حمدى أبو جليل
حمدى أبو جليل


عبدالله العقيبى يكتب : صوت «الجماعة» فى السرد المصرى

أخبار الأدب

الجمعة، 23 يونيو 2023 - 12:33 م

جاءتنا نسخة واحدة من رواية الفاعل لحمدى أبو جليل فور حصوله على جائزة نجيب محفوظ، كانت مهترئة تمامًا عندما وصلت إلىّ، وأذكر تمامًا الجدل الكبير الذى دار بين أفراد شلتنا الأدبية، التى ينتمى معظم أفرادها من حيث التكوين القبلى إلى بادية الحجاز، جهينة وحرب تحديدًا، كنَّا سعداء بحمدى وذيوع أدبه لسببين، الأول لأننا نعرف هذا العالم الذى نقله أبو جليل إلى الأدب دون تدخلات ثقافية ممجوجة، حتى على مستوى اللغة، كتب ما نسمعه ونحتك به يوميًا ، من خلال عمال البناء الذين كانوا يعملون مع آبائنا، كانوا الوحيدين من الجالية المصرية التى تعيش فى المملكة الذين دخلوا بيوتنا وحضروا أفراحنا، بمعنى المشاركة كذات لا كآخر، لعل ذلك كان بسبب مفهوم الرجولة عند باديتنا التى تتماس كثيرًا وترتاح للمشابه، حتى باتت المسألة أكثر من احتكاك، صارت مصاهرة ورحلات متبادلة من وإلى مناطق بدو مصر.

السبب الثانى هو نوع هذا الأدب، بأدواته الفنية وموضوعاته، أذكر هنا استقبالًا مشابها لتجربة أخرى، هى تجربة الكاتب مُسعد أبو فجر، الذى تميز عن حمدى أبو جليل عند شلتنا بأمور أخرى، من أهمها الألفة فى اسمه المتداول بكثرة عندنا (مُسعد بضم الميم)، ومن ثم لهجته البدوية التى تشبه لهجة آبائنا إلى حد بعيد، ولعل هذه الفرحة بهما جاءت مفاجئة فى ظل انشغالنا بالأدب المترجم، بالأخص أدب أمريكا اللاتينية، وكأننا بحصولنا على نسخة مصرية منا نحن بدو الحجاز انتبهنا إلى إمكانية وجود سرديتنا المحلية داخل خارطة الأدب العربي.

اقرأ ايضاً| محمد سليم شوشة يكتب : صاحب الصوت الجسور.. المغرد سردًا

ومن هنا جاء الجدل الكبير الذى حصل بعد ذلك، جدل جاء فى معظمه على هيئة رصد للتقاطعات، وأظن أن هذا الجدل كان مهماً للغاية لأنه شكل صدمة حتى داخل الأدب المصرى نفسه، الذى غلب عليه سردية الفلاح مقابل سردية البدوي، ليس من باب التفاضل بين السرديتين، بل من باب الوجود نفسه، هذا تقريبًا ما حصل لنا مع تلقى تجربة ميرال الطحاوى كذلك، فهناك نسبة تقاطع بين سردية البدو هنا وهناك، كما توجد نسبة انتماء لا يمكن إنكارها، ربما ينظر إليها البعض على شكل انتماء طفولي، لكنها فى العمق ليست كذلك، فسماع أصوات الجدات وحكايات الآباء نفسها فى مكان آخر، له لذة استقبال خاص وفريد من نوعه، لا يمكن تناوله على الدوام من مبدأ التلقى السلبي.

وفى الفترة التى نشط فيها حمدى أبو جليل وكذلك مُسعد أبو فجر على الفيسبوك بعد الثورة، كنت أتابع بشغف كبير بثوثهما، وعلى ما كان فيها من شطحات مثقفين، كنت أستلذ بها، بسبب اللهجة والطريقة فى الكلام ومخارج الحروف، أستمع إليهما وكأننى أستمع إلى حواراتنا مع أبناء عمومتنا فى المناسبات، بنفس العفوية والدفش بالكلام، خلافًا لما يتميز به باقى المثقفين والكتاب فى مصر، من لطف وعناية وانتقاء للكلمات، وكنت أسأل نفسى دائمًا عن علاقتهما بالمثقف المصري، ومدى قبوله لهذا الصوت المختلف أو الغريب بالنسبة للسائد، الذى أعده بشكل من الأشكال صوتنا داخل السردية المصرية، وعن علاقة هذا الصوت بالمؤسسات الرسمية، أسئلة من هذا النوع كانت ستكون محور حديثى مع حمدى أبو جليل لو أن الفرصة سنحت لى بلقائه، لكن حمدى (شرد) إلى الأبدية قبل حدوث ذلك، ويبقى السلوان الشخصى لى فى حضور صوته الفريد فى السرد العربي، كمعادل لصوت (الجماعة)، وصورتهم التى كان أمينًا فى نقلها.

*الجماعة فى لهجة بادية الحجاز تعنى العشيرة أو القبيلة، فإذا قيل الجماعة فذلك يعنى جماعتي، فالتعريف هنا يحل محل ياء النسب.             

عرفت الكاتب القدير والفنان الكبير حمدى أبو جليل عن قرب وأدركت ذلك التماهى الانسانى والفنى الخلاق بين شخصيته والنص الذى يكتبه. شخصيته تشبه النص الذى يكتبه، نص أدبى حر ومنطلق وشجاع وممتع بلغته السلسة وأدبه الرفيع بلا تكلف أو افتعال أو تمثيل أو مبالغات. نص أدبى واضح وذكى ومرن ومفتوح الرحاب على أنماط مختلفة من الكتابة الحديثة والتقليدية الأصيلة. وحمدى أبو جليل فى شخصيته واضح وذكى ومرن فى تقبل وجهات النظر المختلفة ولا يوجد عنده قرار صارم فى مسألة فنية أو رؤية تتجدد وتتغير فى النص الأدبى وفى الكتابة بشكل عام، رغم أنه يقدم رأيه الجاد أحيانا بشكل حاد وصارم لكنها الحدة والصرامة الموقتة التى تتراخى احتراما لرأى مختلف. حين يتحدث حمدى أبو جليل أو يستمع تصحبه دائما ابتسامة صغيرة وخفيفة واقفة ومستمرة، تقطعها أحيانا كلمة أه التى تعنى وصول الفكرة له بغض النظر عن اتفاقه أو اختلافه معها، وهذه الابتسامة لا تتغير حين يتحدث أو يقدم لرأى جديد أو مختلف عن رأيك، إنسان واضح وذكى وصريح ولا يعرف أساليب التذاكى أو المكر أو ادعاء وتمثيل العفوية والصدق وهى ربما الصفات السلبية التى تحولت للأسف إلى عدوى انتشرت فى حياتنا العربية عامة باعتبارها دليل ذكاء وهى فى الواقع دليل قلة وعي.

تعرفت على أدب الصديق الراحل من طريق روايته الأولى «لصوص متقاعدون» ثم تعرفت عليه شخصيا فى شوارع وسط البلد بالقاهرة ومنها قطعنا شوارع القاهرة لنزور أصدقائه فى الشوارع الصغيرة الخلفية أو فى فيصل أو فى الزمالك. آخر لقاء بيننا كان فى مقهى بالزمالك 2010، وكان الحديث عن تحولات وتجدد الرواية فى العالم العربى وتنوعها ومنها رواية «صديق قديم جدا» للكاتب الكبير الراحل إبراهيم أصلان وكانت فصولها تنشر أسبوعيا فى الأهرام فى ذلك الوقت. ثم قرأت له فيما بعد رواية «قيام وانهيار الصاد شين» وأخير روايته البديعة التى صدرت مؤخرا بعنوان «يدى الحجرية» وهى التى عمقت فن التخييل الذاتى الرفيع والمبدع فى أدب حمدى أبو جليل، كتابة تعمق قيمة ومعنى المكان وحكاياته وناسه وأحداثه ومراحله المتعاقبة، فهو لا يكتب إلا ما عايشه فى حياته من أحداث وحكايات وشخصيات دون الحاجة إلى اختراع حكايات وشخصيات أو تلفيق أحداث.

حمدى أبو جليل حين يكتب القصة أو الرواية أو حتى المقالة أو الرأى فإنك تشعر بعذوبة تسحبك إلى نهاية النص، بغض النظر عن درجة إعجابك بموضوع النص. عذوبة لا تعرف مصدرها. هل هى من اللغة أو من الأسلوب أو من الموضوع الذى كتب بهذه الطريقة أو هذه الكيفية، أو من كل هذه الأمور التى تعبر عن كاتب ممتع له شخصية فنان مبدع لا يفتعل ولا يتكلف ولا يبالغ. يتحدث أو يكتب المقالة بطريقته القصصية الممتعة وهذه منطقة إبداعه ولاحظنا هذا فى مقالاته وفى كتابه «القاهرة شوارع وحكايات».

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة