نجيب محفوظ
نجيب محفوظ


المؤرخون أبدعوا فناً متميزاً فى الترجمة والحكاية التاريخية

الفن الإسلامي القديم بوابة نجيب محفوظ للعالمية

آخر ساعة

الإثنين، 05 يونيو 2023 - 11:30 م

■ كتب: حسن حافظ

يقدم نجيب محفوظ تجربة شديدة الخصب والتجدد فى التعامل مع التراث، فالرجل الذى عاش فى أحد أعرق أحياء القاهرة الشعبية، عرف كيف يستوعب التراث بكل طبقاته خصوصا العربى الإسلامى منها، فالرجل الذى نهل من الثقافات الغربية لم يدر ظهره أبدا لتراث بلده القديم والوسيط، وأحد أوجه استفادة النجيب من التراث تجلت فى تعامله العبقرى مع التراث العربي، عندما وجد فى فن التراجم الإسلامية، وهو يندرج تحت باب الكتابة التاريخية، إمكانات روائية هائلة فنهل منه واحدة من أمتع رواياته وأكثرها شهرة.

◄ محفوظ استعار الترتيب الأبجدي من كتب التراجم فى «حديث الصباح والمساء»

علاقة نجيب محفوظ بالتراث نموذجية فهو لم ينسحق أمام التراث فيعد مقلدا بلا جديد، ولا انسلخ منه فيعد متفرنجا بلا جذر، بل هضم هذا وهضم ذلك، لذا نوافق المفكر العربى والناقد الأدبى جورج طرابيشى فى أن نجيب محفوظ الوحيد الذى نجا من مأزق ثنائية الأصالة والمعاصرة، لذا نجد صاحب نوبل يلمس بذكاء نادر مواضع القوة فى التراث ويعيد تمثلها فى أشكال حداثية معاصرة بدون أى ادعاء أو افتعال، وهو ما فعله فى روايته (ليالى ألف ليلة)، وروايته الاستثنائية (حديث الصباح والمساء) الصادرة فى العام 1987.

تعد رواية (حديث الصباح والمساء)، رواية أجيال فهى تحكى قصة خمسة أجيال لثلاث أسر تتداخل حيواتها ويمتزج مصيرها، وهى عائلات يزيد المصرى ومعاوية القليوبى وعطا المراكيبى، وذلك عبر 66 شخصية على مدى زمنى يبدأ من زمن الغزو الفرنسى لمصر 1798م، حتى ثمانينيات القرن العشرين، وهى رواية مسكونة بتيمة الموت والحياة أى الصراع بينهما، أو إن شئنا الدقة العلاقة الدائرية بينهما، فمن قلب الموت تولد الحياة التى سرعان ما تستسلم إلى الموت وهكذا دواليك، حتى هنا تبدو الرواية من روايات الأجيال التقليدية التى عرفها الأدب المصرى والعالمى فى الكثير والكثير من الروايات، لكن غير العادى أن نجيب محفوظ لجأ إلى حيلة تراثية، إذ كتب قصص شخصيات الرواية بترتيب أبجدى بحسب اسم كل شخصية، فتجد يزيد المصرى فى حرف الياء أى آخر فصول الرواية وفقا للترتيب الأبجدى للحروف، فى حين أنه مؤسس الأسرة التى تدور حولها الأحداث.

◄ اقرأ أيضًا | حاتم السروي يكتب: تراجيديا سيزيف بين السينما والرواية

هذه الحيلة الأدبية التى نقلت رواية (حديث الصباح والمساء) إلى مصاف الأعمال الخالدة، لم يمكن أن توجد بهذا الشكل إلا بالرجوع إلى التراث العربى، فهذه الرواية تكشف عن مدى تشبع النجيب بالتراث العربي الإسلامي بجوار هضمه للتراث المصرى القديم، فصاحب الثلاثية استخدم حيلة الترتيب الأبجدى لقصص شخصيات رواية (حديث الصباح والمساء)، من فن التراجم وهو فن ازدهر فى مجتمعات المسلمين فى العصور الوسطى، الذى يقوم على تقسيم الشخصيات التى يكتب المؤلف سيرتها الشخصية، وهى عادة شخصيات تاريخية أو أدبية أو دينية بحسب الترتيب الأبجدى، فيأتى تحت حرف الألف من اسمه أحمد، وتحت حرف الميم من اسمه محمد، وتحت حرف العين كل من اسمه عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم إلخ، وهى نفس التقنية التى استخدمها نجيب محفوظ فى بناء روايته.

خرجت كتب التراجم لتساعد من يريد معرفة نبذة مكثفة تلخص حياة أحد المشاهير، أى أنها تركز على الشخصيات لأنها المقصودة فى مثل هذه الكتب التى قد لا تقرؤها كلها، فقط تقرأ ما يتعلق بالشخصيات التى تبحث عنها، وقد استخدم نجيب محفوظ هذه التقنية ذاتها لرواية قصة أسرة بأجيالها الخمسة لكى يؤكد على فلسفته وهى أنه لا يقدم هنا عملا تاريخيا، وهو ما كان سيدور بخلد القارئ فور قراءته لقصة الأسرة لو رُتِّبت تاريخيا بحسب السياق الزمنى للأحداث، فإعادة فك الرواية وترتيبها زمنيا سيجعلنا نقف على بعض أفكار نجيب محفوظ ونظرته لتاريخ مصر فى العصر الحديث، ولكن التاريخ الأبجدى يمكِّن النجيب من سحب تركيز القارئ حول الشخصيات الإنسانية التى يتفاعل معها باعتبارها شخصيات ونماذج قد يقابلها المرء فى حياته اليومية حيث تدور ملحمة الصباح والمساء أو الحياة والموت، فالبداية مع الحفيد ونهاية الرواية مع المؤسس الأول فى النهاية.

السير العكسى يبدو أن نجيب محفوظ قد استعاره من أحد أهم كتّاب كتب التراجم فى تاريخ المسلمين، وهو القاضى ابن خلكان الذى تُوفى سنة 1282م، فالرجل قدم كتابا بديعا فى التراجم العامة بعنوان (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان)، الذى أثار انتباه الكثير من بعده لهذا الفن البديع فى التراجم الموجزة، فنرى سلسلة من الكتب تأتى لتستكمل هذ العمل، فجاء الصقاعى بكتابه (تالى كتاب وفيات الأعيان)، ورأى ابن شاكر أن يستدرك على ابن خلكان ما فاته فجاء كتابه (فوات الوفيات)، ثم جاء ابن أيبك الصفدى وبنى على كتاب ابن خلكان كتابه (الوافى بالوفيات)، وهو أكبر وأهم كتاب فى التراجم العامة ويقدم سياحة واسعة فى تاريخ المسلمين وحضارتهم حتى منتصف القرن الرابع عشر الميلادى، ثم جاء أبو المحاسن ابن تغرى بردى بكتابه (المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى)، ليختتم هذه السلسلة، وإن ركز على تراجم رجالات العصر المملوكى، كما قدم العلامة المقريزى كتابه (المقفى الكبير) فى تراجم كل من دخل مصر فى العصور الإسلامية، وكتابه (درر العقود الفريدة فى تراجم الأعيان المفيدة) فى كل من عرفهم وعاصروه وماتوا فأحب أن يخلد ذكراهم.

نلاحظ هنا أن هذه النوعية من الكتب تعتمد على نفس فلسفة رواية (حديث الصباح والمساء)، فالترجمة للمشاهير تبدأ بذكر الميلاد ثم نبوغه ومسيرة الحياة ثم الوفاة، أى هى ذاتها فلسفة الصباح والمساء، والمدهش أن ابن خلكان فى كتابه سابق الذكر كان يعمل فى بعض الحالات عندما يترجم لشخصية معينة أن يترجم فى نفس الترجمة لبقية أفراد أسرته، نزولا من الحفيد وصولا إلى الجد الأكبر، وقد شدت هذه الاستعارة الفنية العبقرية من نجيب محفوظ عددا من الباحثين الذين تحدثوا عن توظيف صاحب نوبل للتراث بشكل مبدع وخلاق، نجد منهم ماجد مصطفى فى دراسة بعنوان (من أشكال السرد التراث فى حديث الصباح والمساء) الذى خلص فيها إلى أن «نجيب محفوظ منذ بداياته الأولى يبحث عن الأصالة والإبداع والتجديد، فى الأشكال أو الأفكار على السواء، ومن هنا جاءت محاولاته الدؤوب للخروج من سيطرة الأشكال التقليدية للسرد الروائى، وقد تمثل إحداها فى روايته (حديث الصباح والمساء).. هو يسعى طوال الوقت ومنذ اللحظة الأولى نحو تحقيق مشروعه الفكرى المرتبط بظروفه التاريخية والحضارية والثقافية والاجتماعية والفلسفية».

بينما يحلل الدكتور محمد عبدالرازق المكى فى بحثه (تقنيات الزمن السردى فى رواية حديث الصباح والمساء لنجيب محفوظ) قائلا: «اختار محفوظ لنفسه تكنيكا مميزا يمنح القارئ مساحة أكبر من الحرية فى التعامل مع أحداث الرواية، إذ يستطيع القارئ تتبع أحداث الرواية، والربط بينها لاستخلاص ملامح كل شخصية وفهم التسلسل المنطقى للأحداث، فالشخصية الواحدة يرد الحديث عنها فى غير موضع، وأن يجد القارئ متعة فى تتبع كل شخصية عبر فصول الرواية المختلفة».

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة