صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه


محمد بدوى يكتب : كبرياء الجنوبي

أخبار الأدب

السبت، 27 مايو 2023 - 12:44 م

 

عرفت أمل دنقل مبكرًا، ربما قبل أن أدرس فى الجامعة ، وكنت أشترى من نقودى القليلة بعض المجلات، وفى مجلة الكاتب قرأت مرثيتة لمازن جودت أبو غزالة، وكلما أعدت القراءة - التى لم تكن نموذجية - اندهشت وانتشيت ، لم أكن أعرف معنى الدهشة ولا معنى النشوة، حينذاك، وما أذكره أننى بعد القراءة الأولى الصامتة ، حدقتُ فى الفراغ، ثم أعدت القراءة لأتمكن من «قراءتها» بصوت عال، قرأت وأعدت القراءة. فيما بعد حصلت على نسخة من ديوان «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» من فرع مكتبة دار المعارف فى شارع بور سعيد ب السيدة زينب، وكان الموظف يظن الشاعرة امرأة. مما منحنى فرصة للتعالم وأنا أمد يدى إليه ب 45 قرشًا مصريًا. ثمن النسخة التى أوسعتها وأصدقائى قراءة.

وبعدها بقليل عرفت الشاعر ثم صرنا صديقين، بمعنى ما. وفى مقهى ريش كان أمل يجلس مع يحيى الطاهر وحين جلست معهما بعد أن سلمت على أمل ، وقال يحيى وهو يستدير بجذعه نحوى «أنا يحيى الطاهر عبد الله القاص الشيوعى....إنتا مين؟ وأذكر أننى ارتبكت «واتخدت» كما نقول فى العامية ، ولكن أمل زجر يحيى وأخبرة أننى «صاحبه»، وهو تقريبًا ما حدث مع جابر عصفور بعدها على وجه التقريب، بعد ندوة عن ديوان «العهد الآتى» فى قصر ثقافة جاردن سيتى ، حين كنا نسير متجهين إلى «وسط البلد»، أمل وعبلة وجابر، وقال له أمل بعنف إنسى إن محمد تلميذك، وإلا لا تسهر معى.

اقرأ ايضاً| حان الوقت كي تراهن على نفسك

ولسبب ما لم يكن أمل فظّا معى كما كان مع آخرين. وقد فسر لى ذلك بأنه أحس أننى قروى مثله، مع مرور الأيام فهمت أنا أنّ ما كان يظنه كثيرون «عنفًا»، لم يكن سوى دليل خوف ما من المدينة التى صار هو بعد ذلك، هاجيها ومادحها وأحيانًا حارسها، حارسها من مَن؟ من أعداء متخيلين، يراهم ويرقبهم، ويرسمهم فى مشاهد ولوحات، وربما وضعهم مع أمثالهم فى أزمنة سابقة.

وكان أمل دائم التوجس من «البرجوازيين» و«البورجوازيات» خاصة. وقد تجلى خوف أمل فى قصائده سخرية عاضة وتهكمًا، يقابله تهكم حان على المهمشين والمهمشات، فى المقاهى والبارات وغرف الفنادق الرخيصة. إذ ظل أمل مجردًا من «البيت» إلا بيته فى القصائد والأحلام.

وفى ذاكرتى وأنا أكتب الآن يأخذ أمل سمت رجل فارع غاضب العينين، يصحو من نومه متأخرًا ويهبط إلى المدينة العجوز، إلى المقهى تحديدًا، فضاء كل شيء. حين يكون وحده يقرأ الصحف، ويحلّ الكلمات المتقاطعة، وحين يأتى الأصدقاء من مواطنى المقهى يبدأ الحديث فى السياسة والنميمة، ويمارس السخرية من الجميع. لكنه -أحيانا- يهرب من ذلك «اللغو» كله إلى مقهاه سرية، لم يكن يعرفها أو يرتادها هؤلاء الأصدقاء، ويحرص ألا يعرفوها ، وفى هذه المقاهى يكون صامتًا شاردًا، وهو يوقع على خشب المنضدة بأصابعه النحيلة، ذاهلًا عن كل شىء. يحدث هذا حين يكون شيء ما غامض محتدم يمور فيه وهو يحاول اقتناصه، وبرغم خبرته الطويلة باللغة، والإيقاع، إلا أنه، يفّر منه، مرة بعد مرة وحين يخرج من جيبه ورقة صغيرة، ويكتب شيئا على عجل، فهذا يعنى أنه -تقريبًا- اجتاز عقبة البدء.

أمل من أقاصى الجنوب «جاء» حيث الحيز المصرى المهمش، مع ذلك يأتى منه الشعراء والمفكرون والكتاب، وعمال البناء. فى هذا الجنوب فقر مدقع- إذن غنى فاحش- ورجال يتسمون بالصلابة ويعتقدون أنهم أحفاد الفراعنة، والعرب الذين كان أمل نفسه ينسب نفسه إليهم، فيقول عن نفسه أنه «مروانى» نسبة إلى الأمويين منافسى آل هاشم تاريخيًا، الذين قاموا بمأسسة الإمبراطورية وحولوها من الشكل الأولى البسيط إلى دولة على النمط السائد آنذاك لدى الفرس والرومان ، بيد أن أهم ما فى هذا الجنوب هو اللغة التى تتبدى فى فصحاها وعاميتها، كأنها فى طقس يومى، يمارسه الجميع. مما يعنى هيمنة «الشفافية» برغم «التقاليد الكتابية».

وهو ما يظهر فى لغة طة حسين ومحمود حسن إسماعيل، ويحيى الطاهر عبد الله، والأبنودى. ولدى أمل دنقل، لكن مع قدرته على السيطرة عليها، بحيث توضع فى حال من الكبح. لن نجد اللغة فى حالة عُرس، ولا فى حالة «وجد» فالشاعر ليس نبيًا بيانيًا، لكنه «سيد» مسيطر، لكن هذه السيطرة لا تصل إلى حد تقصد «الشح» اللغوى. إنها تقوم بكل وظائفها المعهودة، لكنها تخشى القصور الدلالى، أو انفجار المجاز، أو تبرج العلامات، ذلك خوف معهود لدى هؤلاء الشعراء الحالمين بفعل اللغة فى العالم، يقود غالبًا إلى توازن حرج بين العلامة ومدلولها وما تشير إليه فى العالم، بل فى عالمها وبين أصحابها. لذلك كان دنقل دائما.

ويميل إلى التكثيف والإيجاز ويكره أن يستولى عليه هوس المجاز أو الاستعارة، ربما فرقًا من «الالتباس» أو خوفًا من تشتت الدلالة أو خشية من الإسراف العاطفى، وربما يعنى ذلك أيضًا ميلًا لمبدأ كلاسيكى معروف هو الصرامة التشكيلية.

ولكننى أراه سمة ما بعد حداثية تسعى إلى دمج الشعرى فى الاجتماعى والنأى به عن انغلاق النص وجنوح الحداثة إلى تكسير الدلالة والتعدد البنيوى والتأويلى، أى المفهوم الذى شاع بعد تنظيرات أدونيس وتلاميذه عن ضرورة تخطى الشاعر لما أنجزه، والسعى الحداثى إلى تعمد تكثير الدلالة والتعدد البنيوى التأويلى، المفهوم الذى شاع بعد تنظيرات أدونيس وتلاميذه عن ضرورة تخطى الشاعر لما أنجزه، والسعى إلى التجاوز، بوصفه عقيدة شعرية، تعنى صيرورة لا تنتهى للتجريب وقصر عمل الشاعر – فحسب- فى تغيير «أدوات إنتاج الشعر».

وأعود إلى جنوبية أمل دنقل، بعد هذا التداعى، التى لم تتجل فى ثنائية القرية – المدينة فقد كان أمل دنقل لا يرى فى الريف براءة أو نقاء. إن البؤس يجتاج العالم، مدنه وقراه، بؤس مادى وروحى يجاوز منطق الثنائية. وليس لدى أمل دنقل معركة بين الماضى: الريف، القرية، الأصالة، البؤس أو حتى المجد وبين الحاضر.

الجنوب وهب دنقل شعورًا مسرفًا بالكبرياء والكرامة، يشهرها فى وجه المدينة التى تقتل إنسانية الإنسان، ذلك واضح فى تعاطفه مع الطلاب الذين تلصق حدقاتهم بملف الاعتراف، ونساء آخر الليل الباحثات عن زبائهن، وخلفهن ملصقات الفتح والعاصفة، والفتيات اللواتى يجهضن على سلم الحافلة،....إلخ.

مع هذا لا نجد لدى لدى دنقل يوتوبيا، أو حكاية كبرى، فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد، ليس لدى دنقل سوى السؤال الاستنكارى، والتهكم، والمفارقة، وقلب المرويات الخلاصية. حتى المتكلم فى القصيدة «سفر التكوين» ليس صوتًا إلاهيا ولا كلمته لوجوس يخلق. إنه صوت هش لا يرتوى إلا من الدموع، وحين يتأنسن يغترب فليس هو المسيح بعد الصلب كما فى القصيدة الشهيرة للسياب، لكنه «الصليب والمصلوب» الذى يصرخ طالبًا البراءة.

ولكن الجنوب لم يظهر بوضوح وجلاء، إلا فى ديوانه الأخير الذى يتصدره قصيدته الشهيرة «الجنوبى». ظهر الجنوب حين أفرج أمل عن مكونات ذاكرته التى حالت «الكبرياء» المسرفة دون ظهوره.

وهل نحن إزاء «كبت» متعمد أو غير واع لبؤس الطفولة، حرصًا على عدم الانحناء؟ أظن أن الجنوب – وجراح الذات- يظهر على نحو مراوغ، وما بؤس المدينة سوى تعبير عن مقاومة «العدمية»، لكن دون أن تعرض الذات جراحها على الملأ.

إنّ هذه الجراح تدمج فى جراح أشباهه. وقد كانت تقنية القناع لدى أمل وسيلة لكى يتحدث بصوت مزدوج النبر، صوت الشاعر وصوت الشخصية المستعارة، لقول شعرى يراوح بين الغموض والوضوح، بين الخاص والعام. إن صوت الثائر المشنوق سبارتكوس، وصوت أبى نواس الذى جعل الشاعر من أمه «خادمة فارسية/يتبادل سادتها النظرات لأردافها»، وصوت كليب الذى يطالب بالثأر، تجعل الذاتى يتطابق مع العام، بذلك يتاح لآلام الذات أن تغادر منطقتها وأطمارها وتتألق على نحو مراوغ.

مقاومة العدمية تعنى افتقاد اليقين، لكن مع إصرار على خلق معنى، لكن أى معنى مع حقيقه كالموت الذى يصعب حصر تمثيلاته ومجازاته فى قصيدة دنقل؟!. أى معنى والبؤس تصرخ به الأصوات والأعين والشوارع، وحتى «الصيف الخطر» أى معنى مع تبدد الحلم بعالم سعيد، لأن خلف كل قيصر يموت، قيصر جديد؟ المعنى الفرح كامن فقط فى الشعر «الفرح المختلس»، وفى رفض الانحناء، وفى أغنية «الثورة الأبدية»، التى «لا تموت». أى فى شرف رفض «قدر الإنسان»: أن يعيش الرجل/ الشاعر منتصبًا بينما ينحنى القلب «يبحث عما فقد كما يقول فى رثاء «يحيى».

بعد ديوانه الأول -تاريخيًا- مقتل القمر، غادر دنقل الرومانسية، بل أسرف أحيانًا فى زجر ما يشى بها. لقد صارت قصيدته «إليوتية»، تسيطر على الانفعال وتقده رموزًا ومجازات، وتهكمًا وسخرية ومفارقات. والأهم إن «الإليوتية» مكنته أن يستبدل بالصوت الواحد فى مقتل القمر، تعددًا فى الأصوات، لا على مستوى متنة الشعرى بل على مستوى القصيدة الواحدة.

لا شك أن دنقل يتوزع صوته بين «النبى» و«المغنى»، لكنها نبوءة خائبة السعي، وغنائية تخجل من الغناء، فالمغنى لا يقاوم العدم، إنه يغنى بهاء العالم وبهاء اللذة، وبهاء الكائنات، ومن ثم فهى غنائية مجروحة، إن ثمة حذقًا شعريًا، وسيطرة على اللغة وكبح جماحها -وهذا ملمح كلاسيكى - بل ثمة «شبق لغويًا» مضمرًا كالنسغ، وعلى نحو معقد، لكن هذا الشبق لا ينتج ما أسميه «شعرية اللذة» بل ينتج مقاومة لواحدية الصوت عبر السرد والتشذير، والحرص على التقاط المفارقات، واستعارة المرويات المقدسة لكن مع الانشقاق عليها. لكن هذا كله، يتبدى أحيانًا إسرافًا فى الحذق، بحيث يصبح ضاغطًا وولعًا بالإسماع الصوتى العالى، ورغبة فى إشباع الدلالة.

وبقى أن أشير إلى ملمح أخر، علامة من علامات التنازع لدى أمل، لقد شهر دنقل بأنه شاعر الرفض، يبدو لى أن هذا الرفض لم يكن جذره أيديولوجيًا، بل كان ابن تجربة وجود. ما يهمنى أن دنقل لم يملك إيديولوجيه شعرية مغلقة.

وبرغم أثر إليوت الجلى، فالشعر يتأبى على التعريف، ومن ثم على الحدود والغايات، الأحرى أننا مع قلب «للإليوتيه»، الشعر خلق، والشاعر كائن ممتاز يدرك العالم ويعاينه عبر حدسه، لكنه ليس مطالبًا أن يحمل عبء تفسير العالم ميتافيزيقيًا، كما يرى عبد الصبور- الإليوتى أيديولوجيا - ولا يكتب ما نسيه الإله كما يظن أدونيس ، إنه يقول ما يأتيه من ظنونه، كما يقول أبو نواس، ولا يوجد ما يمنعه من «الصراخ»، فحتى الصراخ، أحيانًا، ما يكون شعرًا، لكنه صراخ كائن، لم يطمئن قلبه يومًا، «فمتى القلب فى الخفقان اطمأن»، ربما يفسر هذا ما أشرت إليه من النبوة الخائبة والغنائية المجروحة، وربما يكون مدخلًا لفهم ازدواج الصوت وتكثره.

وقد قلت فى أول الكلام إننى عرفت أمل دنقل فى بدء معرفتى بالشعر. وتعمقت معرفتى به فى مرضه، مرض الموت، وعرفت طرقه الملتوية فى التعبير عن نفسه، وفهمت علاقته المعقدة بالعالم، وإدراكه لما فيه من اختلال ومقاومته له، كما يجدر بشاعر صنعه عالمه وصنع هو عالمه فى القصيدة.

ولا أحب فى شعره هذا التوق المستحيل إلى السيطرة على اللغة، فأحيانا ما يكون التلعثم شعرًا أو دالًا على الشعر، ولا أحب استعماله «للصفات» -فى التركيب النحوى- من أجل اشباع الدلالة، وأحيانًا يزعجنى الإسماع الصوتى العالى عبر قوافيه الحادة، لكن هذا كله، لم يمنعنى من قراءته وإعادة القراءة، وتدبر لغاته ومجازاته.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة