مصطفى الخلفاوي
مصطفى الخلفاوي


مصطفى الخلفاوي يكتب : الهوية والخط العربي

بوابة أخبار اليوم

السبت، 03 يونيو 2023 - 05:53 م

يعلمنا التاريخ ان الفنونَ هي انعكاسٌ لتحضُّرِالإنسانِ، وتعبيرٌ عن حالةِ العصر أي عصرٍ مهما كانت بساطتُه أو تعقيداتُه، والفنُّ لم يسقط من السماءِ بدون مُقدمات؛ أياً كان هذا الفن.

فالموسيقى التي استُخدِمَت لشحنِ الهممِ في الحربِ والسلمِ وكذلك الفنونُ التشكيليةُ بشتى أنواعها ، والشعرِ والنثرِ، لم يكن وجود كل هذه الفنون عَبثا عبرَ تاريخ الأممِ والثقافاتِ في الماضي والحاضر ،واليومَ، في ظلِّ ما توفره التقنياتُ الحديثة من تواصلٍ غيرِ مسبوقٍ يحتمُ المزامنةَ مع أدواتِ العصرِ، يقفُ المرءُ لحظةً لاستقراءِ مُفرداتِ ثقافتهِ بوعيٍ وإدراكٍ لتطويرها، دون الوقوعِ في شَرَكِ السباحةِ مع تيارٍ جارفٍ لا يحترمُ الثقافةَ الضعيفةَ.

 

والمدرك لحركة التاريخ يعلم أنه حلقاتٌ متصلةٌ، فلقد أثبتت دراساتُ العلماءِ والمُستشرِقين لبعضِ النقوشِ التي وجِدَت كنقشِ النمارةِ، وزبد ، وحرّان ، أن العربَ أخذوا طريقتَهم في الكتابةِ من بني عمومتِهم من الأنباطِ ، الذين كانوا يجاورون أو ينزلون قبل الإسلام على تخومِ المدينةِ في حوران والبتراء ومعان، وكانوا يجاورون العرب الحجازيين في تبوك ومدائنَ صالحٍ والعلافي شمال الحجاز، ولقد وفَدَ الخط إلى شبهِ الجزيرةِ العربيةِ مع التجارةِ من بلادِ الأنباط والحيرةِ التي عرفت فيها القبائلُ الاستقرارَ والتحضرَ، وكان الخط الذي كَتبَت به القبائلُ بدائياً جافاً، ولم يتمكن عربُ الجزيرةِ من تطوير الخط بسببِ انشغالهم بالتجارةِ .

كل هذا التطورِ التاريخي للكتابةِ وانبثاقِ فنها الخطي لم يَعزِل الحركةَ الفنيةَ الجماليةَ عن استنباط واستخلاص الجمال الفني من الحرف ."ورغم أن الفن العربي ذو جذورٍضاربةٍ في العمقِ، وبالرغم من اتصاله في أول الأمر باللغة والتواصل، إلا أن تطورَه واستمرارَه وتنوّعَه قد خَلقَ له جانبا جَمالياً مُهماً، جعلَ الكثيرَ من الحبرِ يُسالُ حولَ اتصالِ جماليتِه بمضامينه، وبالرغمِ من كونِه وظيفياً في المقام الأول، إلا أن هذا لا ينفي عنه الخصوصيةَ الجماليةَ التي تجعلُه يحمل قيماً تعبيريةً وجماليةً مُكثفة؛ مما سَمحَ لأن يتخذَ له مَنهجاً جمالياً مُتنوعاً لم يَبقَ مُتصلاً بالعمارةِ أو بفن الكتاب، فَنَجِدُ أن كثيرا من الخطاطين يكتبون لوحاتٍ خطيةٍ لذاتها، مُحتكمين إلى قواعدَ الخط العربي الصارمةٍ وتقنياتٍ مدروسةٍ في إخراج أعمالهم، مع وجودِ تجديدٍ مُستمرٍ لدى الخطاطين على مستوى العالمِ؛ مما خَلقَ مساحاتٍ إبداعيةً مُهمةً، جعلَت الكثيرَ يحاولون الدخولَ بالخط العربي إلى مجالِ التشكيلِ، وإظهار فن الخطِ كأفقٍ جمالي يُمكنُ العملُ عليه في منظومةِ الفكرِ المُعاصرِ؛ لذلك نجدُ أن الحروفيةَ قد عرفَتْ انتشاراً كبيراً بشكلٍ عامٍ والعالمِ العربي بشكلٍ خاصٍ، وفي مقابل التزامِ الكثيرِ من الخطاطين بالكلاسيكية وقواعدها الصارمةِ، نجدُ الحروفيين قد عمدوا إلى التحررِ من القوالبِ التقليديةِ، ليتماشى فنهم مع روحِ الفكرِ المعاصرِ؛ وليخلقَ مساحةً أوسعَ في تقديمِ هذا الفن إلى العالمِ، والاستفادة من إمكانيةِ تشغيله في مجالاتٍ فنيةٍ أخرى."

 

إن شعوب هذه المنطقة التي خرجت منها حضارات العالم العظيمة قبل الإسلام حافظوا على إرثهم الحضاري وظلوا في حالة تطور مستمر الى ان جاء الاسلام فانصهروا في نسيج متجانس اليوم،  ليشكلو قوة جديدة لا ينقصهم الا قيادة رشيدة تعبر عن حضارة عربية راسخة الجذور،

 

والجمالَ المرئي أو الصورة البصرية في اللغةِ العربيةِ يتضحُ معناها بكلمةٍ تُكتَب بدقةٍ وإحساسٍ فني وخطي ، فتصيبَ المتلقي بالمعنى الصادقِ، إنها الكلمةُ التي يكتُبها الخطاطُ الماهرُ الذي يتفننُ بحروفه، فيخاطبَ عينَ وعقلَ المتلقي، مثلما ينظِمُ الشاعرُ شِعره، أو يرسم الأديبُ إحساسَه بجملته البلاغيةِ،  ولقد اتَّضحَ أن اللغةَ انفتحت على الثقافات الأخرى، حتى وهي في عهدِها الأولِ في بدايات الإسلام، ثم ما لبثت أن انطلقت قوةُ اللغةِ العربيةِ "فأصبَحتْ ذاتَ آفاقٍ أرحبَ لغوياً، بعد أن كانت مُحددةً داخلَ إطارِ التراثِ الشعريّ الجاهليّ؛ فازدهرت المؤلفاتُ بالعربية كما أصبحت هي نفسها أكثرَ ثراءً مِن خلالِ ترجمةِ التراثِ الثقافيّ للأممِ السابقةِ للإسلامِ؛ للاستفادة منه واستلهامه والإضافةِ إليه، خاصةً وأن اللغةَ العربيةَ تتميزُ بثراءِ المترادفاتِ وتنوُّعِها الفريدِ، كما تتميزُ بإمكانياتها اللغويةِ المتعددةِ .

فأضْحت العربيةُ، فيما بعد ، أداةَ العلمِ والثقافةِ الإسلاميةِ في جميعِ أنحاءِ العالمِ الإسلامي في القرونِ الوسطى المظلمةِ في أوروبا حينذاك ، ويؤكد هذا(جورج سارتون) حيث يقول " حَقّقَ المسلمون عباقرةُ الشرقِ أعظمَ المآثرِ في القرونِ الوسطى ، فلقد كُتبَت أعظمُ المؤلَّفاتِ قيمةً وأكثرُها أصالةً وأغزرُها مادةً باللغة العربية ، التي هي - منذ منتصف القرن الثامن الميلادي حتى القرن الحادي عشر- لغةُ العلمِ والارتقائيةِ للجنسِ البشري ، والحق أنه كان ينبغي ، لأي كان، إذا أراد أن يُلمَّ بثقافةِ عصره وبأحدثِ صورها أن يتعلمَ اللغةَ العربيةَ، ولقد فعلَ ذلك كثيرون من غيرِ المتكلمينَ بها.

        وعلى ذلك : " أصبحت العربيةُ ليست فقط مجردَ أداةٍ للتفاهمِ والتواصلِ بينَ البشرِ، بل أيضاً عاملاً من عواملِ الثقافةِ بين أجناسٍ وقومياتٍ ولغاتٍ شتى ، وكوَّنت بِنيةَ الأمةِ في الحضارةِ الإسلامية ، فأصبحت لغةَ العلمِ والفنِّ والثقافةِ، وعكَسَت من خلالِها الفكرَالإسلاميَّ والثقافةَ الإسلاميةَ؛ حتى إن العلماءَ من غيرِ العربِ كانوا يؤلفون إبداعاتِهم باللغةِ العربيةِ إلى جانبِ لغاتِهم الأصلية؛ حتى يضمنوا لكتاباتِهم الانتشارَ عالمياً، ومِن هنا نَجدُ أن اللغةَ العربيةَ وحَّدت كلَّ اللغاتِ المُتعددةِ داخلَ إطارِ الثقافةِ الإسلاميةِ ولم تُلغها، فكان الصيني والفارسي والهندي والتركي والإفريقيُّ يُجيدُ اللغةَ العربيةَ بجانب لغته الأصليةِ حتى يقرأَ القرآنَ ويُقيمَ الصلاةَ، وهما عمادُ الإسلام،وهكذا توحَّدت كلُّ اللغاتِ وذابت بمثابةِ وحدةٍ ثقافيةٍ كُبرى، وثَّقت العُرى بين الشعوبِ، وجمعتْها على اختلاف لغاتها، حيث أصبحت بمثابةِ رابطةٍ ثقافيةٍ حيويةٍ مُتأصلةٍ مُمتدةٍ في طبقاتِ التاريخ."

 

في قلب هذه الحركة الثقافية ظَلَّ الخطَّ العربي أداةَ اللغةِ في مخاطبةِ المُتلقي ورسول الأفكار والمفاهيم ، ولغةَ دواوينِ الدولةِ الإسلاميةِ عبرَ العصورِالأمويةِ والعباسيةِ، والحديثةِ ، ولقد بقى الخطُّ العربي فنٍّا أصيلٍ من اللغةِ ،ولم يقفْ عندَ لحظةٍ تاريخيةٍ متجمدا دون تطور، "فالآباءَ المطورين للحرفِ العربيِّ- إنْ جازَ التعبيرُ- ما صاروا آباءً له لو تَمسّكوا وانصرفوا لكل ما هو قديم، ولَمَا صارَالحرفُ يُكتَبُ بأنواعٍ وأساليبَ وجمالياتٍ يختلفُ الواحدُ عن الآخر في النوعِ وفي الشكلِ الذي يحاكيه الحرفُ ، بل إنهم انحازوا للجمالِ الذي يفرضُ نفسَه، والخدمةِ التي يؤديها الخطُّ العربي. كما يراها الخطاط خالد الجلاف

 

  والجمالُ في الخطِّ هوالنشاطُ الفني المُبكرُ الذي دفعَ الخطاطَ للتجديدِ، والابتكارِ،والإضافةِ، والحذفِ لبعضِ الحروفِ عبرَ حقبٍ زمنيةٍ مُختلفةٍ، فالجَمالُ الفني هوالعنصرُ المؤكِّدُ على قدرةِ الخطاطِ بإنشاءِ جملتهِ المرئيةِ بمُفرده مِن أجل الجماعة البشريةِ، إنه حتما نشاطٌ فني مبهِرٌ لنقلِ الصورةِ للمُتلقي بجلاءٍ، كما إنه الإدراكُ البصري للكلمةِ في أجلِّ معانيها، وهو أحد تجلياتِ الفنّ الإسلامي عبرَ العصور،

والخط العربي له اعتبارُه وقيمتُه الجماليةُ والمعرفيةُ، يعرفها الشرقُ والغربُ ،وما يحمله من دلالةٍ تُعلي مِن قيمةِ الهويةِ الثقافيةِ؛ لتكونَ هي الواجهةَ البصريةَ للمفهومِ اللغوي. فثقافتُنا العربيةُ وفنونها ضاربةٌ في التاريخ وهي اللُغةٍ والثقافة ذاتِ الشأنٍ العظيمٍ.

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة