى افتراق الصفحتين،

تراه فى مكانه المختار.. فى نهاية الغرفة:

يرشف من فنجانه رشفة

يريح عينيه على المنحدر الثلجي، فى انزلاق الناهدين!

‏)عينيه هاتين اللتين

تغسل آثارهما عن جسمها – قبيل أن تنام – مرتين)!

وعندما ترشقه بنظرة كظيمة

فيسترد لحظةً عينيه: يبتسم فى نعومة

وهى تشد ثوبها القصير فوق الركبتين!

فى آخر الأسبوع:

كان يعد – ضاحكًا – أسنانها فى كتفيه

فقرصت أذنيه..

وهى تدس نفسها بين ذراعيه.. وتشكو الجوع» 

وأرفع عينى أسأله: ما رأيك الآن يا أكونور؟ ألم يستوقفك تحليل للتجربة الإنسانية بطريقة اختزالية، وألم تر محاولة للوصول إلى نقطة من الإشراق؟ (والإشراق بالقطع لا يعنى التفاؤل...بل يعنى- ربما- الوصول الى منتهى التتبع. إضاءة نهائية للكل- ليست بالضرورة ساطعة أو كاشفة أو فاضحة 

بعد هنيهة صمت أسمع نبرة التردد فى الصوت المنفرد، وهو يتكلم عن عناصر الأقصوصة: العرض، والنمو، والعنصر المسرحى، فأعاجله بهذه من  «الحزن لا يعرف القراءة» :

 «جوارب السيدة المرتخية

ظلت تثير السخرية

وهى تسير فى الطريق.

وحين شدتها: تمزقت..

فانفجر الضحك، ووارت وجهها مستخذية.

وهكذا أسقطها الصائد فى شباك سيارته المفتوحة

فارتبكت وهى تسوى شعرها الطليق

وأشرقت بالبسمات الباكية!» 

وران الصمت على صوتي، وعلى الصوت المنفرد، ثم جاء صوت  «وايخيناوم»  مختلطا بصوت صبرى حافظ، فى همس لا أعرف إن كان الموافقة أو الاحتجاج:  «جوهر الأقصوصة فى حشدها لكل ثقلها فى اتجاه النهاية حيث تصير النهاية هى المحور» . وأستزيد أمل، فيزيد من  «صفحات من كتاب الصيف والشتاء»

 «فى الفُندقِ الذى نزلتُ فِيه قبلَ عامْ

شارَكَنى الغرفة

فأغلقَ الشرفة

وعَلَّقَ (السُّتْرَةَ) فوقَ المِشجبِ المُقَام

وعندما رأى كتابَ (الحربِ والسلامْ)

بين يديَّ: اربدَّ وجهُهُ..

ورفَّ جفنُه.. رفَّهْ

فغالبَ الرَّجفهْ

وقصَّ عن صَبِيَّةٍ طارحها الغَرامْ

وكان عائداً من الحربِ.. بلا وسام

فلم تُطِقْ.. ضَعْفَهْ

ولم يجدْ حين صحا إلا بقايا الخمرِ والطَّعام!

ثم روى حكايةً عن الدّمِ الحرامْ

‏ الصحراءُ لم تُطِقْ رَشْفَهْ..

فظلَّ فيها, يشتكى ربيعهُ صَيْفَهْ(..

وظلَّ يروى القصصَ الحزينةَ الخِتامْ

حتى تلاشى وجهُهُ

فى سُحُب الدُّخانِ والكَلامْ

وعندما تحشرجَ الصوتُ بِه، وطالتِ الوقْفهْ

أدرتُ رأسى عنه..

حتى لا أرى دمعَتَه العَفَّهْ

ومن خلايا جسدي: تفصَّدَ الحزنُ..

وبلَّل المسَامْ

وحين ظنّ أننى أنام

رأيته يخلعُ ساقهُ الصناعيةَ فى الظَّلامْ

مُصَعِّداً تنهيدةً

قد أحرقَتْ جوفَةْ» 

وأصعد أنا الآخر تنهيدة استعذاب لأقصوصة جميلة حاذقة الصنعة والإيلام، ثم يحل الصمت عميقا هذه المرة، فأود لو أقطعه بسؤال- معكوس- لصاحبة النبوءة القديمة: لكن يا فرجينيا. هل تصير القصيدة يوما قصصية؟ فابتسمت ولم تجر جوابا.

وفى الصمت المطبق تراءى لى الشاعر كما أبصرته يوما: فى سفح السرطان وذروة القوة الإنسانية، يقرأ. كان يقرأ قصا  «خريف البطريرك» . وعندما حدقت فيه تلاشى، ومضى عنى، فأطرقت متمتما:

رحمه الله. كان يمتلك موهبة قصاص فذة. لكنه كان شاعرا ولم يكن من الشعارير، ففاصل، وفصل، وظلت أقاصيصه تختبئ، بتواضع رائع فى قلب القصائد. 

لقد أستمنح القصة (وهى كالجدى العجوز: أطيب الفنون وأرحمها- فى أيدى الطيبين) فمنحته من روحها سمت التشخيص والتجسيد اللذين يتجليان عبر عمليات التتبع، والنمو، والاحتشاد فى اتجاه النهاية، والسعى إلى نقطة الإشراق. وفاز بعذب الإبانة، والجاذبية، والشد الرقيق الرفيق. وربما بأحد أسرار تفرد شعره: البسيط، الجميل، الراقي.

                                                 بإذن خاص من الكاتب

                 سبق نشرها فى مجلة إبداع- مايو 1984

نقلا عن عدد أخبار الأدب بتاريخ 28/5/2023

اقرأ أيضًا

 خالد جلال : أبناؤنا من ذوي الهمم يتألقون في "مغامرات جيمو"


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة