صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه


علاء خالد يكتب : كان شعر أمل دنقل جزءا من شفاهة لحظة تاريخية

أخبار الأدب

السبت، 27 مايو 2023 - 02:09 م

فى سنوات الرفض فى مصر، التى بدأت مع زيارة الرئيس السادات لإسرائيل، تعرفت على أمل دنقل وقصيدته «لا تصالح». كانت القصيدة مزيجا من مقاومة شعرية لخطاب سياسى استسلامي، مع استدعاء لمرجع تاريخى عربى مثل «زرقاء اليمامة»، بجانب الاستشهاد بفكرة الأخوة وزمن الطفولة، فتحولت القصيدة إلى مساحات من الترميز العاطفي، والخطابي، معا. وبالرغم من نبرتها المباشرة الآمرة « لاتصالح»، إلا أن القصيدة نجحت فى أن تلتف حول مأزق المباشرة السياسية، وتضعها ضمن إطار جديد.


وكانت الذات السياسية الأخلاقية مسيطرة على المشهد منذ الستينيات، وموهبتا التمرد والتمثل، لم يكونا كاملين. ربما اقتطع أمل دنقل لذاته الخاصة مكانا داخل هذه الذات السياسية، ربما صنع مكانا عاطفيا له مرجع نفسى غير سياسي، بالرغم من تلبسه بموقف الرافض؛ بقدر عمره، وبقدر موهبته، وبقدر السياق الثقافى الجامد الذى عاش فيه. دائما كان هناك سقف للموهبة وللتمرد وللتفرد والذاتية، مهما حاولت التحليق خارج هذا السقف، ليس بسبب قمع السلطة فقط، ولكن بسبب غياب التجربة الوجودية المزلزلة، التى يمكنها أن توسع من مواقع الجدران حول الذات الشعرية، والإنسانية بشكل عام.

اقرأ ايضاً أحمد يماني يكتب : في الشعر كل شيء مباح

 

ألمس فى شعر أمل دنقل موهبة خاصة، وقدرة على الارتجال الشعري، وعلى تمثل ذات جماعية كانت هى هدف تلك المرحلة التاريخية، التى وسمتها السياسة فى كل تفاصيلها، وأندهش أن قصيدته «الكعكة الحجرية»، كانت أغنية مظاهرات الطلبة عام 72.

بالتأكيد هى لحظة فريدة يجب أن يؤرخ لها، لحظة التحام الشعر بالناس، وأن يجد الناس فى الشعر ذواتهم الرافضة، ذلك الرفض الموقع بالموسيقي، كاكتشاف الغناء فى القبائل القديمة، الذى كان جزءا من الرابطة الحميمة التى تجمعهم، هو والرقص.

ولكن هناك تساؤل، هل كان هناك «ناس»، بالمعنى الشعبى الدارج للكلمة، كما حث فى ثورة يناير، أم مجرد فصيل سياسي، وثقافي، تكلم باسم الأغلبية، ووضع هذه القصيدة وصاحبها فى هذه المكانة؟

كان شعر أمل دنقل جزءا من شفاهة تلك اللحظة التاريخية، بجانب الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم  اللذين شكلا ظاهرة غنائية، سريع التحول والتبنى والتمثل من سياقات ثقافية واجتماعية نخبوية، ويحتوى داخله على ما يوحده مع الذاكرة الجماعية. لحظة الشفاهة هى لحظة فرح عارم بالتعاضد والتمثيل الجماعي، وشعر أمل دنقل كان يقف، مع غيره، وراء هذا الفرح.

أى لحظة إيديولوجية، بشكل ما، هى لحظة شفاهة، أن نراهن على كل ما بداخلنا ونرتجله سريعا، بدون حساب للمستقبل، كل هذا يحدث أمام إغراء التغيير، التحول، أو اليأس، فالذات تريد أن تقول كل ما عندها قبل أن تختفى أو يتغير السياق من حولها، لذا يكون  خطاب هذه الذات فاجعا، وسقوطها مدويا.

داخل هذه الذات النوعية التى كان يكتب من خلالها أمل دنقل، ستجد أشخاصا ووجوها، ومحبوبات، ومواقف ملتبسة وغموضا، وكلاما مؤجلا وأماكن وتفصيلات وخيبات، ستجد ذاتا تتراوح بين الانكسار والسمو. هذه الذات لا تخدم فقط على فكرة الرفض أو التمرد وإنما تفسح المجال أمام أدوات التمثيل الأخرى للوعى الإنساني، كالحب، والتعاطف، والحزن، والوحدة. تلمح رقة ما وراء هذا الرفض.جمع أمل، فى شعره، بين المباشرة والعمق، وأظن أنها موهبته الخاصة، كانت تسبق أى وعى سياسى انخرط فيه.يظل للموهبة والإنصات لها، دور خلاق، كمرجع لتجربة وجودية متجاوزة، بتكوينها القلق الذى يتنافر وربما يتعالى على أى وعى مضاد لها.

لا يمكن أن أنسى فى هذا السياق الشاعر السورى محمد الماغوط، واعتقد أنه أيضا كان مرجعا شعريا للرفض، لتمرد جذرى سياسى وديني، ولكنه يحتفظ بشجن رومانسى لتلك الذات المقهورة، أو المُطاردة التى يحملها. مسرحه ودواوينه يؤسسان للحظة الشفاهة نفسها، القصيدة عنده كلام ممتد لا آخر له، وكل قصيدة ترتبط بغيرها. لاشيء عنده اسمه وحدة القصيدة، وكذلك أفكار مسرحه تتناقل من مسرحية لأخرى، حول السلطة والحرية والذات الوحيدة الضائعة التى تواجه قدرا فى غاية القسوة. كأننا أمام سياق درامى عميق يتوالد من نفسه ويتمدد بلا نهايات.

وربما هى جدارة محمد الماغوط وكذلك أمل دنقل، أن المأساة متشعبة ومتراكبة، وأحيانا اختيارية، وليست أحادية، لذا هناك حوار ممتد بين ذاتيهما وبينها حتى النهاية.

عند أمل إخلاص تجاه أفكار كلية، مثل «الوطن»، من كثرة الإلحاح، يتحول الوطن إلى «مقدس» معرفى ونفسى لايمكن المساس به، ولكن تلمح خلفه مفهوم الأصالة والتضحية والنزاهة، والزهد، كلها تلخص معنى هذا الوطن لهذا «الجنوبي» المرتحل من منبت ولادته، والذى بحكم موقعه الجغرافى والثقافي، يعتبر نفسه «الأصل»، الممثل الأهم لهذه الكتلة  السكانية والثقافية، فهو الأحق بتمثيلها بسبب امتداد الحضارة أو التاريخ وصفاء هذه البفعة الجغرافية، إلى حد كبير، فالميراث الجمعى فى «الجنوب» سابق على الميراث الفردي، يصل أحيانا إلى حد التمايز أو التعالي، عن أى تمثيل آخر للوطن، كأنه يقول أنه الابن الوفى الأحق بالتعبير عنه.

نلحظ مدى تركيب علاقة «الأبوة» بهذا الوطن، وهى أيضا بالنسبة للجنوبى علاقة مقدسة.هناك سعادة دائمة تتخلل شعره بأنه لم يخن هذا الوطن، كأنه الأحق بأن يكون لسان هذا الوطن، وهذا نمط الشاعر القديم، أو نمط شاعر حديث كمحمود درويش، يجيء معبرا عن وطن، أكثر مما أن الوطن ذائب فيه. ولكن الموهبة عند الاثنين تخفى هذا الجزء القديم، وترشح الذاتية داخل هذا اللسان الكلي، لسان القبيلة، أو الجماعة الصغيرة.

                   

هناك دين أبوى فى عنقه يجب أن يسدد لهذا الوطن، لهذا المقدس المعرفى والنفسي. بمعنى آخر هناك شعور بالذنب فى شكل علاقته بالوطن، الذى هو بشكل ما، وبالنسبة لمتمرد، يكون الله الآب، أو الرقيب الضمير  الجمعى الذى ينظر إليه ويكتب أمامه. فالعلاقة بالضمير الجمعي، فى شعر أمل دنقل، تحمل فى ثناياها علاقة بالذنب الموزع على حواف هذا الضمير الجمعي، خصوصا  فى لحظة الهزيمة، أو المهانة، أو فقده للآحترام أمام نفسه، كما فى قصيدة «لاتصالح»، والصلح مع العدو، فيجيء الشعر ليعرى هذا الذنب القديم، ويتبنى استدعاء لحظة الطفولة والنقاء، أو طفولة هذا الضمير الجمعى قبل أن يتلوث، أو يهان مُكونَه المقدس.

رغم كلية أفكاره، لايخلو أمل من هشاشة وجودية. رومانسيته ليست أحادية، بل متوارية، مركبة، تفتت كليتها بهذه التفاصيل اليومية والالتفاتات الدقيقة من المعيش الحياتي، والذى كانت جزءا من حداثة صلاح عبد الصبور، الذى صنع صورة داخل هذه التفاصيل ولم تعد فقط تفاصيل، ولكن تحولت إلى مشهد للحياة اليومية الآنية. بجانب حضور لأبطال ووجوه من حياتنا اليومية يملأون فضاء هذا المشهد.قد أكون مخطئا، ولكن دخلت «الآنية» الشعر الحديث فى مصر عبر صلاح عبد الصبور وأمل دنقل، وهو باب جديد ضد مدخل الزمن المطلق أو السرمدى التى كانت تعيش القصيدة.

يأتى الديوان الأخير لأمل دنقل «أوراق الغرفة 8»، وهو الأثير بالنسبة لي، ليؤرخ لشيء مختلف، تصادم الذات مع الموت، بنفس تقنيته اللغوية التى يستخدمها من قبل: السطح الشفاف للغة والتراكيب القليلة، ولكنها ماسة فى العمق، كأن هذه اللغة وليدة عمق إنساني، يمكن أن يجمع النقائض، كما يحتوى الرفض يحتوى أيضا الموت، يحتوى أيضا الاستسلام. بكلام آخر لم يعطل الرفض أدوات الوعى الأخرى للتعبير عن الحياة. وهذه القصيدة عادت من آنيتها للزمن المطلق كتأريخ للموت، الكامن وراء هذه التفاصيل، كانت القصيدة صراعا بين الزمن الآنى والزمن المطلق، حتى انتصر الآخير فى القصيدة، وفى الحياة.

دائما هناك تساؤل من أين يأتى أمل بهذه الرقة، مع هذا الوجه الصادم، صخرى الملامح، كأن «الجنوبي» لكى يفك شفرة حياته، يجب أن يقوم بعمل مزدوج، ليكشف عن هذه الرقة المحجوبة، بأن يحوطها أولا بشيء كلي، حتى يحافظ أمام نفسه على صورة الجنوبى داخله، وداخل زمنه المطلق، بدون أن يغيرها أو تتبدل لأنها جزء أصيل من معرفته عن نفسه وعن إيمانه، وقداسته، فالقداسة هنا مبنية على تمثل الكل.

ثانيا سمح لزمن آخر وهو زمن الطفولة، بالاستدعاء، كما فى فى قصيدة «الجنوبي» وتعريف بفهمه عنه، أو تمايزه، وكشفه لصورته الأخرى الملساء، الآتية من زمن الطفولة، كأنه يفضح رقته بهذه الصورة القديمة.ضمن صورة « الجنوبي» التى يقدمها أمل لنفسه، تجد شخصا رعويا ضد الحداثة والآلة الحاسبة، ولكن الحداثة هنا ترتبط عنده بالحساب والعدد، ولكن وعيه مرتبط أكثر بالايمان والصدق بالمعانى الرمزية وليس برمزية الأرقام الجافة.

بمعنى آخرهناك تجاذب فى شعره بين زمن مطلق وزمن نسبي، ربما هما سبب هذه الرقة أو هذا البوح العاطفى المتناثر فى شعره.

ربما ما يميزأمل دنقل تلك الأدوار التى يقوم بها فى شعره، الجمع بين الكليات والتفاصيل، بين الزمن المطلق والزمن اليومى النسبي، بين الصوت الجماعي، والفردي، بين الصلابة القومية والرقة الانعزالية، بين الرومانسية والذكورة، وبين فردانبة التمرد والاستسلام للحس الجمعي.

وربما أهم مايميزه، أيضا، أنه لم يهاجم طبقة اجتماعية، أو شريحة، كما فعل حجازى أو الأبنودى فى علاقتهم الطبقية بمدينة القاهرة، ولكنه سحب المدينة إلى معنى كلي، وجودي، أبعد من الطبقة الاجتماعية، وهو الجزء الحساس الذى جعل النبرة السياسية المباشرة، مرتبطة بفكرة وجودية، عابرة للطبقة، تختلف عن فكرة الوطن، فالقاهرة ليست تمثيلا للوطن، أو رمزا للتخلي، أو الاستهلاك، أو الخيانة، كما حمَّلها حجازي.

ربما هناك فى شعره، وفى وعيه، أفكار كلية، غير قابلة للترميز الطبقي، يجتمع فيها الله والأب والجنوب والقداسة، والوطن. ويمكن أن نلحظ هنا أن القضية التى كان يدافع عنها، وقت الصلح مع إسرائيل، ليست قضية يسارية من قريب أو بعيد. ربما سيطرة اليسار الثقافي، جعل «الطبقة»، وكل حمولاتها الرمزية، هى المدخل الوحيد لتفسير الخيانة، لذا امتاز أمل بحس وجودى ربما يكون مؤدلجا سياسيا، ولكنه غير طبقي، لذا كان هناك انسجام مع فكرة المدينة سواء القاهرة أو الإسكندرية من قبل التى أقام وعمل بها فى الجمرك.

ربما يكتسب، أمل دنقل أهمية أخرى، ليست نابعة من شخصه، ولكن من التاريخ الذى جاء بعده، هناك تحول جذرى للذات الشعرية التالية على أمل دنقل، أصبح هو وقلة من الشعراء آخر صوت خاص فى تلك السلسلة من الشعراء الرافضين أو الصعاليك، فى الشعر العربي، الذين لهم تصور صادم مع السلطة السياسية، وصنعوا غنائيتهم عبر هذا الصدام. لذا سيتحول الى ‹أثر› هام مع توالى السنوات وإيغال موته. هناك إحساس عام الآن بصعوبة استعادة مثل هذا الصوت مرة أخرى. حدثت ثورة  فى 2011، ولم تظهر هذه الذات الشعرية التى تجمع بين الرفض، والحياة.

وهناك عدة فقرات من هذا المقال كان  تشكل جزءا من قراءة قديمة كتبتها فى ذكرى أمل دنقل من عشرين سنة تقريبا، ونشرت فى أخبار الأدب، وقد قمت بإعادة كتابتها وإضافة خبرة السنوات والقراءات لهذه القراءة القديمة

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة