كنوز الريحاني في مرآة طه حسين ومحمد عبد الوهاب وعباس العقاد
كنوز الريحاني في مرآة طه حسين ومحمد عبد الوهاب وعباس العقاد


كنوز «الريحاني» في مرآة طه حسين ومحمد عبد الوهاب وعباس العقاد

عاطف النمر

السبت، 10 يونيو 2023 - 06:02 م

تحل علينا الذكرى الـ74 على غياب عملاق الكوميديا نجيب الريحاني، الحاضر بأفلامه وسيرته ومدرسته التي تتلمذ فيها كبار نجوم الضحك.

وسيظل الرجل حيًّا في ذاكرة عشاقه برغم طعنات الادعياء، وأحدهم على سبيل المثال صدر له كتاب وصف فيه الريحاني - دون أدنى خجل - بأنه فاشل، وزعم أنه لم يحقق أي نجاح في حياته ! وشكك الجهلاء في مصدريته، فمنهم من ادّعى أنه من أصول يهودية! مع إنه من مواليد حي الضاهر من أم مصرية وأب من أصول عراقية حصل على الجنسية المصرية، لم يتركوا نقيصة لم يلصقوها به، وكل مأفون منهم تعامى عن كل ما كُتب عنه من شهادات الإنصاف من عمالقة الفكر والأستاذية. 

في ذكرى وفاة نجيب الريحاني.. لقطات من حياة «الضاحك الباكي»

ها هو عميد الأدب العربي د. طه حسين يكتب مقالاً بمجلة «الكاتب المصري»، عدد مايو 1946 عن مسرحية «سلاح اليوم»، نقتبس منه الجزء الذى قال فيه: «الأستاذ الريحاني معلم يلقى دروسه الاجتماعية والخلُقية على المصريين من أكثر من ربع قرن، وهو في الوقت نفسه صاحب فكاهة رائعة حلوة مرة في وقت واحد، يسلى المصريين عن همومهم وأحزانهم العامة والخاصة، فليعرف المصريون له ذلك وليقدروه حق قدره وما أراهم يفعلون، وإنه لمن المؤلم حقًّا أن ينفق الأستاذ الريحاني حياته كلها معلمًا للمصريين ومسليًا لهم عن الهموم والأحزان، وأن يؤثر على المصريين أنفسهم بدروسه وفكاهته دون أن يجد من الدولة عنايةً أو تشجيعًا، والغريب أن الدولة تفكر في إنشاء جامعة شعبية، ولتعذرني الدولة إذا قلت إن مسرح الأستاذ نجيب الريحاني هو قسم من أقسام هذه الجامعة».

وعندما رحل الريحاني نشرت الصحف الرثاء الذى كتبه د. طه حسين وقال فيه:- «مهما يبكى المصريون هذا الرجل العظيم، ومهما يأْسون لفقده ويحزنون لفراقه فلن يوفوه من حقه إلا أهونه وأيسره، إن هذا الرجل الذى مات ولم تتقدم به السن إنما أهدى صحته وراحته ودعته وعافيته ونفسه وجسمه إلى مواطنيه، وأهدى إليهم كل هذا في غير تكلف ولا تصنع ولا تكبر ولا مَنّ، وإنما كان كالشمس يرسل فنه إرسالًا فترضى النفوس وتطمئن القلوب وتسترد الضمائر ثقتها بالحياة كما ترسل الشمس ضوءها وحرارتها فتملأ الأرض حياة ونشاطًا وبهجة»، صدق عميد الأدب العربي.. وليس بعد كلام العميد ما يشرح أو يوضح أو يزيد. 

أما عملاق الأدب العربي، عباس محمود العقاد الذى لم يكن يعجبه العجب، ولم يكن يكتب إلا ما يؤمن به ولو خالف الجميع، فقد رثى «الريحاني» في مقال بعنوان «رجل خُلق للمسرح» نشرته «الكواكب» ونقتبس منه الفقرة التي يقول فيها: - «إنك لا يمكن أن تتخيله في عمل آخر غير عمله المسرحي، فهو على المسرح كالسمكة في الماء، دخوله إليه وحركته عليه، وكلامه، وسكونه، وإيماؤه، وقيامه، وقعوده، طبيعة من صميم الطبيعة تُنسيك كل تكلفٍ يحتاج إليه الفنان حتى ينتقل من العالم الخارجي إلى عالم الرواية والفن».

وعلق موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب على رثاء العقاد بمقال بعنوان «رجل خُلق للسينما» قال فيه: «بوسعي كفنانٍ زامل الأستاذ نجيب الريحاني في آخر عملٍ فنيٍ له وهو فيلم «غزل البنات»، أن أقول في ثقة وحماسة وتأكيد أننى لا أتخيل الريحاني إلا مظلومًا على المسرح، لأن خشبة المسرح كانت تسرق الكثير من عبقرياته لتدفئها في جو محدود، وتطويها دون أن يشعر بها أحد، فالريحاني وجه صارخ الملامح، ناطق الرحمة، تكاد كل خلجة فيه تبرز قصة بليغة صامتة، وله لمحات تطفر من عينيه يسجل فيها أروع أحاسيس الفنان الملهم».

اختلف الكاتب الكبير يحيى حقي مع من أطلقوا على الريحاني لقب « الفيلسوف الساخر»، وتضامن معه الشاعر صلاح عبد الصبور، مع أن الريحاني رفض في حياته هذا اللقب، ويؤكد ذلك الكاتب نعمان عاشور عندما التقاه في مقهى «فينكس» بشارع عماد الدين، وكان لا يزال طالبًا بالجامعة، وأبدى للريحاني أنه متيم بما يقدمه في مسرحياته، فسأله الريحاني عما يعجبه فيها، فقال نعمان: «مسرحياتك يا أستاذ فيها حاجات كتيرة من اللى بتحصل فى حياتنا»، ضحك الريحاني قائلا: «الغريب أنهم بيقولوا عليّ فيلسوف وأنا لا فيلسوف ولا حاجة»، فقال نعمان: «أنت مصلح اجتماعي»، ضحك الريحانى قائلا: «لا.. أنا مضحك اجتماعي»، ومن هذا الحوار يتضح أن الريحاني رفض أن يقال عنه «فيلسوف» واصفاً نفسه بالمضحك الاجتماعي.

وانتقد يحيى حقي شخصية «كشكش بك» التي اشتهر بها الريحاني وصنعت نجاحه، وأوضح الناقد محمد فكرى في كتابه «المسرح والكوميديا من نجيب الريحاني إلى اليوم» أن شخصية «كشكش بك» عمدة كفر البلاص الذى أتاحت له الظروف أن يتسيد ويغتنى ويمتلك آلاف الأفدنة، فجمع بذلك عرق الفلاحين وراح يريقه في ملاهي أوروبا والقاهرة، ويقدمه لقمة سائغة للسماسرة والمضاربين في بورصة القطن، هو نموذج لابد أن يُعاقب فنيًّا، لأن الكوميديا دائمًا هي وسيلة العقاب، والريحاني الفنان المغامر «المتصعلك» الذى انصهر في بوتقة مجتمع المدينة ومجتمع القرية، أدرك بحسه الكوميدي البحت أن «كشكش بك» نموذج كوميدي جيد نجد وراءه المغزى الأخلاقي في ندمه وتوبته التي أظهرها الريحاني في كل العروض المسرحية التى تناول فيها هذه الشخصية، وقام بتعريتها وفضحها وكشف سلوكها المرفوض وصولًا لحالة التطهير والتطهر التي تتحقق بالأسلوب الكوميدي الضاحك.. ستظل قيمة عملاق الكوميديا نجيب الريحانى فى ديمومة مستمرة بالاتفاق والاختلاف على ما قدمه من أعمالٍ طرح فيها رؤاه التي انحاز فيها للبسطاء وعالج بها متناقضات المجتمع بصيغ فلسفية شعبية بسيطة، وناضل في بعض عروضه ضد الاحتلال والفساد وخرج على رأس نجوم فرقته للشارع فى ثورة 1919، وسيظل الريحاني يضحكنا ولا يضحك علينا مثلما يفعل ادعياء اليوم الذين يقدمون لنا «خزعبلات» بلا معنى اجتماعي أو أخلاقي.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة